• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39
news-details
قراءات

شبكة "الرايخ": ما دلالات محاولة الانقلاب على نظام الحكم في ألمانيا؟


في عملية أمنية غير اعتيادية، قامت السلطات الألمانية بإلقاء القبض على ما يقارب من 25 شخصاً في 11 ولاية ألمانية؛ لانخراطهم في أنشطة إرهابية تهدف إلى الانقلاب على النظام القائم في البلاد، كما أكدت التقارير الإخبارية القادمة من ألمانيا أن السلطات تشتبه في 72 شخصاً آخرين، لافتةً إلى أنهم تحت الرادار والرصد الحكومي في الوقت الحالي. وتعيد هذه الأخبار الأذهان إلى حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية، والدبلوماسية المكوكية التي اتبعها المستشار الألماني الأشهر على الإطلاق “بسمارك”؛ من أجل تحقيق حلم الوحدة الألماني.

استدعاء الماضي

ولا يقتصر التشابه بين هذه الواقعة وبين الماضي الألماني، على حالة النظام الدولي الذي قامت في كنفه مثل هذه الأحداث، وإنما يمتد ليشمل نطاقها الجغرافي وهوية الأطراف المنخرطة في مثل هذه الأحداث؛ فقد عانى النظام الدولي من عدد من الحروب، تربعت على قمتها الحروب النابليونية قبيل الوصول إلى مرحلة الوحدة الألمانية وحروب بروسيا (ألمانيا سابقاً) مع النمسا وفرنسا، التي مهدت الطريق أمام “بسمارك” لتحقيق حلم الوحدة الألماني.

وفي الوقت الحالي يختبر النظام الدولي حرباً جديدة، هي الحرب الروسية الأوكرانية، التي ألقت بظلالها على جميع دول العالم، خاصةً ألمانيا في السياق الأوروبي. وأما عن النطاق الجغرافي، فإن المثير للانتباه أن التخطيط للمحاولة الانقلابية لم يقتصر في سياقه الجغرافي على ألمانيا وإنما امتد ليشمل إيطاليا والنمسا وروسيا شركاء الصراع في الماضي. كما يبرز دور المجموعات القومية المتطرفة التي ساعدت في بناء حلم الوحدة، والتي تهدد في الوقت الحالي النظام الديمقراطي المستقر في البلاد، عبر تورطها في المحاولة الانقلابية.

طبيعة الشبكة

تداولت وسائل الإعلام الألمانية والدولية الكثير من المعلومات عن الشبكة الإرهابية المتورطة في محاولة قلب نظام الحكم في ألمانيا، وقد تم الربط بين هذه الشبكة وبين “حركة مواطني الرايخ”. ومن أبرز المعلومات التي تم الكشف عنها حول هذه الشبكة الآتي:

1.  قيادة شخصية ملكية للشبكة الانقلابية: أكدت التقارير الصحفية والشرطية القادمة من ألمانيا أن الشبكة الإرهابية التي تم إلقاء القبض عليها صبيحة يوم الأربعاء الموافق 7 ديسمبر الجاري، قد تم تدشينها في نوفمبر من عام 2021. ويقف وراء هذه الشبكة رأس مدبر يتمثل في “الأمير هاينريش الثالث عشر”، ذي الواحد والسبعين عاماً، وهو سليل إحدى العائلات النبيلة، التي حكمت ولاية ألمانية شرقية صغيرة فيما مضى. ويعمل هذا الأمير في بيع العقارات، ويمتلك عدداً من المنازل والمكاتب في مدينة فرانكفورت الألمانية، بالإضافة إلى كوخ للصيد يُقال إنه قد استخدمه لإدارة أغلب أنشطة جماعته. ومن المقبوض عليهم والأعضاء في هذه الشبكة، عضو سابق في البرلمان الألماني ممثل عن حزب “البديل من أجل ألمانيا”، وهو يعمل في الوقت الحالي قاضياً في مدينة برلين؛ هذا بالإضافة إلى جندي يخدم لصالح وحدة النخبة بالقوات الخاصة الألمانية، وعدد من الجنود السابقين بالجيش الألماني.

2. تكون الشبكة من ذراعين سياسية وعسكرية: يتكون هذا التنظيم من ذراع سياسية وأخرى عسكرية؛ فبينما تسعى الذراع السياسية إلى حكم البلاد عبر مجموعة من الأرستقراطيين، في أعقاب إسقاط الحكومة المشكلة من رحم مجلس النواب الألماني “البوندستاج”، عملت الذراع العسكرية على تسليح أعضاء الخلية وتزويدهم بالمعدات العسكرية والبنادق اللازمة لفرض السيطرة على البلاد. ولتحقيق هذه الغاية، عملت الذراع العسكرية أيضاً على تجنيد أفراد يعملون لصالح الأجهزة الشرطية والعسكرية الأمنية الألمانية للانخراط في التشكيل الإرهابي.

3. انتماء الشبكة إلى “حركة مواطني الرايخ”: ينتمي أعضاء هذه الشبكة الإرهابية إلى “حركة مواطني الرايخ”، وهي حركة قومية متطرفة، يقدر عدد أعضائها بنحو 21 ألف شخص، ويرفض أعضاؤها الاعتراف بالنظام الديمقراطي الجمهوري الذي قام في ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ويسعون إلى استعادة النظام الإمبراطوري الذي حكم ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية. ونتيجة لعدم اعترافهم بالنظام الديمقراطي الجمهوري القائم، يرفض أعضاء هذه الحركة دفع الضرائب للحكومة الألمانية، والانصياع للقوانين العامة في الدولة، بما في ذلك استخدام جواز السفر الألماني الرسمي.

وخلال فترة تطبيق الحظر والإجراءات الاحترازية المصاحبة لانتشار فيروس كورونا، قامت هذه المجموعة بقيادة حملة مناوئة لسياسات الإغلاق، ودشنوا عدداً من التظاهرات في الشوارع الألمانية المختلفة، وتعاونوا أيضاً مع عدد من حركات اليمين المتطرف، والحركات المتبنية لعدد من نظريات المؤامرة؛ وذلك على غرار حركة نظرية المؤامرة “كيو آنون” الرأس المدبر لأعمال الشغب التي عاشتها العاصمة الأمريكية واشنطن في 6 يناير 2021.

4. حديث عن روابط للشبكة مع روسيا: أشارت عدد من وسائل الإعلام الألمانية إلى أن السلطات في برلين أكدت أن “الأمير هاينريش الثالث عشر” حاول التواصل مع ممثل الحكومة الروسية في ألمانيا، بغرض التعاون مع موسكو لإسقاط النظام الجمهوري الديمقراطي القائم في ألمانيا حالياً، كما أكدت مصادر شرطية أنه أثناء إلقاء القبض على “هاينريش”، تم توقيف مواطنة روسية تُدعى “فيتاليا بي” وهي شريكته في الحياة وتقطن معه في المنزل ذاته منذ سنوات طويلة.

5. اكتشاف الاستخبارات الألمانية للشبكة: بدأ تتبع الأجهزة الأمنية الاستخباراتية لأنشطة هذه الشبكة منذ مطلع عام 2022؛ وذلك في أعقاب وصول معلومات سرية تفيد بتشكل هذه الشبكة الإرهابية وتبنيها عدداً من الأنشطة السرية، إلى الأجهزة الاستخباراتية القائمة في ولاية هيسن الألمانية، التي كانت منخرطة بدورها في تحقيق موازٍ ضد مجموعة إرهابية أخرى، خططت لاختطاف وزير الصحة الألماني “كارل لاوترباخ”. وفي النهاية تمكنت السلطات الألمانية من تسمية جميع الشخصيات المتورطة في هذه الشبكة، وتحديد مصادر التمويل والتعبئة الخاصة بها.

معضلة ممتدة

قال وزير الداخلية الألماني السابق “هورست زيهوفر”، في أكتوبر من عام 2020، إن اليمين المتطرف هو أكبر تهديد يواجه الدولة الألمانية في الوقت الحالي؛ وذلك على خلفية قيام مسلح يميني متطرف بقتل 11 شخصاً في مقهى بمدينة هاناو الألمانية. وبكشف النقاب عن تخطيط شبكة يقودها متطرفون يمينيون لقلب نظام الحكم في ألمانيا، فإن ذلك يؤكد تحذيرات وتصريحات وزير الداخلية السابق. وبشكل عام، تحمل المحاولة الانقلابية الأخيرة في ألمانيا مجموعة من الدلالات، يأتي على رأسها ما يلي:

1. أعمال تخريبية متواصلة لليمين المتطرف بألمانيا: منذ استعادة الوحدة الألمانية عاد اليمين المتطرف الألماني للنشاط ولعب دور كبير في الحياة السياسية الألمانية، عقب سنوات من القضاء على النازية والجماعات المؤيدة لها التي نشطت بصورة كبيرة في ألمانيا الشرقية في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، تورطت مجموعة من المتطرفين اليمينيين الذين يُطلقون على أنفسهم لقب “الجماعة السرية الوطنية الاشتراكية”، في عمليات قتل لتسعة مهاجرين وضابط شرطة في الفترة من عام 2000 وصولاً إلى عام 2007، ولم يتم كشف النقاب عن أنشطتهم إلا في أواخر عام 2008؛ حيث اعتقدت السلطات بالخطأ أن ضحايا هذه الأعمال الإرهابية قد سقطوا ضمن العمليات الانتقامية التي تقودها العصابات الإجرامية بعضها ضد بعض.

2. تهاون السلطات الألمانية مع اليمين المتطرف: على الرغم من خروج جميع الجهات والأحزاب السياسية الألمانية ببيانات شديدة اللهجة تندد بهذا المخطط الانقلابي، بما في ذلك حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف المعادي للمهاجرين، فإن الرأي العام الألماني والمتخصصين في الشؤون الألمانية يؤكدون أن هذا التطور خطير للغاية، وأن الحكومة الألمانية قد لعبت دوراً رئيسياً في هذا الأمر؛ فقد حرصت السلطات الأمنية والشرطية على تبني سياسات مهادنة مع جماعات اليمين المتطرف، في الوقت الذي يتم فيه تسليط الضوء على التطرف الإسلامي وجماعات اليسار المتطرفة، وهو ما أعطى الضوء الأخضر لهذه الجماعات لتوسيع نطاق عملياتها ضد المهاجرين واليهود، وصولاً إلى استهداف وقتل عضو حزب المحافظين الحاكم “فالتر لوبكه” في عام 2019؛ لمناصرته سياسة “ميركل” لاستقدام المهاجرين إلى ألمانيا في عام 2015.

3. انضمام بعض أفراد السلطات الأمنية إلى المتطرفين: التطور الأخطر الذي كشفت عنه عملية الانقلاب الفاشلة الأخيرة، يتمثل في كشف النقاب عن انخراط عدد من الجنود السابقين والحاليين العاملين لصالح الأجهزة الأمنية الألمانية المختلفة في عضوية هذه الشبكة الإرهابية. ويعني ذلك أن الأفكار المتطرفة لهذه الجماعات قد تسربت إلى الأوساط الألمانية الرسمية، في تجاوز صريح للسياسات والقوانين الحاكمة لهذه الأجهزة الأمنية.

ويتضمن القانون الألماني بعض القواعد التي تمنع تبني وانتشار الأفكار النازية واليمينية المتطرفة في أوساط الأجهزة الأمنية، ويطالب القانون أعضاء أي جهاز أمني بسرعة إبلاغ الجهات المختصة في حالة استشعارهم تبني أي من زملائهم مثل هذا الأفكار، ليتم عزلهم من مناصبهم الأمنية على الفور. يُذكر أن الحكومة الألمانية سبق أن قامت في يوليو 2020، بحل وحدة كوماندوز من النخبة على أساس أن جنود الوحدة أخفوا الأنشطة المتطرفة لبعض رفاقهم.

مخطط دخيل

وختاماً، يمكن القول إن أزمة كورونا والحرب الروسية–الأوكرانية الحالية ساهمت في منح دفعة جديدة لحركات اليمين المتطرف، التي تهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي في الداخل الأوروبي، والتي وصلت إلى حد الانخراط في مخطط انقلابي دخيل على قاموس العملية السياسية في ألمانيا.