في إطار الجهود الأممية القائمة والمستمرة لحلحلة الأزمة الليبية، وصولًا إلى الانتخابات العامة، حدد مجلس الأمن الدولي تاريخ السادس عشر من ديسمبر 2022 موعدًا لانعقاد جلسته الخاصة حول ليبيا، ومن الجدير بالذكر أن هذا الشهر يتصادف مع مرور عام على تأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي كان مقررًا إجراؤها في الرابع والعشرين من ديسمبر 2021. لكن هذه الجلسة تأتي وسط استمرار الصراع على السلطة بين حكومتيْ الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد دبيبة، وبين حكومة فتحي باشاغا المكلفة من البرلمان الليبي، وكذلك وسط استمرار تفاقم الخلافات بين رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري.
تستكشف هذه الورقة دلالات الانسداد السياسي بين القوى الليبية، وأبرز القضايا الخلافية الراهنة بين كُلٍّ من مجلس النواب ومجلس الدولة، بالإضافة إلى السيناريوهات المتوقعة في المدى المنظور.
الانسداد السياسي بين القوى الليبية: الأسباب والتداعيات:
منذ أن صوّت البرلمان الليبي على سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد دبيبة في سبتمبر 2021، وتحويلها إلى حكومة تصريف أعمال حتى يتم عقد الانتخابات الوطنية في ديسمبر 2021، دخلت السلطة التنفيذية في مواجهه مع مجلس النواب، إذ رفضت قرار سحب الثقة تحت دعوى أن تعيين حكومة الوحدة جاء عبر خارطة طريق حددها “ملتقى الحوار السياسي” في جنيف (برعاية الأمم المتحدة)، وتَذَرَّعَتْ بحُجَّة عدم دستورية قرار سحب الثقة (لعدم اكتمال النصاب القانوني اللازم لجلسة مجلس النواب).
وفي الوقت ذاته، ما زال رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد دبيبة يتمسك بمنصبه حتى اليوم، على الرغم من أن المدة الزمنية التي رسمتها خارطة الطريق الأممية – التي يستمد منها شرعية حكومته – قد انتهت في يونيو 2022، تحت مزاعم عدم تسليمه السلطة إلَّا لحكومة منتخبة، ساعيًا بذلك لضرب شرعية البرلمان وتكوين ظهير شعبي يكون داعمًا له ورافضًا لمرحلة انتقالية جديدة، ومُعَوِّلًا في ذلك على القوات المسلحة الموالية له في الغرب الليبي لتأمين مقار الحكومة في العاصمة طرابلس.
وممّا أسهم في تعميق الأزمة السياسية، أن البرلمان في فبراير 2022 – وبعد فشل عقد الانتخابات الوطنية – قد كلف وزير الداخلية السابق بحكومة الوفاق، فتحي باشاغا، برئاسة الحكومة الجديدة بدلًا عن حكومة دبيبة، وفقًا لخارطة طريق سياسية جديدة اعتمدها البرلمان “خارطة طريق ليبية – ليبية”، واعتبرتها بعض الأطراف الإقليمية والدولية النافذة في ليبيا على أنها خارطة موازية لتلك التي اعتمدتها الأمم المتحدة في جلسات ملتقى الحوار السياسي بجنيف. كما أن خارطة الطريق الجديدة هذه قد تضمنت التوافق على الإعلان الدستوري الليبي مع المجلس الأعلى للدولة برئاسة خالد المشري، وتأجيل الانتخابات أربعة عشر شهرًا، اعتبارًا من تاريخ اعتماد التعديل الدستوري الجديد. في المقابل رفض المشري قرار البرلمان بتغيير الحكومة – هو وأبرز قادة الميليشيات المسلحة في الغرب الليبي – واستمر خلافه مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح حول القاعدة الدستورية المنظمة للانتخابات الوطنية، رافضًا الاعتراف بشرعية حكومة باشاغا، ومستخدمًا ورقة الاعتراف كورقة مساومة حتى يتم التوافق مع مجلس النواب على المواد الخلافية في الدستور.
أبرز القضايا السياسية الخلافية الراهنة بين مجلسيْ النواب والدولة:
ترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية: تقاطع المشروع السياسي – لكُلٍّ من مجلسيْ النواب والدولة – شَكَّلَ عقبة أساسية نحو الوصول إلى تفاهمات حول نقاط خلافية عدة، وعطل الجهود والمبادرات الإقليمية والأممية الرامية لاستئناف المسار الانتخابي في ليبيا. وليس خافيًا أن أبرز النقاط الخلافية تتمثل في ملف المناصب السيادية وتوزيع السلطة والموارد بين الأقاليم الثلاثة، إلى جانب شَكْل الدولة (فيدرالية أو مركزية)، بالإضافة إلى شروط انتخاب رئيس الدولة وصلاحياته.
وقطعت المبادرة الأخيرة للمستشارة الأممية السابقة “ستيفاني ويليامز” شوطًا كبيرًا في توافق لجنتيْ مجلسيْ النواب والدولة حول عدد من تلك القضايا، في يونيو الماضي في “اجتماعات القاهرة”، حيث أعلنت ويليامز أن اللجنة المشتركة من المجلسين “توصلت إلى توافق مبدئي حول 137 مادة”، على أن يجتمع رئيسا المجلسين للتوافق حول ما تبقى من النقاط الخلافية بشأن المسار الدستوري، ولكن الطرفين فشلا في التوافق على بند ترشح مزدوجي الجنسية والعسكريين.
يعتبر بند ترشح مزدوجي الجنسية والعسكريين للرئاسة أبرز عقبة تعرقل توافق مجلسي النواب والدولة حول القاعدة الدستورية، حيث يتمسك المجلس الأعلى للدولة برفض هذا البند لقطع الطريق على ترشح القائد العام للقوات المسلحة – المشير خليفة حفتر – للانتخابات الرئاسية الليبية.
وانعكاسًا لعمق الانقسام وحِدَّة الخلافات بين مجلسيْ النواب والدولة بهذا الشأن، صوّت المجلس الأعلى للدولة بالإجماع في نوفمبر الماضي، على منع ترشح مزدوجي الجنسية والعسكريين إلَّا بعد تقديم استقالتهم قبل سنة من الانتخابات، ما جعله في موقف صدام مجددًا مع البرلمان الذي يرى أن مجلس الدولة كيان استشاري – كما جاء في اتفاق الصخيرات 2015 – وأنه ليس مُخَوَّلًا بإصدار قوانين انتخابية، وأن البرلمان هو المشرع الوحيد.
ومما ينبغي الإشارة إليه التصريحات المتناقضة لرئيسي المجلسين خلال الفترة الأخيرة، فعلى سبيل المثال، في سبتمبر الماضي أعلن رئيس مجلس النواب عقيلة صالح أنه توصل إلى اتفاق مع المشري على “استبعاد شروط الترشح للرئاسة من القاعدة الدستورية، وترك المسألة للمشرع الجديد (البرلمان القادم)”، إلَّا أن المشري في أكتوبر الماضي جدد تمسكه بعدم السماح للعسكريين بالترشح، قائلًا إن “هناك توافقًا بين المجلسين على كل شيء إلَّا ترشح العسكر”، ليتم تصويت المجلس الأعلى في نوفمبر على قانون منع ترشح العسكريين السابق ذكره.
والأمر الذي حسم الجدل حول نوايا الطرفين – أي رئيسيْ المجلسين – في العمل على تحقيق توافق حول القاعدة الدستورية واستئناف المسار الانتخابي، تمثل في إلغاء اجتماع مفصلي لعقيلة صالح وخالد المشري، بحضور عبد الله باتيلي الممثل الخاص للأمين العام ورئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، ذلك الاجتماع الذي كان مقررًا عقده في الرابع من شهر ديسمبر الجاري بمدينة الزنتان، وكان الإلغاء “لأسباب لوجستية” حسب ما صرح باتيلي.
قرار إنشاء المحكمة الدستورية في مدينة بنغازي: ويبدو أن مجلس النواب الليبي يتوجه لتمرير القاعدة الدستورية دون تسوية المواد الخلافية مع مجلس الدولة، وبشكل اُحادي تحت غطاء قانوني، حيث أقر في السادس من شهر ديسمبر الجاري، قانونًا لإنشاء محكمة دستورية في مدينة بنغازي – شرق البلاد حيث يتواجد مقر البرلمان – بدلًا عن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في طرابلس (غرب البلاد)، وتتكون من ثلاثة عشر عضوًا يعيّنهم البرلمان في أول تشكيل لها. ومن الجدير بالذكر أن أبرز بند في هذا القرار ينص على عدم السماح بالطعن بعدم دستورية القوانين الصادرة، إلَّا من خلال رئيس البرلمان، أو رئيس الحكومة، أو 10 نواب، أو 10 وزراء.
واستباقًا للتحركات الداعية إلى إقصائه من القاعدة الدستورية، أصدر خالد المشري – رئيس المجلس الأعلى للدولة – قرارًا بتعليق التواصل بين رئاستي مجلسي الدولة والنواب، وكذلك تعليق أعمال اللجنة الدستورية المشتركة، إلى حين إلغاء قرار البرلمان الخاص بإنشاء المحكمة الدستورية ببنغازي.
ومن الأمور التي تعمق الانقسام المؤسسي وتنذر بأزمة قضائية تضاف إلى الأزمات السياسية والأمنية بالبلاد، هو دعوى خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة، ومستشاري المحكمة العليا، ورئيس وأعضاء المجلس الأعلى للقضاء، وأعضاء الهيئات القضائية، إلى عدم الاعتداد أو العمل بقانون مجلس النواب، والتنبيه إلى خطورة إقدام أي جهة قضائية بتسمية أيٍّ من رجال القضاء عضوًا بالمحكمة الدستورية المستحدثة.
ولا شك في أن قرار المحكمة الدستورية الأخير يعطل كافة الجهود الإقليمية التي تبذلها كُلٌّ من مصر والمغرب وتركيا، وكذلك الجهود الأممية الرامية إلى تقريب وجهات النظر بين رئيسي المجلسين، من أجل التوافق على القاعدة الدستورية، وملف المناصب السياسية، وتوحيد السلطة التنفيذية بالبلاد. ففي نوفمبر الماضي، عُقد في القاهرة اجتماعٌ شَكَّل منعطفًا حاسمًا في الأزمة الليبية، وأعطى آمالًا بحدوث انفراجة سياسية، حيث اجتمع المبعوث الأممي عبد الله باتيلي، والأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، ورئيسا مجلسيْ النواب والدولة، مع مسؤولين كبار في مصر؛ لإحياء المسار السياسي، فيما كانت القاهرة تُعَوِّل على تفاهماتها الأخيرة مع تركيا لتوحيد المواقف بشأن تجاوز حكومة دبيبة وتوحيد السلطة التنفيذية، واستكمال مشاورات المسار الدستوري.
عبد الحميد الدبيبة: توظيف الانقسام السياسي ومحاولات إعادة إنتاج الأزمة:
البقاء في السلطة: سعى عبد الحميد الدبيبة لتوظيف الانقسام الحاصل بين القوى السياسية من أجل تمديد بقائه في السلطة، كما جدد رفضه لأي اتفاق سياسي قد يفضي إلى إحداث توافق بين مجلسي النواب والدولة حول توحيد السلطة التنفيذية، تحت مزاعم إنهاء المراحل الانتقالية في البلاد أوّلًا، ثم إجراء الانتخابات الوطنية، “حتى ولو استمر ذلك عدة سنوات” حسب قوله.
تعزيز شرعيته الداخلية والخارجية: سعى الدبيبة لتعزيز شرعيته الداخلية، من خلال إظهار نفسه على أنه الراعي لمصالح الشعب الليبي، بعد الاستياء الشعبي من تأجيل الانتخابات الليبية، واستمرارية تعطيل المسار الانتخابي من مجلسي النواب والدولة. كما بدأ الدبيبة يروج لإعداد قانون انتخابي بقصد الالتفاف على مساعي المجلسين – التي ترمي لإزاحته من المشهد – من خلال الدعوة إلى عقد انتخابات تشريعية قبل الرئاسية، تحت ذريعة ترك مسألة التوافق على القاعدة الدستورية المعلقة بين المجلسين للبرلمان القادم.
وحاول الدبيبة كسر عزلته الإقليمية من خلال قيامه بزيارات خارجية إلى تونس والجزائر، وتعزيز موقعه في السلطة، وكسب دعم أنقرة بتوقيعه على مذكرتيْ تفاهم في مجال عمليات التنقيب عن الغاز والاستثمار النفطي في أكتوبر الماضي مع تركيا، وتم ذلك خلال زيارة وفد تركي رفيع المستوى إلى العاصمة طرابلس، بالإضافة إلى اتفاقيتين أمنيتين مع وزير الدفاع التركي خلوصي أكار في الشهر نفسه، (وهاتان الاتفاقيتان تتسقان مع الاتفاقية الأمنية “الجدلية” الموقعة بين حكومة الوفاق وأنقرة). في المقابل أكد رئيس البرلمان عقيلة صالح أن "توقيع أي مذكرة تفاهم أو معاهدة أو اتفاقية من قِبَل الحكومة منتهية الولاية غير ملزمة لدولة ليبيا والشعب الليبي".
الاستقواء بالميليشيات المسلحة في الغرب الليبي: يُعول الدبيبة على استمرارية بقائه في السلطة اعتمادًا على دعم الميليشيات المسلحة في الغرب الليبي، الأمر الذي أفشل – مرات عدة – محاولات دخول الحكومة المكلفة من البرلمان برئاسة فتحي باشاغا إلى طرابلس، واستلام المقرات الحكومية، وإزاحة الدبيبة من السلطة؛ تحسبًا من مواجهة مسلحة واسعة.
ويعتبر الانفلات الأمني وانتشار السلاح في الغرب الليبي أحد أبرز الأسباب التي أدت لتأجيل الانتخابات الوطنية في ديسمبر الماضي 2021؛ حيث أظهر أن نفوذ الميليشيات المسلحة على الأرض له اليد العليا في المسار السياسي في البلاد. وفيما يروج الدبيبة لضرورة التوجه نحو عقد انتخابات وطنية من جانب، فإنه – من جانب آخر – هو الذي يكرس وجود القوة القاهرة التي أشار إليها رئيس المفوضية الوطنية للانتخابات عماد السايح، وأكد أنها سبب في تأجيل الانتخابات.
السيناريوهات المحتملة:
الوصول إلى توافق ضروري بين مجلسي النواب والدولة برعاية أممية؛ تجنبًا للأصوات المطالبة بتنحيهم من السلطة، تحت دعاوى تعطيل الانتخابات وانتهاء شرعية ولايتهم، ووضع قاعدة دستورية مؤقتة للانتخابات.
التركيز على ملف تشكيل سلطة تنفيذية جديدة موحدة في المدى المنظور، تطيح برئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة من المشهد؛ تحسبًا من احتمالات قبول الأطراف الداخلية والخارجية النافذة في ليبيا بمبادرته التي تدعو لعقد انتخابات تشريعية قبل الرئاسية، حتى يتم حسم الخلافات بشأنها من قِبَل البرلمان الجديد.
توظيف القوى الخارجية النافذة في ليبيا للانقسامات الحاصلة داخل المجلسين وأصوات المعارضة – وتحديدًا في مجلس الدولة – للالتفاف على رئيسي المجلسين، بدعوى تعطيلهما للمسار الدستوري، والتوافق على المواد الخلافية، والخروج بقاعدة دستورية وقوانين انتخابية تدعمها البعثة الأممية في ليبيا.