• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
دراسات

الاتحاد العام التونسي للشغل ودوره في الانتقال الديمقراطي وتشكيل الواقع السياسي


لا يختلف اثنان في تونس على أن الاتحاد العام التونسي للشغل هو الطرف الأكثر تأثيرًا في مجريات الشأن العام في تونس بعد الثورة، في ظل تشظي المشهد الحزبي وضعف الدولة وتمرد المجتمع عليها بعد أن تحرر من عقدة الخوف وأسقط رأس نظام الاستبداد وإن لم يُسقط النظام نفسه. وقد ساعده في الهيمنة على الطبقة السياسية وفرض إرادته عليها تهافتها على الحكم وقبولها بشروط الاتحاد المجحفة لشراء سلم اجتماعي هش لا يصمد أمام أي أزمة أو هزة.

لقد شاركت قواعد الاتحاد وقياداته الميدانية بفعالية في الثورة، فأحرجت القيادة المركزية التي كانت مترددة في مواجهة سلطة الاستبداد خوفًا منها وطمعًا فيها، لكنها لم تجد بدًّا في النهاية من الالتحام بالجماهير الهادرة التي زلزلت أصواتها جدران المباني السيادية مُعجِّلة بهروب رأس الدولة وانهيار الحزب الحاكم.

ذلك هو الاتحاد العام التونسي للشغل الذي وُلد من رحم مقاومة الاستعمار، فاستمرأ خوض غمار السياسة، فكان "خيمة" للمناضلين و"بيتًا" للشغالين و"ملاذًا" للسياسيين المعارضين، لكنه لم يسلم من "الانتهازية" و"الزبونية" و"الشعبوية". واليوم، يجد نفسه في مصيدة صراع "الإقدام والإحجام"، فينتهج نهج "الذرائعية" لكنه يقع في فخ ملاحقة الأحداث بعد أن كان يصنعها. فهل بقي له دور حقيقي يلعبه في مسار الانتقال الديمقراطي المتعثر؟ أم بات هو الآخر عبئًا على البلاد المثقلة بالديون والرازحة تحت وطأة التخلف وعدم المعيارية؟ هل لا يزال الاتحاد عامل توازن سياسي وصمام أمان اجتماعي ومنقذًا من الانزلاق إلى الفوضى ومن الانحدار إلى السديم أم على العكس من ذلك عنصرًا معطِّلًا للانتقال الديمقراطي وشوكة في خاصرة الدولة؟ أين الاتحاد من تصفية الحسابات السياسية ومن الصراعات الأيديولوجية؟ هل ما زال للاتحاد دور في تحقيق استحقاقات الثورة وأهدافها وفي حفظ مصلحة الشعب الفضلى؟ هل استطاع الاتحاد التوفيق بين دوره الاجتماعي -وما يفرضه من استحقاقات تتصل بحماية مصالح الشغالين والدفاع عنها- ودوره السياسي الذي استمات في التمسك به وممارسته في كل الأحقاب تحت عنوان "النضال النقابي الوطني"؟

. في المنظور والمقاربة البحثية

لقد اعتمد الباحث في دراسته لدور الاتحاد العام التونسي للشغل في الثورة وفي مرحلة الانتقال الديمقراطي منظورًا سوسيولوجيًّا سياسيًّا مكَّن من مقاربة الموضوع وأبعاده بطريقة تحليلية نقدية تستفيد من دلالات الوقائع التاريخية ومن مضامين خطاب الفاعلين السياسيين والنقابيين في تونس. واجتهد في أن تكون المقاربة تأويلية تستنطق خلفيات المواقف التي يعبر عنها أو يتخذها أولئك الفاعلون ولا تقف عند سرد الأحداث أو وصف المشهد في ظاهره.

كما حرص الباحث على تنويع المراجع البحثية وعلى تحديثها، سعيًا إلى مواكبة الواقع السياسي في تونس في حركيته الدؤوب، وخاصة في سياق الانتقال الديمقراطي الذي أعقب الثورة التونسية وما تضمنه من أحداث نوعية ومن صراعات على السلطة في إطار بحث مختلف القوى والفعاليات والشخصيات السياسية والنقابية عن إعادة التموقع في مشهد رجراج وبيئة غير مستقرة.

أما أهم أهداف الدراسة فهو المساعدة على مزيد فهم الواقع التونسي المعقد ودور الاتحاد العام التونسي للشغل في تعقيده طورًا وفي المساهمة في حلحلته طورًا آخر. فالاتحاد -كما يُسمَّى في تونس- اختصارًا، هو فاعل أساسي في هذا الواقع وإن ترجرج دوره بحسب سير الأحداث وتبدل الفاعلين السياسيين. ولكن الثابت أن وجود الاتحاد في صدارة المشهد السياسي والاجتماعي هو حقيقة ذات وجهين، فهو إما فاعل معارض للسلطة الحاكمة يعمل على إحراجها وحشرها في الزاوية متوخيًا المناورة السياسية لتحقيق أهدافه، وإما فاعل مساند للسلطة -ولو بشكل مشروط أو محتشم- أملًا في تحييد خصومه وطمعًا في اكتساح مساحات جديدة وبسط السيطرة عليها لتعزيز موقعه السياسي والاجتماعي والاستعداد لخوض غمار معارك محتملة في المستقبل.

2. "الاتحاد" في زمن الهيمنة وفي زمن الثورة: الموقع والدور

أُسِّس الاتحاد العام التونسي للشغل، في 20 يناير/كانون الثاني 1946، على يد الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، رئيسًا، والزعيم النقابي والوطني، فرحات حشاد، أمينًا عامًّا. وقد كان فرحات حشاد ملتحمًا في نضاله النقابي مع شعبه المقاوم للمستعمر الفرنسي. وهو صاحب المقولة الشهيرة: "أحبك يا شعب" التي عنون بها مقالًا كتبه إثر أحداث "هنشير النفيضة" الدامية، في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1950، التي أعقبت إضراب بعض العمال الفلاحين. ومن ثم اكتسب الاتحاد العام التونسي للشغل هذا الدور الوطني، بل إن زعيمه المؤسس قاد الحركة الوطنية حينما تمَّ اعتقال زعمائها ونشطائها السياسيين من قِبَل سلطات الاستعمار. وحيث تعاظم دور فرحات حشاد النقابي والوطني واستطاع أن يربط علاقات خارجية متينة، ولاسيما مع الجامعة الدولية للنقابات الحرة التي كانت تسيطر عليها النقابات الأميركية، عمدت السلطات الاستعمارية الفرنسية إلى اغتياله، في 5 ديسمبر/كانون الأول 1952. لكنَّ أثره وإرثه لا يزالان مستمرين؛ حيث يُعرَّف الاتحاد العام التونسي للشغل إلى اليوم بـ"اتحاد حشاد" في كثير من المناسبات السياسية والنضالية.

وبحصول تونس على الاستقلال بعد عشر سنوات من تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل، كان هذا الأخير حاضرًا بقوة في أول حكومة تونسية بعد الاستقلال؛ حيث جرى إسناد عدة حقائب وزارية إلى شخصيات نقابية، مثل مصطفى الفيلالي وعبد الله فرحات والأمين الشابي. كما كان مؤثرًا في مشروع الدولة الوطنية الفتية؛ حيث تم اعتماد برنامج تنموي (اقتصادي واجتماعي) صاغته إطارات نقابية بمناسبة انعقاد مؤتمر الحزب الحر الدستوري التونسي بمدينة صفاقس، في نوفمبر/تشرين الثاني 1955. كما كان للاتحاد أكثر من 15 نائبًا في المجلس القومي التأسيسي الذي صاغ دستور الجمهورية التونسية الأول (1959). وكان الحزب الحاكم في زمن الرئيس الحبيب بورقيبة (الحزب الاشتراكي الدستوري) يضم في مراكزه القيادية العديد من الزعامات النقابية، من أهمها الحبيب عاشور، الذي استقال من قيادة الحزب في أواخر السبعينات منتصرًا لاستقلالية المنظمة النقابية.

وحيث إن "حساب النقابي" غير "حساب الحاكم"، فقد دبَّ الخلاف بين قيادات الاتحاد ورموز الحكم، وعلى رأسهم رئيس الحزب الحاكم ورئيس الدولة، الحبيب بورقيبة، منذ أواسط الستينات. وقد بلغت الخلافات أوجها بين أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل، الحبيب عاشور، والوزير الأول، الهادي نويرة، في أوائل سنة 1978 بشن الاتحاد العام التونسي للشغل إضرابًا عامًّا يوم الخميس، 26 يناير/كانون الثاني 1978، في حركة تحدٍّ وتصعيد لم تَرُقْ للرئيس بورقيبة الذي أمر قوات الأمن والحرس والجيش بالتصدي للمحتجين في الفضاء العام وباقتحام مقرات الاتحاد واعتقال قياداته. فكان "خميسًا أسود" داميًّا سقط فيه كثير من المحتجين المدنيين الذين جوبهت تحركاتهم ومسيراتهم بالرصاص الحي.

ورغم بلوغ التجافي بين الحزب الحاكم والاتحاد العام التونسي للشغل حدًّا منذرًا بصراع مفتوح، إلا أن قيادتيهما استطاعتا "استهلاك" أحداث يناير/كانون الثاني 1978 وما أعقبها من ملاحقات أمنية وقضائية. فقد عاد التآلف القديم بينهما بصفة تدريجية، بعد أن تم إطلاق سراح النقابيين المودعين بالسجن في 1981، واستطاعتا تكوين "جبهة قومية" لخوض الانتخابات التشريعية معًا ضمن قائمة مشتركة في نوفمبر/تشرين الثاني 1981 والفوز فيها، مما بوَّأ الاتحاد عشرين مقعدًا في مجلس النواب (البرلمان التونسي).

وبعد مضي بضع سنوات على أحداث يناير/كانون الثاني 1978 اتسمت بالاحتقان الاجتماعي المكتوم وبتصاعد التماحك الأيديولوجي داخل الجامعة الذي بلغ أوجه يوم 30 مارس/آذار 1982 (ذكرى يوم الأرض بفلسطين)، حيث حصلت فيه واقعة دامية عُرفت في الأوساط الجامعية بـ"مجزرة منوبة" وتلتها اشتباكات طلابية متفرقة، اندلعت "انتفاضة الخبز"، في 3 يناير/كانون الثاني 1984، إثر زيادة كبيرة في أسعار مشتقات الحبوب (الدقيق والسميد والعجين الغذائي) انجرَّت عنها زيادة غير مألوفة في ثمن الخبز. يومها، هبَّ الشعب التونسي للدفاع عن حقه في الحصول على رغيف الخبز رافعًا شعار "الخبز والكرامة". وقد كان النقابيون حاضرين ميدانيًّا فيما سُمِّي بانتفاضة الخبز (يناير/كانون الثاني 1984) التي كادت تتحول إلى "ثورة جياع" لولا أن الرئيس بورقيبة سحب فتيل الأزمة بإعلانه الشهير "فلنعد إلى حيث كنَّا قبل الزيادات"، وبه سحب البساط من تحت أرجل المناوئين له والمحتجين ضده. يومها، خرج أبناء عامة الشعب تلقائيًّا في مسيرات مساندة للرئيس ومندِّدة بوزيره الأول، محمد مزالي، الذي لم يعمَّر حكمه طويلًا بعد تلك الأحداث.

وباعتلاء الرئيس زين العابدين بن علي، سدة الحكم، في فجر السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1987، وسيطرته شيئًا فشيئًا على دواليب الدولة وعلى المشهد السياسي بقبضة بوليسية حديدية، عمد إلى استيعاب الدستوريين، وهو منهم، وتطعيم حزبهم "الاشتراكي الدستوري" ببعض الشخصيات غير المستهلكة من النخبة وغيَّر اسمه ليصبح "التجمع الدستوري الديمقراطي". كما عمل على احتواء الاتحاد العام التونسي للشغل وتحييد دوره النضالي في الدفاع عن حقوق الشغالين وعموم المواطنين بتنميط الحوار الاجتماعي وضبط مواعيد قارَّة للمفاوضات الاجتماعية من أجل الزيادة الدورية في أجور العمال. كما دفع، بالتوازي مع ذلك، إلى انتخاب أمين عام قريب منه، محاولًا إنهاء العلاقة المتوترة أصلًا بين الاتحاد والسلطة الحاكمة وحسم الصراع بشكل "توافقي" يجعل الاتحاد حليفًا لتلك السلطة ولو بشكل غير معلن. وقد كان له ذلك بتولي إسماعيل السحباني الأمانة العامة للاتحاد إثر مؤتمر سوسة (1989). إنه التحييد بكسب التأييد. ولقد استثمر في ذلك ما بدا تعبيرًا منه عن "حُسن النية" حينما أعاد إلى الاتحاد ممتلكاته التي صودرت منه في غمرة احتداد الصراع بينه وبين النظام البورقيبي واعترف بقيادته الشرعية الموحدة بعد أن فشل "النقابيون الشرفاء" المنشقون عن مكتبه التنفيذي، في نوفمبر/تشرين الثاني 1983، في تثبيت منظمتهم النقابية التي أسسوها، في فبراير/شباط 1984، وأطلقوا عليها اسم "الاتحاد الوطني التونسي للشغل".

في تلك الأثناء، كان الرئيس زين العابدين بن علي يعمل حثيثًا على توطيد أركان حكمه مصطنعًا "معارضة كرتونية" رسمية باهتة وشبه موالية له وباطشًا بحزم وقوة بالتنظيمات السياسية التي اعتبرها "مناوئة" له أو "ساعية إلى الانقضاض على السلطة"، ولاسيما "حركة النهضة" الإسلامية التي صنَّفها على أنها حركة أصولية تمامية مناهضة للحداثة والتحرر وذات مشروع مجتمعي مهدد لمكاسب المجتمع ونمط عيشه ولحقوق المرأة. كما تعامل نظام ابن علي بشدة مع "حزب العمال الشيوعي التونسي" الذي رفض "التطبيع" مع "صانع التغيير" والتسليم بأن ما قام به، فجر يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، هو "تحول مبارك" من "العهد القديم" (البورقيبي) إلى "العهد الجديد" (النوفمبري)، فلاحق قيادته؛ مما اضطرها إلى العودة إلى العمل السري كما كانت الحال في زمن بورقيبة.

وعلى أية حال، فإن علاقة الاتحاد العام التونسي للشغل بالسلطة السياسية في عهدي بورقيبة وابن علي اتسمت بنوع من "التعاون الصراعي"، والعبارة مقتبسة من أطروحة عالم اجتماع الفعل، آلان توران كما أن "الارتباط التخادمي" و"التحالف الموضوعي" و"التقاء المصالح" و"حركة المد والزَّجر" كلها ملامح أسهمت في رسم تلك العلاقة التي حاول الاتحاد من خلالها أن يحفظ وجوده ويعزز موقعه في المشهد السياسي ويحافظ على مكاسبه. لكن السلطة هي الأخرى حاولت من جهتها أن تستخدم الاتحاد كأحد أذرعها المتغلغلة في نسيج المجتمع، ولاسيما حينما كانت قياداته تنتمي سياسيًّا إلى الحزب الحاكم زمن بورقيبة (الحزب الاشتراكي الدستوري)، أو حتى حينما كانت تلك القيادات قريبة من "التجمع الدستوري الديمقراطي" (حزب الرئيس، ابن علي). وفي مطلق الأحوال، كان هدف السلطة السياسية الحاكمة مزدوجًا: الضغط على منسوب النضال النقابي و/أو السياسي ومراقبته، واحتواء الاتحاد وتحييد دوره الريادي.

وغداة اندلاع "ثورة الحرية والكرامة" (ديسمبر/كانون الأول 2010 -يناير/كانون الثاني 2011)، أسهمت فيها قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل الجهوية والمحلية وقواعده من خلال المشاركة الواسعة في المسيرات الاحتجاجية التي عمَّت البلاد، وأفضت إلى هروب الرئيس زين العابدين بن علي إلى المملكة العربية السعودية، مساء يوم الجمعة 14 يناير/كانون الثاني 2011، إثر مسيرة كبرى بشارع الحبيب بورقيبة(19) تلت تجمعًا صباحيًّا بساحة محمد علي الحامي بالعاصمة أمام مقر الاتحاد وانضمت إليها الفعاليات النقابية والشخصيات السياسية الحزبية والمستقلة، تلت مسيرة مشابهة وإضرابًا عامًّا بمدينة صفاقس، يوم الأربعاء 12 يناير/كانون الثاني 2011.

وقد ظل الاتحاد العام التونسي للشغل رقمًا صعبًا في المعادلات السياسية طوال مرحلة الانتقال الديمقراطي، ولم يكن بوسع أي حكومة من الحكومات المتعاقبة أن تتجاهله؛ مما جعله يكتسب نوعًا من الوطأة على جميع تلك الحكومات ويتحكَّم بطريقة أو بأخرى ليس فقط في تركيبتها وإنما أيضًا في خياراتها وأولوياتها. كما كان الاتحاد ممثَّلا في تلك الحكومات بوزراء قريبين منه أو هم من قياداته السابقة.

3. "الاتحاد" في زمن ما بعد الثورة ولعبة السياسة خارج إطار الأحزاب

ما من شك في أن الاتحاد العام التونسي للشغل، بإرثه التاريخي الوطني والنقابي، باعتباره سليل الحركة الوطنية المقاومة للهيمنة الاستعمارية، يمثِّل قوة اجتماعية ذات تأثير واضح في مجريات الحياة السياسية، ولاسيما خلال السنوات العشر التي أعقبت الثورة التونسية. ويُعرِّف الاتحاد العام التونسي للشغل نفسه بأنه "منظمة نقابية وطنية ديمقراطية" مستقلة عن كل التنظيمات السياسية. إلا أن هذا التعريف يحتاج، في نظر الباحث، إلى التدقيق والتنسيب ولاسيما في ضوء الخطاب النقابي الجديد (بعد الثورة) الذي أصبح فيه "الدور الوطني" (أي السياسي) للاتحاد حاضرًا، شكلًا وخلفية، بطريقة تكاد تحجب "الدور النقابي" (أي الاجتماعي). ومع أن الاتحاد العام التونسي للشغل ليس حزبًا سياسيًّا، بالمعنى القانوني للكلمة، إلا أنه أصبح يلعب دور "الحَكَم بين الأحزاب السياسية" و"الوصي" على الحياة السياسية في تونس، دون أن يتحمل مسؤولية الأخطاء السياسية التي تقع فيها الأحزاب الحاكمة والمعارضة على حدٍّ سواء؛ حيث إنه يتبرأ منها ومن أخطائها رافعًا شعار "الاستقلالية النقابية". فهو "يحكم دون أن يحكم" ولكنه "يغنم دون أن يغرم" أي إنه يحكم باسمها ويحركها من وراء ستار ثم يمسح أخطاء الحكم في جلابيبها ويقفز على الربوة، وكذا يفعل مع كل وافد جديد على الحكم بعد الثورة.

ومما عزز موقف الاتحاد العام التونسي للشغل وجعل شوكته تقوى أكثر فأكثر قيادته للحوار الوطني، أواخر سنة 2013، إثر أزمة سياسية خانقة أعقبت اغتيال كل من شكري بلعيد، زعيم حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (في 6 فبراير/شباط 2013)، ومحمد البراهمي، زعيم حزب التيار الشعبي (في 25 يوليو/تموز 2013)، ضمن ما عُرف بالرباعي الراعي للحوار. ورغم أن الاتحاد العام التونسي للشغل قد حاول الاستثمار في رأس ماله الرمزي القديم حينما بادر منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2020 باقتراح إجراء حوار وطني جديد يرعاه رئيس الجمهورية، قيس سعيد، إلا أن الرئيس لم يُعِر هذه المبادرة كثيرًا من الاهتمام معتبرًا أن البلاد تحتاج إلى حوار مباشر بين القيادة السياسية، ممثلة في رئيس الجمهورية، والشعب الذي يعبِّر عن إرادته دون أجسام وسيطة. ومع ذلك، بدا أن موقف الاتحاد العام التونسي للشغل قد رجَّح، بعد بعض التردد المكتوم، مساندة ما سُمِّي بحركة 25 يوليو/تموز 2021 أو "حركة تصحيح مسار الثورة"، في محاولة منه لاستيعاب هذا المسار وتوجيهه وتوظيفه والاستفادة منه هو الآخر، إلا أن نزوع رئيس الجمهورية، قيس سعيد، إلى احتكار البطولة والزعامة جعل الاتحاد في موقف ارتكاسي يلاحق هذا مسار الغامض الأفق ولا يستطيع احتواءه.

وقد نجح الرئيس قيس سعيد في اللعب على التناقضات الأيديولوجية القائمة بين أكبر قوة اجتماعية بالبلاد، وهي الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يهيمن على قيادته اليسار النقابي وبعض الأطياف القومية، وأكبر قوة سياسية وهي حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية. وقد استفاد من تعميق الشرخ القائم بينهما في خلق صراعات جانبية بين معارضيه؛ حاول الاتحاد أن ينأى بنفسه عنها وأن يستفيد هو الآخر من تشظي المشهد السياسي ليبرز قوة نقابية مؤثرة في الحياة السياسية مستنجدًا بدوره الوطني الذي لطالما أبرزه رقمًا صعبًا في المشهد السياسي دون أن يكون منضبطًا بقواعد العمل الحزبي ونواميسه بحيث يحصد المغانم ويتنصَّل من مسؤولية المغارم. لكن هذه اللعبة المفضلة لدى الاتحاد العام التونسي للشغل لم تعد تجدي كثيرًا في ظل الواقع الجديد الذي فرضه الرئيس قيس سعيد بعد أن أصبح اللاعب السياسي الوحيد الذي يهيمن على كل مفاصل الدولة ويكاد يجمع بين يديه كافة السلطات بما في ذلك السلطة القضائية حيث عيَّن بنفسه أعضاء مجلس القضاء المؤقت بعد أن حلَّ المجلس الأعلى للقضاء وأعفى أكثر من خمسين قاضيًّا من مناصبهم من بينهم رئيس المجلس نفسه. وقد أدرك الاتحاد ذلك وعبَّرت قيادته عن هذا الإدراك في أكثر من مناسبة، لكنه ظل يراوح بين موقفين لا يستطيع أن يصدح بأي منهما، فلا هو مستعد لإعلان مساندته الصريحة لمشروع الرئيس قيس سعيد الذي بدأت تتضح معالمه نسبيًّا بعد عرض الدستور الجديد على الاستفتاء، يوم 25 يوليو/تموز 2022، ولا هو في وارد إعلان معارضته الواضحة لهذا المشروع الذي سيهمش الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية الكبرى على حدٍّ سواء وسيسحب البساط من تحتها دون أن يكون بديلًا عنها.

4. "الاتحاد": عامل توازن سياسي وأمان اجتماعي أم عنصر معطل لمسار الانتقال الديمقراطي؟ما من قوة سياسية أو اجتماعية في تونس تستطيع أن تتجاهل دور الاتحاد العام التونسي للشغل في تحقيق التوازن السياسي والأمان الاجتماعي في البلاد. وقد برهن الاتحاد على قدرته على لعب هذا الدور حينما قاد

تجربة "الرباعي الراعي للحوار الوطني"، في 2013، على صعوبتها وحساسية الظروف التي حفَّت بها. لكن الاتحاد نفسه يحتاج إلى إعادة ترتيب بيته الداخلي وحسم بعض المسائل الحساسة المتعلقة بالتداول على القيادة العليا وتعزيز شغل المرأة للمناصب القيادية، والتناغم بين القيادات القطاعية والقيادة المركزية وبين هذه الأخيرة والقيادات الوسطى والميدانية. وحتى لا يكون الاتحاد مضطرًّا إلى صرف أنظار النقابيين إلى الخارج في حركة هروبية إلى الأمام تتجاهل مشاكل الداخل، فهو مدعو إلى تقوية جبهته الداخلية التي أصابها ما أصابها من التصدع والهشاشة، ولاسيما إثر "التمديد القسري" لولاية أمين عام الاتحاد، نور الدين الطبوبي، وبعض أعضاء المكتب التنفيذي الذين كان يفترض أن يغادروا جميعًا طبقًا للنظام الداخلي للاتحاد بعد إتمامهم لدورتين متتاليتين. ولهذا لن يسهم الاتحاد بالفعالية المطلوبة في تحقيق التوازن السياسي والأمان الاجتماعي المطلوبين على الصعيد الوطني دون أن يحقق أسباب القوة اللازمة لذلك. وقوة الاتحاد في تماسكه داخليًّا وفي وحدته كيانًا وموقفًا. وتونس تحتاج أكثر من أي وقت مضى لمنظمات وطنية قوية وفاعلة يسهم جميعها، إلى جانب الأحزاب السياسية الوازنة وسائر القوى المدنية الحية في تجنيب البلاد سيناريوهات الانهيار والفوضى والانفلات التي باتت مخاطرها غير بعيدة الاحتمال.

ويُحسب للاتحاد العام التونسي للشغل أن قيادته وإن تأخرت في دعم الثورة، فإنها لم تتأخر في المشاركة في تأسيس مجلس حماية الثورة، أواسط فبراير/شباط 2011، ثم في تأسيس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي؛ حيث كان ممثلًا فيها بخمسة أعضاء. كما أسهم الاتحاد في تركيز أول هيئة عليا مستقلة للانتخابات وفي إنشاء فروعها بالجهات (المناطق). وقد شاركت قواعد الاتحاد وقياداته الميدانية قبل ذلك في اعتصامي القصبة (1 و2) اللذين فرضا خيار انتخاب مجلس تأسيسي تكون مهمته الأساسية كتابة دستور جديد للبلاد. وقد تمت المصادقة على هذا الدستور التوافقي بأغلبية ساحقة، في 26 يناير/كانون الثاني 2014. كما حرص الاتحاد على توقيع العقد الاجتماعي قبيل ذلك، 14 يناير/كانون الثاني 2014، من أجل مأسسة الحوار الاجتماعي. ومع أن الاتحاد قد ناهض حكومة الترويكا (حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات) وكان من أشد خصومها ومن أكثر المطالبين برحيلها في اعتصام باردو (صائفة 2013)، إلا أن قيادته رفضت مسايرة المعارضة في مطالبتها بحل المجلس التأسيسي، تقديرًا منها أن مثل تلك الخطوة هي قفزة في المجهول قد تُدخل البلاد في متاهة لا تعرف نهايتها. بل إن الاتحاد خطا خطوة نوعية إلى الأمام حينما دعا إلى حوار وطني جامع أفضى إلى التوافق على تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة (تكنوقراط)، في أواخر سنة 2013، كانت مهمتها الأساسية استكمال المرحلة الانتقالية وتهيئة المناخ الملائم لتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية في أواخر سنة 2014. وقد فعلت ثم فسحت المجال لحكومة حزبية توافق عليها "الشيخان". وقد كان نجاح الحوار الوطني وما أفضى إليه من استقرار سياسي وراء منح الاتحاد العام التونسي للشغل، إلى جانب بقية مكونات الرباعي الراعي للحوار، جائزة نوبل للسلام، في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2015.

ومع أن الاتحاد العام التونسي للشغل قد دأب على الدعوة إلى الحوار والتفاوض -وله في ذلك تقاليد راسخة- حيث انضم في 13 يوليو/تموز 2015 إلى تسعة أحزاب ومنظمتين وطنيتين (الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري) للتوقيع على "وثيقة قرطاج" التي اقترحها الرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي، في إطار مبادرته المتعلقة بتشكيل "حكومة وحدة وطنية"، ثم بادر بطرح مبادرة للحوار في أواخر سنة 2020 حينما تفاقمت الخلافات بين رئاسة الجمهورية من جهة، ورئاستي البرلمان والحكومة من جهة ثانية، إلا أن ذلك وغيره مما سبقت الإشارة إليه لا يعفيه من جانب من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع من فوضى وهشاشة وغموض رؤية وعدم استمرارية للدولة، ولاسيما في ظل تفاقم الصراعات السياسية وتعاقب الحكومات الظرفية وعدم وضوح الخيارات والأولويات وعجز السلطات العمومية عن تحقيق أهداف الثورة والاستجابة لانتظارات المواطنين.

لقد كانت قيادة الاتحاد حريصة على الزعامة والريادة ومسك خيوط اللعبة السياسية وتدجين الحكومات المتعاقبة، ومن ثم إضعاف الأحزاب والقوى السياسية التي تشكِّلها أو تدعمها وتسفيهها؛ مما أسهم في ترذيل الحياة السياسية والعمل البرلماني، ومن ثم شيطنة السياسيين والنواب المتحزبين وإظهارهم في صورة المتهافتين على السلطة والانتهازيين المنصرفين عن الاهتمام بمشاغل المواطنين. صحيح أن البرلمان شهد مماحكات ومناكفات عديدة، وصحيح أن الحكومات ظلت تلاحق المشكلات ولا تستبقها، وتعالج الأعراض دون أن تهتم كما يجب بالجوهر. لكن صحيح أيضًا أن الاتحاد قد أطلق العنان لكل النقابات التي تتبعه، في كل القطاعات، لكي تستخدم حق الإضراب على إطلاقه -بما في ذلك الإضراب العشوائي - وتطرح ما يحلو لها من المطالب دون أن تلتزم بأي سقف ودون أن تراعي أي ضابط تنظيمي كُتب في نص قانوني أو جرى به العمل. بل إن قيادة الاتحاد دأبت على الدفاع عن منظوريها ونصرتهم ظالمين أو مظلومين وقلما عبَّرت عن عدم موافقتها على مطلب غير واقعي أو على إضراب غير قانوني أو على سلوك غير منضبط صدر من أحد النقابيين في حق أي مسؤول من مسؤولي الدولة بمن في ذلك كبار المسؤولين. لقد فاق تمرد النقابيين على القواعد القانونية، بما في ذلك القواعد المنظمة للتفرغ النقابي أو للإضراب عن العمل، وتجرؤهم على مسؤولي الدولة ورموزها، وتعطيلهم لسير العمل بالمرافق العامة والخاصة، وتدخلهم السافر في تسيير المؤسسات، وتنمرهم على كل من يتشبث بتطبيق القانون ويحرص على إعلاء المصلحة العليا... لقد فاق كل ذلك وغيره من التجاوزات كلَّ التوقعات.

وإذا كانت القيادات النقابية الوسطى والميدانية قد "تحررت" إلى حدٍّ ما من سلطة القيادة النقابية المركزية حتى إنها أصبحت تتحداها من حين لآخر، وتضعها أمام الأمر الواقع، مستغلة بعض الصراعات و/أو التوازنات الداخلية، فإن ذلك يحدث بالأساس في الأوساط المهنية ولا يكون له في الأعم الأغلب بعد سياسي واضح. أما مواقف الاتحاد من التحولات السياسية والأحداث الجارية والخيارات المطروحة على الصعيد الوطني، فإنها من اختصاص القيادة النقابية العليا. وهي مسؤولة عنها أمام منظوريها ولكن أيضًا أمام الفاعلين السياسيين الوطنيين؛ حيث إن هؤلاء وإن نادوا في زمن السلم والاستقرار بضرورة أن يكتفي الاتحاد بإبراز هويته النقابية فيصدر عن مرجعيتها المضيقة في نضالاته وتحركاته تاركًا السياسة وإدارة الشأن العام للسياسيين الذين فوضهم الشعب للقيام بذلك وسيحاسبهم عبر صناديق الاقتراع، إلا أنهم سرعان ما يهرعون إلى ساحة محمد علي الحامي (مقر الاتحاد) كلما احتد بينهم الصراع أو أصاب بعضهم التهميش أو الإزاحة عن المشهد السياسي معولين على سطوته على خصومهم وآملين في نصرته لهم. ويبدو أن الاتحاد قد استمرأ هذا الدور، دور الملجأ والملاذ الذي يجعل الجميع يخطبون وده ويُعرضون عن محاسبته بل ويغضون الطرف عن أخطائه. كيف لا، وهو المربط النشيط والمحور الذي يدور حوله بقية الفاعلين السياسيين والاجتماعيين؟! والاتحاد يدرك ذلك تمامًا. لذلك، فهو يعمد إلى التمنع والتسويف وسائر أشكال المناورة كلما عاد إليه قصب السبق أو استعاد زمام المبادرة. لكن الاتحاد يدرك أيضًا أنه ليس بمنأى عن المحاسبة، تمامًا مثلما يدرك أنه قد يجد نفسه في مرمى "النيران الصديقة". لذلك، هو يحاول أن يدير اللعبة بحذر مطالبًا السلطة القائمة بضمانات واضحة.

خاتمة

رغم الرصيد الذي راكمه الاتحاد العام التونسي للشغل في مضمار إدارة الأزمات والتعاطي مع الوضعيات المتأزمة، بما في ذلك السياسية والاجتماعية والاقتصادية منها، لا يزال خطاب أمينه العام يعكس جنوحًا إلى توخي أسلوب المناورة والحذر في التعبير عن موقف الاتحاد مما يحصل من تحولات وأحداث منذ أن تم إعلان الإجراءات الاستثنائية من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيد، في 25 يوليو/تموز 2021. وهذا قد يُفهم على أنه جزء من إستراتيجية الاتحاد لإعادة التموقع في المشهد السياسي الجديد الذي تبدو فيه الأحزاب مهمشة وشبه عاجزة عن التأثير في مجريات الأحداث. أما المنظمات الوطنية، وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل، فهي تناضل من أجل البقاء وتعمل على إيصال صوتها والتأثير في النخب وفي الجمهور العريض في ظل هيمنة خطاب شعبوي حرص الرئيس قيس سعيد على أن يوظفه في كل مناسبة لتخوين خصومه وشيطنتهم.

وحيث إن حبل الشعبوية قصير، لأن مطارق الواقع أشد منها تأثيرًا في مواقف الناس واتجاهاتهم، فإن كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين الديمقراطيين، بمن فيهم مزدوجو المكانة والدور مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، مطالبون بحسم معركة الانتقال الديمقراطي لصالح الوطن ووضع حدٍّ للصراع القائم منذ أكثر من عقد من الزمن بين قوى الثورة المطالبة بإحداث تغيير حقيقي يحول دون الانتكاس والعودة إلى مربع الاستبداد، وقوى الثورة المضادة الرافضة للتغيير والمشكِّكة في الثورة والمرذِّلة للممارسة الديمقراطية. ولكن، هل الاتحاد الذي آثر منذ أكثر من سنة مراقبة الأحداث على الانغماس فيها ولم يلق بثقله في الميدان قادر في الوقت الراهن على قلب المعادلة والانتصار للشعب وللديمقراطية وبالتالي للثورة بعيدًا عن الشعبوية التي تثير الجعجعة والزبد الرابي ولكنها لا تنتج ما ينفع الناس ويمكث في الأرض؟