أطلقت كوريا الشمالية، يوم 18 نوفمبر 2022، صاروخاً باليستياً عابراً للقارات من طراز "هواسونج – 17" باتجاه بحر اليابان، والذي سقط على بعد 200 كيلومتر من جزيرة أوشيما بالقرب من هوكايدو داخل المياه الإقليمية الخالصة لليابان، وهو الأحدث في سلسلة التجارب الصاروخية لكوريا الشمالية التي أطلقت أكثر من 52 صاروخاً منذ 25 سبتمبر 2022 حتى الآن.
ويلاحظ أن الصاروخ الأخير، وفقاً للتقييمات الأولية للخبراء يصل مداه إلى حوالي 15 ألف كيلومتر، أي أنه بات قادراً على الوصول إلى أغلب أجزاء الولايات المتحدة، كما أنه قادر على حمل حوالي 4 رؤوس نووية، وهو ما يجعل من الصعب على أي نظم للدفاع الجوي اعتراضه، وهو ما يمثل إضافة قوية لقدرات كوريا الشمالية الباليستية.
أسباب التصعيد الصاروخي:
يمكن تفسير تصعيد كوريا الشمالية الأخير بالنظر إلى العوامل التالية:
1- مواجهة المناورات الأمريكية: سعت كوريا الشمالية لمواجهة المناورات العسكرية الأمريكية المشتركة مع كوريا الجنوبية في أكتوبر 2022، والمسماة "عملية العاصفة اليقظة"، والتي وصفتها بأنها استفزازية وتهديد عسكري لها، حيث تضمنت 240 طائرة حربية نفذت حوالي 1600 طلعة جوية، إضافة إلى قاذفات القنابل الأمريكية من طراز "بي – 1 بي لانسر".
أضف إلى ذلك، القمة الثلاثية التي عقدت يوم 13 نوفمبر بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان والتي انتقد خلالها زعماء تلك البلدان الإطلاق الصاروخي لبيونج يانج، وتعهدوا بتعاون أمني أكبر بينهم، وهو ما فسرته كوريا الشمالية على أنه محاولة أمريكية لتشكيل "حلف ناتو" جديد بشبة الجزيرة الكورية.
2- تأكيد العقيدة النووية للبلاد: يظهر التطور الكمي والنوعي للأسلحة النووية لكوريا الشمالية، رغبتها في التأكيد على التعامل معها كقوة نووية على المسرح العالمي. ففي سبتمبر 2022، أقرت كوريا الشمالية قانوناً نووياً جديداً يعد تحديثاً هو الأكبر من نوعه منذ عقد تقريباً لقانون الأسلحة النووية، والذي يوضح التسلسل القيادي النووي في حالة وفاة زعيم البلاد كيم جونج أون.
وينص التعديل الجديد على أنه "في حالة تعرض نظام القيادة والسيطرة على القوات النووية الحكومية للخطر بسبب هجوم من قبل قوات معادية، يجب إطلاق ضربة نووية تلقائياً وفوراً لتدمير القوات المعادية بما في ذلك نقطة منشأ الاستفزاز والقيادة، وفقاً لخطة العملية المقررة مسبقاً". كما أعلن كيم في أكتوبر الماضي عن قانون جديد حدَّث العقيدة النووية للبلاد، وأعلن أنها لا رجعة فيها كدولة حائزة للأسلحة النووية، وهو ما يعني أنه ليس من الوارد أن توافق بيونج يانج أن تتخلى عن أسلحتها النووية كما تطالب واشنطن.
وتأمل بيونج يانج أن تؤدي الخطة الجديدة إلى تفكير واشنطن وسيول مرتين قبل استهداف قيادة البلاد، لاسيما مع رصد مراكز الأبحاث الغربية، منذ يونيو 2022، بالاعتماد على صور الأقمار الاصطناعية قيام كوريا الشمالية بإصلاحات في موقع "بونجي ري" (Punggye-ri) للتجارب النووية استعداداً لما يبدو أنه التجربة النووية السابعة لها. كما حذر مسؤولون أمريكيون وكوريون جنوبيون مراراً خلال الأسابيع الماضية، من أن كوريا الشمالية تستعد لإجراء تجربة نووية "في أي وقت".
3- التفاوض وفق قواعد جديدة: تتبع كوريا الشمالية سياسة حافة الهاوية بهدف إجبار الولايات المتحدة على قبول فكرة أن كوريا الشمالية باتت قوة نووية بحكم الأمر الواقع، فضلاً عن التفاوض بشأن التنازلات الاقتصادية والأمنية من موقع القوة.
كما تهدف أيضاً إلى تعزيز قدرات الضربات النووية لإزعاج حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وعلى رأسهم كوريا الجنوبية واليابان، وممارسة ضغوط جديدة على إدارة بايدن، التي أعلنت بأنها منفتحة على المحادثات وهو ما قوبل بالرفض من قبل كوريا الشمالية، وذلك لتحقيق الهدف الأساسي لكوريا الشمالية، وهو العودة إلى المحادثات وفق صيغة جديدة تستند إلى تخفيف العقوبات الاقتصادية ضد كوريا الشمالية، مقابل التراجع عن التصعيد النووي، وليس مقابل التخلي عن أسلحتها النووية.
يضاف إلى ما سبق رغبة قيادة كوريا الشمالية في تعزيز الولاء للنظام الحاكم، لاسيما بعد معاناة كيم محلياً بسبب فشل المفاوضات مع الولايات المتحدة في قمتي سنغافورة عام 2018 وهانوي عام 2019.
4- ضعف الأنظمة الجوية لكوريا الشمالية: جادل بعض الخبراء، بأن إطلاق بيونج يانج هذا الكم من الصواريخ الباليستية ناجم عن أن كوريا الشمالية لا تمتلك نظام سلاح جوي قوي، في حين تمتلك كوريا الجنوبية أحدث المقاتلات الجوية، وهو ما يثير القلق لدى بيونج يانج، لاسيما أن معظم التدريبات المشتركة بين واشنطن وسول هي تدريبات جوية.
ويلاحظ أن غالبية الطائرات الموجودة في بيونج يانج، إما خارج الخدمة أو متهالكة أو لا ترقى لمستويات الطائرات الحديثة الحالية فبينما تتدرب أمريكا وكوريا الجنوبية على طائرات الجيل الخامس من طراز "إف 35"، لا تمتلك كوريا الشمالية سوى طائرات طراز قديم تصل أعمارها إلى أكثر من 25 عاماً.
5- إفشال استراتيجيات كوريا الجنوبية: من الأسباب وراء التوجه الكوري الشمالي لتبني سياسة تنفيذ ضربات نووية وقائية، تفعيل كوريا الجنوبية استراتيجية "سلسلة القتل"، والتي طرحت لأول مرة عام 2010، وذلك لمواجهة التهديد النووي الكوري الشمالي، إذ أعلنت سيول، بعد أن تولى الرئيس الجديد، يون سيوك يول، منصبه في مايو 2022، أنها ستعود إلى استراتيجيتها العسكرية، والتي تتضمن شن ضربات احترازية ضد جارتها الشمالية في حالة استشعار وقوع هجوم عسكري وشيك عليها.
استثمار صراعات القوى الكبرى:
هناك جملة من التفسيرات المتعلقة بتصرفات كوريا الشمالية الراهنة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- انشغال واشنطن بصراعات القوى الكبرى: يرجع التصعيد النووي لبيونج يانج إلى تصاعد صراعات القوى الكبرى، سواء تمثل ذلك في الحرب الروسية – الأوكرانية، أو في التوترات الصينية – الأمريكية حول تايوان، خاصة أن الحرب الأولى رتبت انشغالاً أمريكياً بتطورات الحرب، بل ومثّلت استنزافاً لها، على نحو ما يتضح مما كشفته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، في 27 نوفمبر الماضي، بأن مسؤولين أمريكيين ونواب في الكونجرس يخشون من أن يؤدي الصراع في أوكرانيا إلى تأخير جهود تسليح تايوان بما يقدر بحوالي 19 مليار دولار.
ويعني ما سبق أن واشنطن باتت منشغلة بالجبهة الأوروبية، مما قد يؤثر على قدرتها على التركيز مع كوريا الشمالية. كما أن هناك بعداً آخر للصراع الدائر بين روسيا والولايات المتحدة حول أوكرانيا، إذ إن موسكو وبكين باتت تعملان على إيجاد نظام مالي دولي موازٍ لنظيره الغربي، وفي حالة تمكنا من ذلك، فإن ذلك سوف يقوض من توظيف الغرب لسيطرته على النظام المالي العالمي كأداة لفرض العقوبات. ولا شك أن حدوث ذلك الأمر سوف يصب في النهاية في صالح كوريا الشمالية، والتي ستستفيد من مثل هذا النظام.
كما أن الحرب الروسية – الأوكرانية فتحت الباب أمام توثيق العلاقات بين بيونج يانج وموسكو، خاصة في ظل اتهام المسؤولين الغربيين بيونج يانج بإمداد موسكو بالذخيرة لدعم مجهودها الحربي في أوكرانيا. كما أن التوترات بين واشنطن وبكين حول تايوان، وسعي الأولى لتأسيس تحالفات ضد الصين في جنوب شرق آسيا، قد حد من التعاون بين واشنطن وبكين، وهو ما وضح في إخفاق مجلس الأمن الدولي في إصدار قرار يفرض عقوبات جديدة على كوريا الشمالية بسبب تجاربها الصاروخية فوق اليابان في مايو 2022، إذ استخدمت كل من الصين وروسيا حق الفيتو، وبررتا ذلك على أساس أن إطلاق كوريا الشمالية للصواريخ جاء رداً على التدريبات العسكرية بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وانتهى اجتماع المجلس دون إجماع أو عقوبات جديدة ضد كوريا الشمالية.
وقد دفع ذلك سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، "ليندا توماس غرينفيلد" للتصريح بأن روسيا والصين توفران حماية شاملة لكوريا الشمالية من أي إجراءات إضافية لمجلس الأمن الدولي.
2- الاستفادة من اتفاق أوكوس: تعد أحد العوامل التي تدفع بكين إلى التخلي عن ممارسة ضغوط على كوريا الشمالية لتحجيم برنامجها النووي، هو قيام واشنطن بانتهاك معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وذلك عبر إمداد أستراليا بغواصات نووية، فقد أكدت الصين، في 18 نوفمبر، على لسان وانغ تشيون، ممثل الصين الدائم لدى الأمم المتحدة في فيينا خلال اجتماع لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إن التعاون بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في مجال الغواصات النووية هو عمل سافر من أعمال الانتشار النووي وتحد خطير لعدم الانتشار يواجه المجتمع الدولي حالياً، ويجب التعامل معه بشكل مناسب. ويبدو أنه رداً على جهود واشنطن لدعم أستراليا بالأسلحة النووية، فإنه لن يكون هناك أي حافز لدى بكين لكبح جماح البرنامج النووي لكوريا الشمالية، وهو ما تدركه الأخيرة جيداً.
3- تقويض المظلة الأمنية الأمريكية: يلاحظ أن الصين تسعى لتقويض الجهود الأمريكية لبناء تحالفات أمنية تستهدف بكين في جنوب شرق آسيا. وتمثل كوريا الشمالية إحدى الأدوات في هذا الإطار، إذ إن تطور البرنامج النووي الكوري الشمالي، خاصة مع امتلاكها صواريخ باليستية عابرة للقارات يمكنها استهداف الولايات المتحدة يضعف المظلة الأمنية الأمريكية، ويشكك في موثوقية الاعتماد عليها بين حلفائها في جنوب شرق أسيا، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية.
ووضح ذلك في رد الرئيس الصيني، شي جين بينج، على نظيره الأمريكي، جو بايدن، والذي أكد فيه أنه لا يعرف ما إذا كانت الصين لديها القدرة على ممارسة ضغوط على كوريا الشمالية لمنعها من إجراء تجارب نووية. كما أشارت وزارة الخارجية الصينية إلى "المخاوف المعقولة" لكوريا الشمالية ودعت إلى "حل متوازن" وفقاً لما تسميه "نهج المسارين" لتعزيز نزع السلاح النووي وإنشاء آلية سلام في شبه الجزيرة الكورية، وهو ما يكشف أن بكين تتفهم موقف بيونج يانج، وتطلب من واشنطن تغيير نهجها.
وفي الختام، بات من الواضح أن كوريا الشمالية سوف تستمر في تعزيز قدراتها النووية، سواء عبر إجراء تجارب نووية جديدة، أو الاستمرار في تطوير صواريخ باليستية عابرة للقارات قادرة على الوصول إلى الأراضي الأمريكية، ونظراً لسعي واشنطن لتأسيس أحلاف عسكرية ضد روسيا والصين، فإن الدولتين لن تتعاونا مع واشنطن لكبح تهديدات كوريا الشمالية، وهو ما يحوّل جنوب شرق آسيا إلى أحد ساحات صراعات القوى الكبرى.