شهدت الولايات المتحدة في 8 نوفمبر الماضي انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، التي عبرت نتائجها عن حدوث المزيد من الانقسام بتحقيق الحزب الديمقراطي الفوز بالأغلبية في مجلس الشيوخ، مقابل تحقيق الجمهوريين الأغلبية في مجلس النواب، لتبدأ فترة تُعرف باسم "البطة العرجاء"، ويُقصَد بها افتقاد إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن الظهير البرلماني الكافي لإدارة البلاد ولتمرير القوانين الخاصة به في برنامجه الانتخابي. وفي هذا السياق، تمر الإدارة الأمريكية الحالية بنوع من أنواع إعادة الهيكلة، وهو ما أثار العديد من التساؤلات حول أبعاد تلك الهيكلة وتداعياتها المحتملة على عملية صنع السياسة الأمريكية.
تأثيرات مباشرة
عبَّرت نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونغرس عن حالة من التجاذب في الداخل الأمريكي؛ حيث لم يُحسَم السباق الانتخابي لصالح أحد الطرفين، لا لصالح الطرف الجمهوري ولا الديمقراطي؛ وذلك لاعتبارات تتعلق بمزاج الناخب الأمريكي، وانخفاض شعبية بايدن. ومن ثم، فإن من المُتوقَّع أن تشهد عملية صنع القرار الأمريكي، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي، عملية إعادة هيكلة للأعضاء والقضايا محل الاهتمام، وهو ما يؤشر على أن النصف الثاني من عمر الولاية الأولى للرئيس بايدن سيكون حرجاً. وتتضح ملامح الهيكلة عبر ما يلي:
1– تغيير القيادات الديمقراطية في داخل مجلس النواب: انتخب الديمقراطيون في مجلس النواب الأمريكي حكيم جيفريز زعيماً لهم ليصبح أول أمريكي من أصول أفريقية يتولى مثل هذا المنصب الرفيع في الكونغرس، إلى جانب تعيين النائبة كاثرين كلارك عن ولاية ماساتشوستس والنائب بيت أجويلر من كاليفورنيا نائبَين للرئيس الجديد. ويُمثِّل انتخاب الديمقراطيين لـ”جيفريز” صعوداً لجيل أصغر سناً من القادة في مجلس النواب الأمريكي، بعد تنحي نانسي بيلوسي عن زعامة الديمقراطيين. وأعلن جيفريز رسمياً ترشحه للمنصب في 18 نوفمبر الماضي بعد عشرة أعوام قضاها في المجلس، متعهداً برئاسة كتلة تُعيد السلطة إلى أعضاء اللجان وتمنح النواب الجدد دوراً أكبر في صياغة التشريعات وتولي مناصب رفيعة. وفي المقابل، يسعى زعيم الجمهوريين كيفن مكارثي إلى أن يصبح رئيس مجلس النواب القادم.
2– احتمال تعطُّل بعض الخطط المتعلقة بالمناخ والنفط: على الرغم من حصول الجمهوريين على الأغلبية بمجلس النواب، فإنه هذا لا يعني قدرتهم على تعطيل انضمام الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للتغير المناخي، ولكن بما أنهم يمكنهم التحكم في الميزانية العامة للبلاد، فمن الممكن أن يدخلوا في مفاوضات مع الإدارة الأمريكية لتخفيف جزء من الأموال المخصصة لمواجهة التغير المناخي، وفرض رؤيتهم للحد من القيود المفروضة على شركات النفط وأماكن تكريره. ومن المتوقع أن يستجيب بايدن لرغبات الجمهوريين نتيجة صعوبة الوضع الاقتصادي الداخلي، وتداعيات استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، والدعم الأمريكي للجانب الأوكراني، فضلاً عن التوترات المتزايدة مع الصين وإيران.
3– تعقيد جهود بايدن لإحياء الاتفاق النووي الإيراني: يحرص الجمهوريون في كلا المجلسين (النواب والشيوخ) على الضغط على إدارة بايدن بشأن سياستها تجاه إيران؛ حيث انتقد العديد من الجمهوريين الرئيس بايدن لعدم بذل المزيد من الجهد لدعم المتظاهرين الإيرانيين ضد نظام الملالي منذ أسابيع، كما أن مكاسب الجمهوريين في الكونغرس ستزيد من تعقيد جهود بايدن لإحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، الذي تخلى عنه ترامب؛ حيث يمكن لمجلسَي النواب والشيوخ التصويت للتعبير عن رفض الاتفاق النووي مع طهران، ومنع الرئيس من رفع العقوبات المفروضة على الاقتصاد الإيراني التي فرضها الكونغرس في السابق، خاصةً مع عودة بنيامين نتنياهو رئيساً لوزراء إسرائيل، الذي له علاقات وثيقة بقادة الجمهوريين في الكونغرس.
4– تشديد الرقابة على المساعدات العسكرية لأوكرانيا: ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية في بعض تقاريرها أن فوز الجمهوريين بالأغلبية في مجلس النواب الأمريكي يورط الديمقراطيين لدفع ثمن المساعدة العسكرية الضخمة لأوكرانيا؛ حيث تمسَّك ممثلو الحزب الجمهوري بضرورة الإبلاغ عن المبالغ المخصصة لأوكرانيا، وهو ما ظهر في تصريحات الجمهوريين، مثل النائبة الجمهورية ماجوري تايلور التي أكدت أنه “لن يتم تخصيص قرش لأوكرانيا”، مؤكدةً “أحقية الأمريكيين بهذه الأموال”، بينما توعد كيفين مكارثي زعيم الجمهوريين في مجلس النواب، بعدم تقديم الكونغرس "شيكاً على بياض لأوكرانيا".
وظهر ذلك في موافقة الكونغرس على مشروع قانون مخصصات الدفاع الوطني السنوية، الذي تتضمَّن أحكامه إعداد تقارير متكررة للبنتاغون، وتعيين مفتشين عامين لنقل الممتلكات العسكرية. وبشكل عام، فإن احتمال إساءة القوات الأوكرانية استخدام الأسلحة التي تلقَّتها هو أمر يُثير قلق الكثيرين في واشنطن، كما شدد المراقبون على أن المخاوف بشأن ذلك تتزايد على خلفية توريد أسلحة أخف وزناً، ويصعب تعقُّب استخدامها.
5– حدوث تشدُّد أكبر في التعامل مع الجانب الصيني: من المتوقع حدوث تشدد أكبر في مواجهة الصين، ويدعم ذلك إعلان الزعيم الجمهوري في مجلس النواب الأمريكي كيفين مكارثي عن اعتزامه تشكيل لجنة منتخبة لمواجهة الصين بعد تعيينه رئيساً لمجلس النواب، خاصةً عندما يتعلق الأمر “بسرقة الملكية الفكرية” على حد قوله، متوعداً بوضع حد لهذا الأمر، وعدم السماح بعد الآن للإدارة بالجلوس على الهامش وترك الصين تفعل ما تفعله بالولايات المتحدة، على حد تعبيره.
تداعيات متوقعة
لا شك أن التغيرات التي أحدثتها نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، ستكون لها تداعيات متعددة على مستقبل عملية صنع السياسة الأمريكية. ويمكن توضيح هذه التداعيات عبر ما يلي:
1– تكيُّف سريع للديمقراطيين مع فقدان أغلبية مجلس النواب: يسعى الديمقراطيون إلى تأكيد واستعراض وحدتهم بعد خسارة مجلس النواب، والتكيف سريعاً مع هذا الوضع؛ حيث جاء الارتقاء السلس لجيل جديد من القادة الديمقراطيين في تناقض صارخ مع سلوك الجمهوريين، الذين لم يتوحَّدوا بعدُ حول زعامة كيفن مكارثي رغم فوزهم بأغلبية المجلس. ويحاول مكارثي حشد الدعم الكافي ليصبح رئيساً للمجلس؛ لذلك من المرجح أن يمنح الهامش الضيق لأغلبية الجمهوريين، وسيطرة مكارثي الضعيفة على تجمُّعه الحزبي، الديمقراطيين بعض النفوذ في المفاوضات، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتشريعات التي يجب تمريرها.
2– تزايد حظوظ الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية في 2024: على الرغم من عدم نجاح الجمهوريين في تحقيق “الموجة الحمراء العملاقة” في انتخابات الكونغرس الأمريكي، فإن هذا الأمر لم يمنع ترامب من إعلان ترشُّحه في انتخابات الرئاسة 2024، مؤكداً رغبته في قطع الطريق على بايدن بالفوز بولاية رئاسية جديدة، ومستفيداً من فوز بعض المرشحين الموالين له في بعض الولايات، كما يبرز في هذا الصدد رون ديسانتيس الذي سطع نجمه كمرشح رئاسي مؤخراً، وحقق نجاحاً في انتخابات حاكم ولاية فلوريدا في مواجهة الديمقراطيين. ومن ثم فإن من المتوقع أن نشاط الجمهوريين السياسي قد يأتي بثماره خلال الأعوام القادمة على حساب الديمقراطيين.
3– شكوك حول قدرة الرئيس بايدن على الفوز بولاية ثانية: يواجه الرئيس بايدن عدة تحديات قد تمنعه من الفوز بفترة رئاسية أخرى، أبرزها تقدمه في العمر؛ حيث أصبح الرئيس الأكبر سناً في تاريخ الولايات المتحدة، إلى جانب عدم تحقيق الديمقراطيين فوزاً كاسحاً يضمن لـ”بايدن” تمرير قوانين برنامجه الانتخابي بسلاسة. يُضَاف إلى ذلك سعي الحزب الجمهوري في مجلس النواب إلى التحقيق في تعاملات نجل الرئيس هانتر بايدن التجارية الخارجية؛ فوفقاً لاستطلاع للرأي أجراه “راسموسن ريبورتس” مؤخراً، فإن 62% من الناخبين المحتملين في الولايات المتحدة يؤيدون الخطط المعلنة مؤخراً من قبل كبار الجمهوريين في لجان الرقابة والقضاء بمجلس النواب للتحقيق في المشاريع الخارجية التي قام بها نجل الرئيس.
وبناءً على كل هذه العوامل، تراجعت شعبية الرئيس بايدن لصالح الجمهوريين الذين ينتظرون انتهاز الفرصة؛ فوفقاً لآخر استطلاع للناخبين المسجلين، نشره مركز “هارفارد للدراسات السياسية الأمريكية”، فإن من المحتمل أن يتفوق أيٌّ من الجمهوريين، سواء الرئيس السابق دونالد ترامب أو حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس على الرئيس بايدن، الذي يحصل على 42% مقابل 44% لـ”ترامب”، ويتعادل مع ديسانتيس بنسبة 43%.
انقسامات واضحة
وإجمالاً لما سبق، لا شك أن نتائج انتخابات الكونغرس الأمريكي كشفت عن انقسام أمريكي واضح؛ ليس فقط على المستوى الشعبي، وإنما كشفت حالة الاستقطاب والتحفُّز على المستوى الحزبي؛ فرداً على جهود الديمقراطيين لإقصاء ترامب عن سباق الترشح في الانتخابات القادمة من خلال حكم قضائي، قام الجمهوريون بحملات لإطلاق التحقيقات ضد بايدن ونجله، وهو ما يشير إلى إمكانية نجاح الجمهوريين في ممارسة ضغط شديد على سياسات إدارة بايدن المحلية والدولية؛ ما يؤكد أيضاً تزايد حدة الاستقطاب بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال العامين القادمين، خاصةً مع اتباع أسلوب الشعبوية الذي يطرحه الرئيس السابق ترامب، ويعمل عليه في خطابه الإعلامي والسياسي.