أعلنت وزارة الداخلية الألمانية عن اعتقال عدد من المواطنين الألمان بتهمة التخطيط لتنفيذ انقلاب ضد المؤسسات الديمقراطية فجر الأربعاء السابع من ديسمبر 2022. وهنا يثور السؤال: ماذا يحدث في ألمانيا؟. الإجابة الإعلامية قد تكون محاولة انقلاب فاشلة، أو محاولة للسيطرة على البرلمان باستخدام القوة العسكرية. لكن القراءة المتأنية للحدث تنبئ بأن ما حدث لا يرقى إلى مرتبة ما يمكن تسميته بـ "الانقلاب"، لكنه يفتح الباب لمناقشة أحد جوانب المخاوف والتهديدات الجديدة في الديمقراطيات الأوروبية وربما الغربية بشكل عام.
نعم ما حدث في ألمانيا لم يكن انقلاباً ولكنه كان تحركاً غير مسبوق يسعى لتغيير النظام بالقوة، أو ربما يأمل في ذلك بناءً على تبني أفكار وتصورات من رحم "نظرية المؤامرة". "المخاوف" هنا تكمن في اتساع دائرة المؤمنين بالأفكار اليمينية المتطرفة في نسختها الجديدة الأكثر تطرفاً وعنفاً وليس أقصى اليمين بالمعنى الحزبي والسياسي. و"التهديد" هنا يكمن في اتخاذ القرار للتحول من تبني الأفكار والإعلان عنها في التظاهرات المقننة وصفحات الدردشة على الانترنت إلى التنظيم الحركي والتخطيط لاستخدام العنف والجرأة في قرار مخالفة "القانون" في ألمانيا!
في قراءة سريعة لأحداث السابع من ديسمبر 2022، سنلقي الضوء على تفاصيل الحدث، ثم تحليل النواة الفكرية المتطرفة التي قام على أساسها هذا التنظيم وتلك المحاولة غير القانونية الفاشلة.
محاولة انقلاب فاشلة
قبيل انتهاء عام 2022، الذي شهد في بدايته التعافي من إغلاق كوفيد-19، وشهد كذلك الحرب الروسية-الأوكرانية، وأزمة الطاقة التي باتت مهدداً حقيقياً لمصانع ألمانيا وتدفئة منازل أوروبا كلها، أعلنت السلطات الأمنية الألمانية القبض على 25 شخصاً في 11 ولاية ألمانية، ينتمون إلى حركة الرايخسبورج (مواطني الرايخ).
تشير المعلومات الأولية إلى أن ما يقدر بنحو 50 رجلاً وامرأة شكلوا خلية لتنفيذ مخطط للإطاحة بالجمهورية واستبدالها بدولة جديدة على غرار إمبراطورية الرايخ الألمانية عام 1871. وصرحت المتحدثة باسم مكتب المدعي العام الفيدرالي الألماني قائلة: "ليس لدينا اسم لهذه الخلية حتى الآن". كما صرحت وزيرة الداخلية نانسي فيسر بأن الخلية مكونة – على ما يبدو – من مجلس تنظيمي وذراع عسكري.
ربما ما وقع في السابع من ديسمبر 2022 لم يكن محاولة انقلاب بالمعنى الكامل، إلا أنه كان عملاً متطرفاً عنيفاً واجهته السلطات الألمانية بقوات عسكرية بلغ عددها نحو 3 آلاف ضابط في 11 ولاية ووصلت الاعتقالات إلى خارج ألمانيا باعتقال شخص في النمسا وآخر في إيطاليا.
كما تشير المعلومات الصادرة عن مكتب المدعي العام بيتر فرانك إلى أن التخطيط بدأ منذ نهاية 2021، لتنفيذ انقلاب، كما أن التخطيط شمل تنصيب وزراء "ظل" من أعضاء الخلية بالفعل.
ولا زالت المعلومات الكاملة عن ماهية أعضاء هذه الخلية غير متوافرة بعد أو لم تعلن بعد، لكن المؤشرات الأولية تشير إلى أنه على مدار عام كامل تم تجنيد عدد من الشخصيات العسكرية وكذلك شخصية قضائية وعضو سابق في البرلمان فضلاً عن شخصيات يشتبه في ارتباطهم بالأعمال الاجرامية، إضافة إلى معلومات عن محاولات للتواصل مع روسيا.
وعلى هذا الأساس يمكن التأكيد على تطور حقيقي وخطير في التهديدات الأمنية لحركات وتيارات اليمين المتطرف في ألمانيا ليس فقط في مواجهة اللاجئين والمسلمين واليهود ولكن بالأساس في مواجهة الديمقراطية والقانون، وقد أكدت وزيرة الداخلية الألمانية أن السلطات سترد بقوة القانون على من أسمتهم "أعداء الديمقراطية".
هذه المحاولة لم تكن المخطط الأول الذي تم اكتشافه، ففي أبريل 2022 كشفت السلطات الأمنية أيضاً عن خطط لنفس الجماعة لاختطاف وزير الصحة الألماني في إطار معتقداتهم عن ارتباط وباء كوفيد-19 ولقاحاته بنظرية المؤامرة.
ومن الخطأ الذي شاع مؤخراً في وسائل الإعلام وصف الجماعة المسئولة عن التخطيط لمحاولة الانقلاب، بكونها جماعة نازية أو جزء من تيار النازيين الجدد في ألمانيا، لكن في الحقيقة هي جماعة ممن يطلق عليهم "الرايخسبورج".... فمن هم مواطنو الرايخ.
المخاوف من اتساع دائرة الأفكار اليمينية المتطرفة
يُعرف الرايخسبورج، بأنهم "مواطنو الرايخ"، وظلوا لسنوات مجموعة متفرقة من الأفراد، يحملون نفس التوجهات الفكرية، لكنهم لم يرقوا أبداً لاعتبارهم تنظيماً أو جماعةً أو حزباً. وهذه المجموعة تمثل مصدراً للقلق للأجهزة الأمنية الألمانية، ذلك لأنها لا تعترف بالدولة الألمانية وأي من الحكومات التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية. وذلك ليس على أساس استعادة النازية ولكن على أساس العودة لفترة إمبراطورية الرايخ الألمانية 1871.
حتى وقت قريب كان يُنظر إليهم باعتبارهم أفراداً خارج إطار التاريخ، حيث يحملون أفكاراً تقترب من الأحلام غير المنطقية، كما أنهم لا يدفعون الضرائب للحكومة القائمة. ووصلت بعض من تصرفاتهم الغريبة إلى شراء قطعة أرض في ولاية سكسونيا الألمانية بزعم إقامة دولتهم المستقلة واستعادة أمجاد الرايخ الألماني.
كما أنهم يقومون بشراء الأسلحة بصورة قانونية وغير قانونية، وقد كان ذلك معروفاً خاصةً بعد حادثة قتل أحد ضباط الشرطة في 2016 على يد فرد من الرايخسبورج أثناء مداهمة الشرطة لمخبأ أسلحة. وكرد على هذه الواقعة ألغت السلطات الأمنية الألمانية ألف ترخيص حمل سلاح لأفراد يشتبه بانتمائهم لرايخسبورج وتلك الأفكار.
الأرقام تشير إلى أن عدد الألمان الذين يمكن وصفهم بالانتماء إلى الرايخسبورج نحو 21 ألف شخص، من بينهم عسكريين سابقين في الجيش.
الأساس الفكري لجماعة الرايخسبورج يقوم على فكرة "نظرية المؤامرة"، وهنا يكمن الخطر، لأن تبني هذه النظرية يعد هو القاسم المشترك الأول بين كافة تيارات وجماعات وتنظيمات التطرف العنيف في العالم بكافة انتماءاتها الدينية والأيديولوجية. فيشترك كافة المتطرفين العنيفين في التشبع بأفكار عن وجود "مؤامرة كبرى" تحاك ضد عرقهم أو دينهم أو طبقتهم الاجتماعية، وعلى هذا الأساس يكونوا مؤهلين للاعتقاد في عدد لا حصر له من الخرافات والأكاذيب حول استهدافهم من قبل "الآخر" وعلى هذا الأساس يصبحون مستعدين لاستخدام العنف ضد ذلك "الآخر" وكذلك استخدام العنف لمقاومة تلك "المؤامرة" الراسخة في العقل الجمعي للجماعة المتطرفة.
مواطنو الرايخ أو الرايخسبورج، يؤمنون بوجود مؤامرة ضد استعادة قوة ألمانيا، تماماً بنفس أفكار وتصورات تيار QAnon الذي ظهر في الولايات المتحدة مؤمناً بوجود كيان عالمي يخطط ضد بقاء ترامب في الحكم، وعلى هذا الأساس قام أنصار ذلك التيار باقتحام الكابيتول عقب نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة.
وقد مثلت جائحة كوفيد-19 وعاما الإغلاق في 2020 و2021، فترة ذهبية لنمو وتكاثر تيارات وجماعات أنصار "نظرية المؤامرة" في العالم وخاصة في الديمقراطيات الغربية. فقام الرايخسبورج في ألمانيا بالإعلان عن قناعاتهم بأن الوباء جزء من مؤامرة ذلك الكيان العالمي غير المعروف ضد ألمانيا والجنس الألماني! كما أعلنوا رفضهم الكامل لتلقي اللقاحات باعتبارها جزءاً من المؤامرة. كما كانوا جزءاً من الاحتجاجات التي حاولت اقتحام البوندستاج (البرلمان الألماني) في 2020. ومن ثم كانت فترة الإغلاق والتي شهدت انتعاشاً للتواصل عبر الانترنت، فرصة لترويج كم هائل من المعلومات المضللة والأكاذيب التي تصل إلى حد "الأساطير"، وهذا هو المناخ الطبيعي الذي تنمو فيه "نظرية المؤامرة" بصورة عامة.
وعلى هذا الأساس تواجه ألمانيا بل الديمقراطيات الغربية تهديداً من نوع جديد، ألا وهو تنامي الأفكار المتطرفة التي تتكاثر على المعلومات المضللة تحت مظلة حرية التعبير وأيضاً في ظل أزمات اقتصادية وسياسية حقيقية باتت تهدد فكرة الديمقراطية ودولة القانون من الأساس.
ويبدو أن فترة الوباء فضلاً عن الحرب الروسية-الأوكرانية، كانت سبباً لرفع الغطاء عما ينمو من أفكار يمينية متطرفة تهدد الأساس القيمي والقانوني والأخلاقي الذي قامت عليه الديمقراطيات الغربية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فالأصوات المعادية للسامية آخذة في النمو كما أن الترويج للعنصرية وتفوق الجنس الأبيض ورفض الآخر بات يُناقش في مساحات ثقافية وسياسية معلنة، وصولاً إلى تكرار "أساطير" نظرية المؤامرة والتشكك في قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان من الأساس، وأخيراً الاعتقاد في استخدام العنف وخرق القانون لحماية تلك المعتقدات والقناعات اليمينية المتطرفة وتغيير الواقع بالقوة وفي بعض الأحيان استخدام القوة المفرطة ضد الآخر أو القوة المفرطة للهدم الكامل للنظام المحلي أو العالمي الحالي.