شهدت العاصمة الكمبودية بنوم بنه على مدار أربعة أيام سلسلة من اجتماعات القمة فيما بين دول الآسيان العشر في قمتيهم الأربعين والحادية والأربعين، وبينهم وبين شركاء الحوار فرادى أو مجتمعين. وفي ظل كثافة تلك الاجتماعات برزت العلاقات مع الصين عبر الإعلانات التي تناولت قضايا محددة منها الأمن الغذائي والتنمية المستدامة وبحر الصين الجنوبي. والقضية الأخيرة موضع خلاف بين الصين وعدد من دول الآسيان.
وقد مر على توقيع إعلان يحدد الخطوط العريضة بشأن التعامل معها عشرون سنة. فما الجديد الذي توصل إليه الطرفان في كمبوديا؟، وإلى أي مدى ستؤثر هذه القضية على علاقات الجانبين مستقبلاً، خاصة في ظل الأدوار الخارجية فيها؟ كما أن البيئة الإقليمية تشهد تفاعلات كثيرة بعضها آت من قوى عالمية أخرى تعلن صراحة استهداف الصين، وتسعى جاهدة لضم أكبر عدد ممكن من جيران الصين إلى تلك الجهود. فكيف ستؤثر تلك المساعي على العلاقات بين الصين ودول رابطة الآسيان؟
شركاء متشاكسون
بمطالعة قائمة شركاء الحوار مع رابطة أمم جنوب شرقي آسيا (الآسيان) يلاحظ وجود أحد عشر شريكاً. وهم يختلفون عن شركاء الحوار القطاعي، وشركاء التنمية. وهي صيغ ثلاث تحكم علاقات الدول فرادى برابطة الآسيان كتجمع إقليمي. القائمة الأولى موضع الاهتمام هنا تضم كلاً من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلندا والهند واليابان وكوريا الجنوبية والصين.
واشنطن وبكين منخرطتان في إدارة تنافس هو أقرب إلى الصراع في جوانبه الاستراتيجية. فالولايات المتحدة لم تعد تخفي التخوف من الصعود الصيني المتواصل، والذي تراه مهدداً للنظام الدولي القائم على القواعد. ومن جانبها، فإن الصين تتهم الولايات المتحدة بالسعي إلى استمرار الهيمنة وتتصرف بعقلية الحرب الباردة. وعلى سبيل المثال، في قضية الخلافات التجارية تطورت المسألة من اتهامات أمريكية للصين بتعمد تخفيض قيمة عملتها، وما أطلق عليه أمريكياً سرقة فرص الوظائف الأمريكية، وانتهاك حقوق الملكية الفكرية. وظلت الأمور تتصاعد إلى أن وصلت إلى مرحلة "الحرب التجارية" في ظل إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
الصين لديها الردود الشافية من وجهة نظرها على الاتهامات والإجراءات الأمريكية. ويكفي أنها كانت تقول إنها لا تريد الحرب التجارية لكنها مستعدة لها وسوف ترد. وهذا ما حدث بالفعل. كما أنها لم تقصر في اتهام الولايات المتحدة بتجاوز قواعد حرية التجارة، واتباع نهج الحمائية. وفي فترة من الفترات باتت الصين من أكبر المدافعين عن العولمة خاصة في شقها الاقتصادي.
يمكن أن تضاف قضايا كثيرة منها النظام الدولي القائم وقواعده، والديمقراطية وطبيعتها ونماذجها، وقضايا حقوق الإنسان. والقضية الأكثر حساسية ممثلة في تايوان وحدود علاقات الولايات المتحدة بها على ضوء سياسة الصين الواحدة، التي تذهب بكين إلى أن واشنطن باتت تتلاعب بالكلمات بخصوصها، وأن تصرفاتها لا تنسجم مع جوهر الاعتراف الأمريكي والعالمي بسياسة الصين الواحدة.
يدخل في هذا السياق أيضاً الترتيبات الأمنية التي تقودها الولايات المتحدة في المنطقة سواء مع كل من الهند واليابان واستراليا (كواد) أو مع كل من استراليا واليابان وبريطانيا (أوكوس). وهنا يلاحظ أن كل أطراف هذه الترتيبات من ضمن شركاء الآسيان. كما تسعى واشنطن إلى ترتيبات مشابهة في مجال التكنولوجيا وخاصة الرقائق الإلكترونية.
لا تقف الخلافات الأمريكية-الصينية عند ذلك الحد، وإنما هناك واحدة من القضايا المهمة في علاقات بكين بدول الآسيان، وهي المتعلقة بخلافات بحر الصين الجنوبي، وهي خلافات ترى بكين أن أطرافها يمكنهم تسويتها دون تدخل خارجي، وأن هذا التدخل يزيد من تعقيد الأمور. وليست الولايات المتحدة وحدها التي باتت تبدي مواقف لا تروق للصين في هذا السياق، وإنما تضاف إليها كل من اليابان واستراليا وبريطانيا وإلى حد ما الاتحاد الأوروبي.
ما يجري بين روسيا والغرب منذ سنوات ليس بخافٍ، والذي ازداد حدة مع اشتعال الحرب في أوكرانيا أوائل العام 2022. وتقريباً فإن روسيا في جهة وكل شركاء الآسيان الآخرين في جهة مضادة باستثناء كل من الصين والهند. والخلافات بين كل من الصين وكوريا الجنوبية من ناحية واليابان من ناحية أخرى مستمرة ومتواصلة، وإن اختلفت في بعض جوانبها.
لا يعني هذا أن كل العلاقات بين شركاء الآسيان يغلب عليها الخلافات. فحتى الدول المختلفة بينها علاقات تعاون، وترتيبات تحكم هذا التعاون ليس فقط على الصعيد الثنائي وإنما على الصعيد الجماعي في بعض الأحيان. من ذلك على سبيل المثال صيغة التعاون في شمال شرقي آسيا والتي تضم كلاً من الصين واليابان وكوريا الجنوبية. وهذه الدول الثلاث تجمعها صيغة تعاون جماعية مع رابطة الآسيان إلى جانب الصيغ الثنائية تتمثل في صيغة الآسيان + 3، وتجمع بريكس الذي يضم كلاً من الصين والهند وروسيا إضافة إلى البرازيل وجنوب أفريقيا. وهناك صيغة أخرى للتنسيق بين كل من روسيا والصين والهند. يحدث ذلك رغم الخلافات الكبيرة بين الصين والهند.
رغم كل هذه التباينات بين شركاء الآسيان، إلا أن الرابطة استطاعت الاحتفاظ بعلاقات جيدة معها كلها، ولم تقع في فخ الاستقطاب كتجمع. وإن كانت توجد بعض التباينات في مواقف بعض أعضائها من آن إلى آخر وفي بعض القضايا، بما في ذلك القضايا الخلافية مع الصين. وعلى سبيل المثال، فإن الموقف السنغافوري من الحرب في أوكرانيا أقرب إلى الموقف الأمريكي الغربي، ولذلك تبرز سنغافورة ضمن قائمة الدول التي اتخذت روسيا حيالها إجراءات مضادة للإجراءات العقابية التي اتخذتها تلك الدول. والفلبين في فترة من الفترات كانت تصعد بالنسبة لخلافها الحدودي البحري مع الصين، ولجأت إلى التحكيم. لكن الأمور عادت إلى التهدئة.
ما كان ذلك ليكون لولا أن رابطة الآسيان باتت موضع جذب لكل تلك القوى. وما كان ذلك ليكون لولا أنها قد قطعت أشواطاً كبيرة في تجربتها التكاملية التي وصل عمرها إلى الخامسة والخمسين. وباتت مركزاً للإقليمية التقليدية وغير التقليدية في المنطقة. كما أنها إلى جانب ذلك تقدمت كثيراً بالنسبة لمؤشرات التنمية، وبات سوقها الضخم البالغ حوالي 700 مليون نسمة مهما. ومع ذلك فإن أمامها الكثير في التجربة التكاملية وفي التجارب التنموية. ومن ذلك الفجوات في التنمية سواء بين أعضائها أو داخل بعض دولها. بالإضافة إلى قضايا شائكة في واحدة من أعضائها يستعصي التعامل معها حتى من قبل باقي الأعضاء. والمقصود هنا تحديداً ميانمار.
مشاكسات الشركاء قد تكون مفيدة لرابطة الآسيان أكثر من ضررها طالما ظلت الرابطة نائية بنفسها عن الانحياز لطرف ضد الآخر. كما أن عوامل الجذب لديها تجعل هؤلاء الشركاء يتنافسون فيما بينهم من أجل تقوية العلاقات بالرابطة بما في ذلك برامج الدعم والمساعدات.
لماذا الصين في المقدمة؟
ثلاثة عناصر رئيسية تجعل الصين تأتي في مقدمة شركاء الآسيان: الجوار الجغرافي، ومواصلة الصعود الصيني، والدرجة العالية من الاعتماد المتبادل. فالصين تجاور بعض دول الآسيان برياً وتربطها تدفقات مياه الأنهار، ومن ثم توجد طرق برية، ونقاط حدودية تسمح بتدفق السلع والأفراد.
وفي هذا السياق، فإن هناك ترتيبات خاصة بين الصين والدول التي يمر بها نهر الميكونج من أعضاء الرابطة. ناهيك عن التجاور المائي عبر مياه بحر الصين الجنوبي. والذي تثار حوله الخلافات. وقد حرص الجانبان على إصدار إعلان للسلوك بخصوص التعامل مع هذه الخلافات في العام 2002. ورغم مرور عشرين سنة على هذا الإعلان، إلا أن الكثير لم يتحقق. ورغم تصاعد الخلافات حتى بين دول الرابطة فيما يتعلق بجدوى هذه القواعد المتضمنة في ذلك الإعلان، إلا أنه استمر.
وقد صدر بيان خاص به في القمة الأخيرة بين دول الآسيان والصين، والذي تضمن التأكيد على حل الخلافات بالطرق السلمية، وعدم التهديد باستخدام القوة أو استخدامها، مع التأكيد على الالتزام بسلامة وحرية الملاحة البحرية والجوية، والالتزام بتنفيد الإعلان بشكل كامل وفعال، وعدم القيام بأفعال من شأنها تعقيد الوضع. كل ذلك في إطار الالتزام بقواعد القانون الدولي بما في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة للبحار.
مثل هذا التوافق فضلاً عن أنه يُهدِّئ الأجواء، فإنه ينزع من الأطراف الخارجية أو يقلل من احتمالات توظيفها لهذه القضية، خاصة وأن الأطراف قد أكدت على أن يكون التفاوض فيما بينها، بما يعني استبعاد تدخل قوى خارجية. وهذا بالطبع يحقق مصالح الجميع نظراً لأهمية بحر الصين الجنوبي في النقل البحري والجوي ليس للمنطقة فقط وإنما للعالم كله.
وعلى سبيل المثال، فإن 60% من تجارة الصين تشحن عبر بحر الصين الجنوبي. ويبقى أنه رغم هذه الأجواء الهادئة، فإن استمرار التأخر في تنفيذ المبادئ التي تضمنها إعلان السلوك يجعل الأمر قابلاً للتصعيد في أي وقت، خاصة في ظل التعارض في وجهات النظر والمطالبات، وكذلك في ظل استمرار هذه القضية على أجندة القوى الخارجية وغير المنخرطة فيها من قوى إقليمية.
والجوار الجغرافي لا تقتصر مكوناته على ما يحمله من مبادرات وخلافات، وإنما يحمل أيضاً روابط تاريخية بأبعاد ثقافية وقيمية وحضارية.
وفيما يتعلق باستمرار الصعود الصيني، فإن المؤشرات هي التي تتحدث سواء من حيث الناتج المحلي الإجمالي، أو نسبة المساهمة في التجارة العالمية، أو شبكة العلاقات الصينية مع مختلف مناطق العالم، أو المبادرات والترتيبات الصينية. ومنها على سبيل المثال، مبادرة الحزام والطريق والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، ورؤوس الأموال والشركات الصينية في العالم، والتي دخلت في مجالات بالغة التطور.
هذه المؤشرات ليست ببعيدة عن إدراكات صانعي القرار في دول الآسيان، كما أنها قد انعكست على تطور العلاقات بين الجانبين في شتى المجالات تقريباً. وقد انعكس هذا بطبيعة الحال على العنصر الثالث المتمثل في التزايد الحاصل في درجة الاعتماد المتبادل بين الصين ودول الآسيان.
وفي هذا الإطار، تكفي الإشارة إلى عنصري التجارة البينية والاستثمار، حيث أن الصين باتت منذ عام 2009 الشريك التجاري الأول لدول الآسيان. وقد بلغ حجم التجارة بين الجانبين في عام 2021 طبقاً لإحصاءات رابطة الآسيان حوالي 670 مليار دولار. بينما بلغ حجم تجارة دول الآسيان مع الولايات المتحدة 364 مليار دولار في نفس العام. أي أن حجم التجارة مع الولايات المتحدة تقريباً نصف حجم التجارة مع الصين. لكن يبقى أن حجم الاستثمارات الأمريكية في دول الآسيان يفوق بكثير الاستثمارات الصينية، حيث تأتي الولايات المتحدة في المقدمة بقيمة 40 مليار دولار في عام 2021، بينما وصلت الاستثمارات الصينية إلى حوالي 14 مليار دولار فقط في نفس العام. بينما بلغ حجم تجارة الآسيان مع اليابان في نفس العام حوالي 240 مليار دولار، في حين بلغت الاستثمارات اليابانية حوالي 12 مليار. وبالنسبة لكوريا الجنوبية فقد بلغ حجم التجارة حوالي 170 مليار دولار، بينما بلغت الاستثمارات الكورية في دول الآسيان حوالي 7 مليار دولار. وعلى الرغم من الفارق الواسع بين الاستثمارات الأمريكية والصينية في دول الآسيان، إلا أن الصين تخطت دولاً كانت تسبقها في هذا المضمار من بينها اليابان، وباتت الصين في المرتبة الثانية من حيث مصادر الاستثمار الأجنبي في دول الآسيان.
وقد اتفق الجانبان على إطلاق مفاوضات جديدة لترقية اتفاقية التجارة الحرة بينهما، وهي الاتفاقية الأقدم بين دول الآسيان وشركائها. وفي مجال التنمية المستدامة، اتفق الجانبان على زيادة التعاون في مجال تطوير البنية الأساسية وزيادة تسهيلات التجارة والسفر بما يدفع بالتفاعلات الشعبية أكثر وأكثر، كما حضرت الجوانب التكنولوجية والبيئية، والتعاون الصحي، والذي حاز أبعاداً مهمة في ظل جائحة كورونا، وتعزيز دور المرأة والاقتصاد الدائري وغيرها من القضايا التي تتضمن مبادرات بين الطرفين.
وبالنسبة للأمن الغذائي، فإن البيان المشترك قد انطلق من اعتباره حقاً من حقوق الإنسان الأساسية، ومن قواعد الأمن القومي المهمة، ومن الضمانات الاستراتيجية للسلام والتنمية العالميين. بالإضافة إلى الإقرار بأن التغير المناخي وجائحة كورونا والصراعات الجيوسياسية وما أصاب سلاسل التوريد من اضطرابات قد فرضت تحديات كبيرة فيما يتعلق بالأمن الغذائي. ومن ثم فقد اتفق الجانبان على مجموعة من إجراءات التعاون تطال عمليات إنتاج، وإنتاجية، وجودة، وسلامة الغذاء، وتوزيعه، فضلاً عن الاحتفاظ باحتياطيات منه لحالات الطوارئ، وما يترتب على ذلك من تسهيلات في تجارة الأغذية، والاستثمار في مجالات الإنتاج الغذائي. ويدخل ضمن ذلك التعاون قضايا مهمة كثيرة من قبيل الزراعة والتغيرات المناخية، ومحاربة الفقر في البيئات الزراعية، وتقليل نسب الهدر.
من الواضح أن شبكة العلاقات بين دول رابطة الآسيان والصين واسعة جداً ومتشعبة. ومن الواضح أنها تفوق في جوانب كثيرة علاقات أي من شركاء الحوار مع دول الرابطة. لكن هذه العلاقات تتضمن خلافاً متعدد الأبعاد. وحتى الآن لم يتخطى الأمر مسألة القواعد العامة التي على أساسها يتم التعامل مع تلك الخلافات. أي أنه لم يتم الدخول في مفاوضات حول تفاصيل هذه الخلافات. مثل هذا التأجيل تتخوف منه بعض دول الآسيان، كما أنه يسمح لبعض القوى الخارجية بإثارة المسألة حتى ولو من قبيل المناكفة في ظل التنافس الاستراتيجي الأوسع.
على الأرجح، فإن علاقات الصين مع دول رابطة الآسيان سوف تستمر في التصاعد، بما يعني محافظة الصين على وضعها المتميز في العلاقات مع هذا التجمع الإقليمي المهم في شرقي آسيا. لكن تبقى النقاط الخلافية وعلى رأسها الحدودية أحد مهددات صفو هذه العلاقات.