• اخر تحديث : 2024-04-22 16:34
news-details
أبحاث

تأثير الحرب الروسية – الأوكرانية على السياسة الخارجية الألمانية.. عودة الجيوبوليتكس ونهاية السياسة الشرقية


رغم أنّ الحرب الروسية-الأوكرانية لم تكتمل فصولها بعد، ولم تفصح عن كامل أسرارها ولا اتجاهاتها المستقبلية، لكن هذا لا ينفي وجود بعض المؤشرات التي توحي بأن هذه الحرب أفرزت أو في طريقها لإفراز وضع جيوسياسي وأمني واقتصادي جديد، ينبئ بحدوث تغيّر في طبيعة السياسة الدولية. وإذا كان من السابق لأوانه توقع الشكل والماهية التي سيبدو عليها مستقبل النظام الدولي، يمكن الإقرار بأن الحرب قد أنهت ما يكنى بـ “نظام هلسنكي” 1975 ووضع ما بعد الحرب الباردة، وستكون لها تداعيات عميقة، لا على مستقبل الأطراف الرئيسية المتحاربة (أوكرانيا وروسيا) فحسب، بل على سائر الفاعلين الدوليين، ولاسيما المنخرطين منهم في الصراع ولو بدرجات مختلفة.

كما أعاد الصراع في أوكرانيا التذكير بحقيقة مفادها أن الاعتماد الاقتصادي المتبادل لا يمنع الحرب، وإنما يرفع تكاليفها فقط، وهو الدرس الذي استقيناه من الحرب العالمية الأولى بين أكثر الشركاء التجاريين (بريطانيا وألمانيا)، وهو ما تم تجاهله على مدى عقود من قِبل قادة برلين في علاقتهم بقادة الكرملين، في إطار ما يعرف بـ”السياسة الشرقية” Ostpolitik، التي آمنت بفضائل التغيير عن طريق التجارة Wandel durch Handelإلى أن جاء الغزو الروسي لأوكرانيا (فبراير 2022) مبدّدًا أوهام برلين بخصوص جعل موسكو قريبة من أوروبا.

تبحث الورقة في تأثير الحرب الأوكرانية على توجهات السياسة الخارجية الألمانية، وتحديدًا ما يعرف بـ “السياسة الشرقية” التي تقف عند مفترق الطرق، خاصة في ظل إجماع أوروبي-أمريكي يعتبرها خطأ في التقدير الاستراتيجي. وهو ما حتّم على برلين إعادة بلورة سلوكها الخارجي إزاء موسكو بما يتلاءم مع حسابات المصلحة الغربية، مع الأخذ في الحسبان بضرورة التوفيق بين ثنائية الأهداف الاقتصادية (الأمن الطاقي)، والجيوسياسية (الأمن والاستقرار الأوروبي)، ولاسيما بعد استخدام موسكو لورقة الطاقة كسلاح في مواجهة نظام العقوبات الغربية.

1. من “الجيو-اقتصاد” إلى عودة “الجيوبوليتكس”:

كان تشارلز كراوثمر Ch. Krauthammer أول من عبر عن تغير بنية النظام الدولي بعد نهاية الحرب الباردة، عندما صاغ في تسعينيات القرن الماضي مصطلح “الأحادية القطبية” The Unipolar Moment، الذي تصدر الصفحات الأولى لمجلة فورين أفيرز Foreign Affairsفيما أعلن عدد من المراقبين بأن “الجيو-اقتصاد” Geoeconomics قد حلّ محلّ الجيوبوليتكس Geopolitics في العلاقات الدولية. عمومًا، يعتبر الاقتصاد المزدهر مصدرًا رئيسيًا لممارسة كل من القوة الناعمة والقوة الصلبة معًا. فمثلما تستند القوة العسكرية إلى الموارد الاقتصادية، فإن عولمة الاقتصاد والترابطات الاقتصادية القوية في عالم اليوم الذي أصبح “قرية كونية”، نبّهت النقاد لفضائل نظرية “المنافع المتبادلة”، وسياسة رابح-رابح في تعزيز السلم والاستقرار العالمي؛ ما يجعل الحرب تقريبًا بديلًا غير مطروحٍ على الأجندة

كانت للقيم الغربية جاذبية لا مثيل لها في النظام العالمي الجديد ما بعد القطبية الثنائية، فقد بدا أن كثيرين حول العالم تطلعوا إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير والتجارة الحرة… ما حدا ببعض المحللين إلى تفسير التاريخ وفق منطق غائي، كفرانسيس فوكوياما صاحب “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، الذي تدور أطروحته الرئيسية عن فكرة أن العالم كان يتجه نحو مسار سياسي نهائي سبق إليه الغرب (الليبرالية والعولمة…). على هذا النحو، تنامت الأطروحات المبشرة بـ “موت الجيوبوليتكس” بفعل مسار العولمة الذي خلق جيلًا يؤمن بفضائل ممارسة التجارة لا خوض المعارك والحروب.

لكن هذا الوضع لم يعمّر طويلًا، فما شهدناه بعدئذ هو عالم مضطرب، تعمّه الفوضى ويسوده مناخ من اللّايقين، جراء الصعود الصيني المندفع للقيادة العالمية، وبداية ولاية فلاديمير بوتين الرئاسية الثالثة (2012) في روسيا، وكلاهما أعاد التذكير بأهمية الجيوبوليتكس في السياسة الدولية. وقد دفع ذلك بعض المعلقين البارزين، مثل والتر راسل ميد، إلى الإقرار بنهاية أطروحة “نهاية التاريخ” التي جاء بها فوكوياما، وعودة الجيوبوليتكس بقوة إلى واجهة السياسة الدولية بقيادة روسيا والصين، وهما الدولتان المرجعيتان الرئيسيتان، في النظام الدولي الراهن، اللتان تقفان بقوة في مواجهة ما يعرف بـ”نادي الديمقراطيات الغربية”، الذي يجتهد أعضاؤه في الحفاظ على الوضع القائمبينما أقرّ المؤرخ نيال فرغيسون N. Ferguson، أن العالم يعيش أجواء الحرب الباردة الثانية، وهو ما يمكن قراءته في ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 وتدخلها العسكري في شرقي أوكرانيا، علاوة على التوتر بين الصين واليابان، وكلها تعكس أهدافًا جيوسياسية

ظلت وجهة النظر هذه موضع نقاش بين الأكاديميين والخبراء في الغرب وخارجه على حد سواء، بين مؤيد ومعارض لها. وهنا، أشار هنري كيسنجر مرارًا وتكرارًا إلى مفارقة مهمة مفادها أنه كما في الحرب الباردة الأولى، فإن خطر اندلاع حرب حقيقية وخطيرة يظل خيارًا قائمًا. فكلما طال إنكار الحرب الباردة زادت احتمالية نشوب حرب ساخنة. وضمن هذه المدارات، يندرج التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، منذ 24 فبراير 2022، عقب اعتراف موسكو باستقلال الجمهوريتين الشعبيتين “لوهانسك” و”دونيتسك” عن أوكرانيا، والذي يمكن اعتباره بمثابة تصعيد دراماتيكي للصراع المستمر بين روسيا والغرب الذي بدا واضحًا مع ضم روسيا لشبه جزيرة القرم.

وقد شكل التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا منعطفًا خطيرًا في السياسة والأمن الأوروبييْن، واعتبره معظم أعضاء المجتمع الدولي والأمم المتحدة انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي. وبجانب طرفي النزاع، كانت الكتلة الأوروبية من أكثر المناطق تأثرًا بالصراع من بوابة الأمن القومي والأمن الطاقي والغذائي. وبينما توقع البعض أن يتخلف الاتحاد الأوروبي، أو على الأقل يتأخر في استجابته، أظهرت دوله الأعضاء تماسكًا قويًا وتوافقًا كبيرًا في الرد على هذا التحدي الذي يمسّ الأمن الأوروبي. فعلاوةً على المساعدة الاستخباراتية الغربية، الأمريكية تحديدًا، حمل الأسبوع الأول الذي تبع الاجتياح الروسي الولادة المتأخرة للهوية الجيوسياسية للاتحاد الأوروبي، بحسب الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل J. Borrell، والذي ظلّت هويته لفترة تقتصر على ما هو اقتصادي صرف.

وبخصوص الموقف الألماني، فقد مثلت الحرب الروسية-الأوكرانية نقطة تحول في العقيدة الخارجية لبرلين، التي تخلت لأول مرّة منذ نهاية رعب الحرب العالمية الثانية، عن مجموعة من المبادئ التي كانت تحكم سياستها الخارجية. صحيح أن الدبلوماسية مازالت هي الأداة الأوروبية والألمانية المفضلة في الشؤون الخارجية، خاصة فيما يتعلق بتسوية النزاعات الدولية، بيد أن الحرب ولدت إدراكًا متزايدًا بخصوص أهمية القدرة العسكرية والدفاعية لأمن أوروبا واستقرارها. ارتباطًا بذلك، فإن المتأمل في ردود الأفعال الأوروبية، والألمانية تحديدًا، يسجل تغيرًا جوهريًا بخصوص الخيارات الاستراتيجية لبرلين سواء بتوثيق علاقاتها عبر الأطلسي (الناتو)، أو فيما يتعلق ببناء القدرة الدفاعية للاتحاد الأوروبي. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى التغيرات في البنية التشريعية والقانونية والمؤسساتية المتعلقة ببناء القدرات الدفاعية، عبر رفع الميزانية السنوية المحددة للدفاع إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة إلى ميزانية خاصة لمرة واحدة بقيمة 100 مليون يورو لتحديث القدرات الدفاعية للجيش الألماني (البوندسفير) وتعزيزها. وهكذا بعدما تم لعقود إهمال قضايا الأمن والدفاع، فإن هذا يمثل بلاشك نقلة نوعية في بناء القدرات الدفاعية لألمانيا والاتحاد الأوروبي على حد سواء، وهو ما يفسر الاهتمام المتزايد للدول الإسكندنافية الثلاث (الدنمارك، السويد، فنلندا)، بتعزيز الهياكل الأمنية والدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، التي جاءت لدرجة كبيرة كنتاج للتحرك الألماني

وبما أن أوكرانيا تعتبر بوابة أمن الاتحاد الأوروبي، فإن الحكومة الألمانية تدعم كذلك الجيش الأوكراني، بالتنسيق الوثيق مع شركائها في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. ويشكل الدعم العسكري الألماني، الذي يشمل المعدات العسكرية خاصة الدفاعية منها، بالإضافة إلى إمدادات أخرى من الصناعة العسكرية الألمانية لتعزيز قدرات كييف الدفاعية – يشكل تحولًا جوهريًا في عقيدة برلين الخارجية بعد نهاية رعب الحرب العالمية الثانية. وتجدر الإشارة في هذا الاتجاه إلى أن ألمانيا تعد ثالث أكبر داعم للأمن والدفاعات الأوكرانية بنحو 1.2 مليار يورو، بعد كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة.

2. تآكل السياسة الشرقية Ostpolitik:

عند تقييم سلوك برلين الخارجي تجاه موسكو، يحتاج المرء إلى مراعاة بعض المحددات طويلة الأمد، ومن ضمنها الثقافة السياسية وطبيعة النظام الدولي. فقد انتهج الحلفاء بقيادة واشنطن سياسة تصالحية مع ألمانيا المسؤولة عن اندلاع الحرب العالمية الثانية، والذي تجسّد في مشروع مارشال Marshall Project، الذي كان – بحسب مايكل هوجان – أكثر من مجرد محاولة لضخ المساعدات الأمريكية في جهود إعادة الإعمار الاقتصادي لأوروبا الغربية كحصن ضد الشيوعية، ولكنه كان أيضًا ينطوي على خطة للدفع باتجاه التكامل الاقتصادي والسياسي والعسكري، ثم الأمني بتأسيس حلف شمال الأطلسي NATO، باعتباره تجسيدًا للهوية المشتركة ووحدة المصير. وبالمثل، انتهجت ألمانيا سياسة تصالحية تجاه روسيا، تحت مسمى “السياسة الشرقية” Ostpolitik، التي ابتدعها المستشار فيلي براندت W. Brandt (1969-1974)، الذي كان ينظر إلى التعاون الاقتصادي والمنافع المتبادلة كضمان للاستقرار والقدرة على التنبؤ. وقد مهدت سياسته الطريق ليس لدمج الجارتين الغربية والشرقية، ولكن أيضًا لتطبيع العلاقات مع موسكو؛ وهو نهج استمر وكان له تأثير بشكل كبير على السياسة الألمانية تجاه روسيا ما بعد السوفيتية. فقد راهنت برلين لعقود على فضائل التغيير عبر التجارة Wandel durch Handel؛ إذ ساد الاعتقاد بين القادة الألمان أن العلاقات التجارية الوثيقة والمصالح المشتركة مع روسيا ستجعل الصدام العسكري بين الجانبين أمرًا غير وارد. وعلى المدى البعيد، ستدفع هذه السياسة دولًا كروسيا والصين نحو مزيد من الانفتاح السياسي، وجعلها على مقربة من أوروبا، خاصة في ظلّ فترتي حكم غيرهارد شرودر G. Schroder (1998-2005)، وأنجيلا ميركل A. Merkel (2009-2021).

نظرت برلين إلى موسكو بعد إعادة توحيد الألمانيتين كشريك استراتيجي، يخول لها الاستفادة من الطاقة الرخيصة الروسية، مثلما استفادت من العلاقات عبر الأطلسي في تعزيز نموّ اقتصادها وأمنها القومي، وراهنت برلين في هذا الاتجاه على فضائل التغيير عن طريق التجارة والاعتماد الاقتصادي المتبادل ونقل القيم الغربية إلى روسيا الاتحادية. وتبعًا لذلك، استندت هذه العلاقات إلى اقتصاد الطاقة الذي لعبت فيه أنابيب السيل الشمالي Nord Stream، دورًا رئيسيًا في نقل الغاز الروسي إلى أوروبا وتصدير القيم والحوكمة وتطبيع العلاقات بين الجانبين لردع الطموحات الجيوسياسية الروسية، خاصة بعد كارثة فوكوشيما النووية (2011)، والتي وجدتها حكومة ميركل فرصة للتخلص التدريجي من المفاعلات النووية بحلول العام 2022، ممّا أدى إلى زيادة الاعتماد الألماني بشكل كبير على موارد الطاقة الروسية. ومن هنا، نشأت فكرة تمديد مشروع خط أنابيب نورد ستريم 2، المملوك لشركة غازبروم Gazprom، لمضاعفة كميات الغاز الطبيعي الروسي باتجاه ألمانيا عبر بحر البلطيق لتجاوز الوساطة الأوكرانية، مما سيجعل أوروبا الغربية كذلك أقل عرضة لانقطاع إمدادات الطاقة.

شكلت الطاقة العمود الفقري للعلاقة الألمانية-الروسية، والتي بقيت متماسكة حتى اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، رغم أن مجموعة من الأحداث حاولت التشويش عليها والتشكيك فيها. وهو ما يمكن ملاحظته بدءًا من خطاب بوتين في قمة ميونيخ للأمن (2007) والذي أعلن فيه بصريح العبارة أن انهيار الاتحاد السوفيتي وسيادة القطبية الواحدة كان خطأ تاريخيًا غير مقبول من الناحية الاستراتيجية وغير ديمقراطي في حد ذاته، مرورًا بالحرب الروسية – الجورجية (2008)، وضم شبه جزيرة القرم (2014)، والاختراق السيبراني للبوندستاخ الألماني (2015)، واغتيال لاجئ سياسي أفغاني في برلين (2019)، والمحاولات المتكررة لاغتيال المعارض أليكسي نافالني (2020). صحيح أنّ برلين انتقدت موسكو من الناحية السياسية، بيد أن علاقات الطاقة الروسية – الألمانية بقيت سليمة، بحكم وجود تعاطف من بعض القادة الألمان تجاه روسيا، وفي مقدمتهم المستشار الأسبق غيرهارد شرودر، ووزير الخارجية السابق سيغمار غابرييل، والمستشارة السابقة أنجيلا ميركل، وكذلك الرئيس الحالي فرانك فالتر شتاينماير، الذين دافعوا من منطلق حسابات المصلحة الوطنية على العلاقات بين موسكو وبرلين، وسعوا إلى إبقاء نورد ستريم 2 بعيدًا عن عقوبات الاتحاد الأوروبي، الموجهة ضد روسيا بعد ضمها لشبه جزيرة القرم.

أنهت انتخابات سبتمبر 2021 حقبة المستشارة ميركل وحزب المحافظين (الديمقراطي المسيحي)، وجلبت حكومة ائتلافية إلى السلطة مكونة من الاشتراكيين الديمقراطيين والليبراليين وحزب الخضر، أو ما يعرف بائتلاف “إشارات المرور”. لم تقل الحكومة الاتحادية الكثير حول أنابيب نورد ستريم 2 على الرغم من المطالبات الأمريكية، بل إنّ المستشار الجديد أولاف شولتس صرّح أن خط نورد ستريم 2 “مشروع تابع للقطاع الخاص” يجب إبقاؤه بعيدًا عن النقاشات والمزايدات السياسية.

يجد هذا الخيار أسبابًا منطقيةً تفسره؛ فبجانب مصادر الطاقة المتجددة، فإن مصدر الطاقة الطبيعي الوحيد الذي تنتجه الأراضي الألمانية هو “ليغنيت” Lignite (من أنواع الفحم) الذي يشكل 9% من الاستهلاك الطاقي، أما سائر الاستهلاك، فهو مستورد من الخارج. ويشكل الغاز الطبيعي العنصر رقم واحد في هذه المعادلة، والذي يأتي من ثلاثة منتجين خارجيين فقط: روسيا والنرويج وهولندا، ولكن الاعتماد الألماني على الغاز الروسي أكبر بنسبة تتجاوز 55%، بقيمة 1.8 مليار يورو. وعندما تم تنصيب الحكومة الجديدة (ديسمبر 2021)، سعت إلى مواصلة سياسة الانتقال الطاقي لحماية المناخ، أي التخلص التدريجي من مصادر الكربون، والطاقة النووية (ديسمبر 2022)، والفحم بحلول عام 2030؛ مما كان يؤشر على أن القوة الاقتصادية الأولى داخل الاتحاد الأوروبي سيزيد اعتمادها على الغاز الروسي إلى جانب مصادر الطاقة البديلة كـ “الهيدروجين الأخضر”

ومن مفارقات التاريخ أنّ السياسة الشرقية التي بدأت كخطوة للتقارب والمصالحة الإنسانية بين موسكو وبرلين، والتي هدفت إلى جعل روسيا قريبة من أوروبا تعزيزًا للسلام والاستقرار واستدامة الازدهار الأوروبي، تحولت مع مرور الوقت إلى أداة في يد الكرملين لممارسة الابتزاز السياسي، خاصة تجاه برلين بحكم اعتمادها الكبير على الطاقة الروسية. يبدو أن صناع القرار الألمان أهملوا درس الحرب العالمية الأولى أو الحرب العظمى، والذي مفاده أن التبادل الاقتصادي بين الإمبراطورية الألمانية الثانية (الرايخ الثاني) وبريطانيا العظمى، والذي بلغ مستوى عاليًا جدًا، لم يمنع الصدام بينهما خلال الحرب العظمى (1914-1918)، إلى أن جاء غزو روسيا بوتين لأوكرانيا في 22 من فبراير 2022، ليعيد تذكير الألمان والنظام الدولي بهذا الدرس البليغ، ويبدّد معه أوهام برلين بخصوص جعل موسكو قريبة من أوروبا

3. تراجع الاعتمادية الألمانية على الطاقة الروسية: نهاية السياسة الشرقية:

اتسمت العلاقات الألمانية – الروسية بالتشابك، إذ ربط القادة الألمان منذ أيام المستشار ويلي براندت علاقة متميزة بقادة الكرملين، كما تعتبر ألمانيا أكبر مستهلك للطاقة الروسية. وعليه، راهنت موسكو على الانقسام في الكتلة الأوروبية حول أوكرانيا، وتوقع بعض المراقبين الدوليين أن تتخلف ألمانيا عن الركب، أو على الأقل تتأخر في استجابتها للغزو الروسي لأوكرانيا. لكن ما حصل عكس ذلك، حيث أظهرت ألمانيا بتنسيق مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي NATO، تماسكًا قويًا وقدرة على الاستجابة لهذا التحدي، الذي اعتبروه عملًا وحشيًا ينتهك سيادة القانون الدولي، تاركًا الأمن القومي الأوروبي لأول مرة بعد نهاية الحرب الباردة معرَّضًا لخطر حقيقي.

وتركزت استجابة المحور الغربي على تطبيق سلسلة من العقوبات الاقتصادية الثقيلة وغير المسبوقة ضد روسيا الاتحادية، بهدف رفع تكلفة الحرب ضدها، وشل قدرات ترسانتها العسكرية عبر قطع مصادر تمويلها (اقتصاد الطاقة). وقد اتخذت العقوبات الغربية منحًى مرنًا ومتدرجًا على شكل حزم، لمنع التصعيد والانزلاق إلى حرب عالمية ثالثة، كما أرادت واشنطن تجنب منع ارتفاع أسعار الطاقة في الأسواق العالمية كي لا تضر بمصالحها. ومن زاوية أخرى، أرادت منع مخاوف شركائها الأوروبيين الذين قد تتأثر مصالحهم بشدة نتيجة فرض عقوبات شاملة على روسيا، وتحديدًا في قطاع الطاقة، حيث تعد روسيا أول مصدّر للغاز وثاني أكبر مصدّر للنفط على الصعيد العالمي.

وقد شكلت المقاومة الأوكرانية من وجهة نظر برلين وحلفائها، قتالًا ليس فقط من أجل الحفاظ على السيادة الأوكرانية فقط، وإنما أيضًا قتالًا من أجل الحرية والديمقراطية والاستقرار والازدهار بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن وقف حرب بوتين يتطلّب وقف مصادر تمويل آلته العسكرية، والتي يأتي جزؤها الأكبر على شكل مدفوعات بمليارات اليوروهات لشراء صادرات الغاز والنفط الروسي. فعلى سبيل المثال، تدفع ألمانيا شهريًا ما قدره 1.8 مليار يورو (2 مليار دولار) لاستيراد الطاقة الروسية. بينما كانت دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة تدفع ما مجموعه 39 مليار يورو للطاقة الروسية سنويًا، وهو أكثر من ضعف المبلغ الذي قدمته لمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن سيادتها، مما حدا بتيموثي سنايدر T. Snyder للتعليق بطريقة ساخرة على منصة Twitter، قائلًا: “حاضر الألمان لمدة ثلاثين سنة الأوكرانيين عن خطورة الفاشية، وعندما وصلت الفاشية كان الألمان هم المصدر الرئيسي لتمويلها، ومات الأوكرانيون في محاربتها”

وهكذا، تخلت برلين عن مجموعة من المبادئ التي ظلت تؤطر سياستها الخارجية، وتبنّت دورًا رائدًا في تشكيل نظام العقوبات الاقتصادية Economic sanctions غير المسبوقة ضد روسيا، والتي تهدف إلى قطع الموارد المالية عن آلة الحرب الروسية. فبجانب الامتثال لمعايير حلف الناتو القاضية بإنفاق 2 % من الميزانية العامة على الدفاع، وإرسال الأسلحة لأول مرة إلى إحدى مناطق النزاع (أوكرانيا)، وتجميد أصول المؤسسات المالية الروسية، وفصل البنك المركزي الروسي عن نظام سويفت العالمي للمدفوعات، فضلًا عن استهداف بوتين ولافروف وأعضاء مجلس الدوما وعدد من الأوليغارشية الروسية، سواء بتجميد أرصدتهم في أوروبا والغرب عمومًا، أو منع تأشيرات السفر لهم، بدأت برلين بإنهاء اعتمادها على الطاقة الروسية بإلغاء العمل بمشروع نورد ستريم 2، وهو يمثل إحدى ركائز سياسة ألمانيا تجاه روسيا على مدى عقود، مما شكل بداية النهاية لـ “السياسة الشرقية”، وبدلًا من ذلك جرى إحياء حاضر ومستقبل الشراكة عبر الأطلسي وتمتينه.

وبعد مرور نحو تسعة أشهر من اندلاع الصراع الروسي-الأوكراني، لا يزال الدعم الألماني-الأوروبي لأوكرانيا ثابتًا، حيث أطلقت المفوضية الأوروبية حزمة العقوبات رقم 7 ضد روسيا. وبجانب العقوبات الاقتصادية المشار إليها سابقًا، وافقت ألمانيا على الانضمام إلى حظر أوروبي أمريكي على الفحم الروسي (حزمة العقوبات رقم 6)، كما وضعت خططًا لتنويع إمدادات النفط بعيدًا عن روسيا بحلول نهاية العام الجاري، وخاصة أن النفط والفحم لهما أسواق عالمية ويمكن شراؤهما من أي مكان تقريبًا، كما تمتلك ألمانيا احتياطات استراتيجية لكليهما. ويبقى التحدي الأكبر في معادلة الطاقة بالنسبة إلى ألمانيا هو الغاز الطبيعي، لاعتمادها على ثلثي وارداتها من الغاز على روسيا، لكن هذا لم يمنع الألمان من العمل على تقليص الاعتماد على الطاقة الروسية بتسريع عملية الانتقال الطاقي، وتوسيع شبكة الإمدادات. ويشير التقرير المرحلي الثاني الصادر عن وزارة الشؤون الاقتصادية والمناخ إلى إحراز تقدم كبير بإنهاء واردات الفحم، وتقليص الاعتماد الألماني على النفط الروسي إلى ما دون 12%، والغاز إلى نحو 25%، مما يجعل إنهاء الاعتماد على واردات النفط الروسي بنهاية الصيف احتمالًا واردًا.

وبخصوص الغاز بصفته التحدي الرئيسي المتبقي في طريق الاستقلال الألماني النهائي عن الطاقة الروسية، ومن ثم إعادة تشكيل العلاقات بين برلين وموسكو وفقًا لنسق جديد، فإن الحكومة الاتحادية سابقت الزمن لملء الخزَّانات بنسبة 100% بحلول منتصف نوفمبر 2022، بينما قام وزير الاقتصاد والمناخ هابيك بجولات إلى شرق البحر المتوسط ومنطقة الخليج العربي، وتحديدًا دولة الإمارات وقطر بحثًا عن بدائل للغاز الروسي. كما مررت الحكومة قانونًا جديدًا عن طريق حذف بعض الفحوصات البيئية المعتادة لتسريع عملية بناء محطتين جديدتين للغاز الطبيعي المسال، والتي ستمنح ألمانيا بجانب المحطات العائمة، قدرة استيراد سنوية تبلغ 53 مليار متر مكعب، بينما كان من المتوقع أن تنقل أنابيب نورد ستريم 55 مليار متر مكعب سنويًا.

هكذا، وفي محاولة لإرباك الحسابات الألمانية – الأوروبية، تحول الغاز إلى سلاح في يد روسيا لإحداث شرخ وانقسام بين الدول الأعضاء للاتحاد الأوروبي حول أوكرانيا، عبر خفض شحنات الغاز الموجهة إلى الاتحاد الأوروبي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا، ثم قطع إمدادات الغاز الموجهة نحو أوروبا بالكامل ابتداءً من 11 يوليو، بذريعة الصيانة السنوية وعدم وصول بعض الطوربيدات من كندا؛ ما وضع ألمانيا، الاقتصاد الأول داخل القارة الأوروبية، أمام سيناريو كارثي على حد وصف وزير اقتصادها هابيك. وفيما أعلنت الخارجية الكندية موافقتها على رفع العقوبات لمرة واحدة عن روسيا بإيعاز من برلين وواشنطن، حيث من المرجح استئناف تدفقات الغاز الروسي عبر أنابيب نورد ستريم 1 في الوقت المحدد بعد إنهاء أشغال الصيانة، لكن بأقل من طاقته الكاملة. يظلّ السؤال: ماذا لو قطعت روسيا إمدادات الغاز نهائيًا باتجاه أوروبا؟

تبدو عملية إيجاد بدائل عن واردات الغاز الروسي صعبة بالنظر إلى بنية الطاقة الألمانية وشبكتها، لكنها حتمًا ليست مستحيلة. تشير إحدى الدراسات حول آثار الإنهاء الكلي لواردات الطاقة الروسية وخاصة الغاز الطبيعي على أكبر اقصاد أوروبي، والتي أجريت تحت إشراف صندوق النقد الدولي، إلى أن عملية وقف إمدادات الغاز الروسي إلى ألمانيا سيكلف اقتصادها 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي خلال العام الجاري 2022، وسيتبع خسارة هذا العام تأثير سلبي بنسبة 2.7 % في العام 2023، وانخفاض بنسبة 0.4% في العام 2024؛ وبالتالي، فمعدل الانكماش بحسب داليا مارين D. Marine، الخبيرة في الاقتصاد الدولي، سيكون أقل حدة مقارنة بتداعيات جائحة كورونا (2020)، عندما بلغ معدل الانكماش 4.6%. وعلى الرغم من صعوبة الاستبدال فلايزال للاقتصاد الألماني منافذ بديلة، سواء بتسريع الانتقال الطاقي (الطاقة المتجددة)، واستيراد الغاز من هولندا والنرويج، واستهلاك مزيد من الفحم وإعادة تشغيل المحطات النووية وترشيد النفقات في أفق العثور على موردين جدد كالجزائر وقطر والإمارات. وخلصت داليا مارين إلى أن حظر الطاقة الروسية ليس مجرد قضية لوجيستية، وإنما هي قضية أمن قومي تحتاج أن تتغير الآن وإلى الأبد، وتنتهي إلى حقيقة مفادها أنه عندما تسوء الأمور يجب أن ننصت إلى الاقتصاديين لا إلى أصحاب المصانع

 اتخذت ألمانيا منذ أشهر مجموعة من التدابير لزيادة سعة التخزين بحلول نوفمبر لقضاء فصل الشتاء دون واردات الغاز الروسي. هكذا، وحتى مع تكرار روسيا لعمليات قطع تدفقات الغاز الطبيعي باتجاه أوروبا بإعلان شركة غازبروم في أوائل سبتمبر عن أن الإمدادات عبر أنابيب نورد ستريم قد توقفت تمامًا، فإنّ ألمانيا تسير على الطريق الصحيح لتحقيق هذا الهدف، حيث صرّح وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك بعدما وصلت نسبة التخزين إلى 90 % من طاقتها، بأن ألمانيا لديها فرصة لقضاء الشتاء بشكل مريح خاصة في ظل استمرار تلقي الغاز عبر خطوط أنابيب من النرويج وهولندا وبلجيكا، كما تراهن على توقيع عقود لتسليم الغاز الطبيعي المسال (LNG) من دولة الإمارات العربية المتحدة. ومن المرجح أن تحقق هذه الأرقام هدف البرلمان الألماني لبلوغ عتبة 95 % بحلول نوفمبر

خاتمة:

تركت الحرب الروسية -الأوكرانية تداعيات جيوسياسية عميقة، كما شكلت تهديدًا وجوديًا لأمن المنظومة الأوروبية واستقرارها. ونتيجة لذلك، اتسم موقف ألمانيا بتغير جذري، حيث أعاد صناع القرار في العاصمة برلين إعادة هيكلة السياسة المتعلقة بالأمن والطاقة، وسلوكها الخارجي تجاه روسيا الاتحادية، فمن جهة استجابت برلين لمعيار الناتو لرفع الإنفاق الدفاعي إلى 2 % من ناتجها المحلي الإجمالي، وتخصيص صندوق خاص بقيمة 100 مليون يورو لرفع القدرات الدفاعية للجيش الألماني وتعزيز الدفاعات المشتركة للاتحاد الأوروبي، وقدرات الناتو من خلال الالتزام بنقل الأسلحة النووية إلى الأراضي الألمانية في حالة وقوع صدام عسكري بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. علاوة على ذلك، برز دور برلين – واشنطن وحلفائهما في تشكيل نظام العقوبات الاقتصادية لشل آلة الحرب الروسية عبر الجمع بين مختلف أشكال التعاون، مما يوحي بأن الهيمنة الغربية ستطول، كما أن استغناء ألمانيا عن مصادر الطاقة الروسية وخاصة الغاز (Nord Stream)، شكل مؤشرًا قويًا على نهاية مفاجئة وغير متوقعة لعقود من السياسة الشرقية تجاه موسكو. ولعل ذلك يوحي بأن العالم ما بعد الأزمة الأوكرانية من الناحية المعيارية سيتجه نحو مزيد من هيمنة المؤسسات الغربية في السياسة الدولية. ويتوقع الشيء نفسه من الناحية الاقتصادية، استمرار الريادة الغربية، فيما يسود الاعتقاد بأن روسيا الاتحادية ستتوارى إلى الوراء وتعود إلى ما كانت عليه قبل عام 1991، نظرًا إلى حجم الأضرار التي طالت اقتصادها جراء العقوبات الاقتصادية وشل شرايين خزينتها (بعد فطام ألمانيا والاتحاد الأوروبي عن الطاقة الروسية)، علاوة على الخسائر التي طالت ترسانتها العسكرية، وتضرر صورتها على المستوى الخارجي.

إجمالًا، وبالنظر إلى عقيدة ألمانيا السلمية في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، فإن هذا التحول يؤشر على تحول هيكلي في السياسة الخارجية الألمانية، ولاسيما تجاه روسيا. ومع ذلك، فإن عملية تقييم حجم المساعدات الألمانية واتجاهاتها والدعم المقدم لأوكرانيا منذ بداية الحرب إلى حدود اللحظة، تفيد بأن الخوف من التصعيد هو العامل المهيمن في اعتبارات السياسة الألمانية، إذ لا تزال برلين مترددة وبعيدة من دعوة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل “لأخذ مصيرها بيدها” في تعزيز أمن ودفاعات الاتحاد الأوروبي، والاتجاه لكي تكون طرفًا شريكًا في القيادة مع واشنطن، لا أن تظلّ تابعًا موثوقًا تحت الهيمنة الأمريكية.