أصبحت الطاقة النووية من أهم مصادر الكهرباء في بلدان صناعية عديدة، مثل فرنسا التي قامت في الأسبوع الماضي باستئناف عمل 3 مفاعلات نووية، لرفع معدلات توليد الكهرباء لديها، وهو ما يأتي في خضم اهتمام دولي بتوسيع الاعتماد مرة أخرى على الطاقة النووية للأغراض المدنية، خاصةً عقب ارتدادات الحرب الروسية الأوكرانية؛ حيث اعتبر الكثيرون حول العالم أن الاعتماد الواسع على قطاع الطاقة النووية أمر محكوم بالفشل، ومع ذلك فقد عاد الاعتبار لهذا القطاع اليوم الذي يقدم آلية لإنتاج طاقة خالية تقريباً من الكربون لتوليد تدفق ثابت ويمكن التحكم فيه من الكهرباء للعمل جنباً إلى جنب مع الطاقة الشمسية المتقطعة وتوليد الرياح، ولتجنب تأثيرات تغير المناخ. وفي ضوء هذا نشر موقع “إيكونوميست” تقريرين بعنوان “هل تستطيع الصناعة النووية الفرنسية تجنب الانهيار؟”، وبعنوان “الاستثناء الفرنسي”، ويمكن استعراض أبرز ما جاء فيهما على النحو التالي:
1- إعادة إحياء الاعتماد الدولي على الطاقة النووية: تدفع العوامل الاستراتيجية والبيئية دول العالم لتوسيع اعتمادها مرة أخرى على الطاقة النووية للأغراض المدنية، التي تمثل اليوم 25% من توليد الكهرباء في الاتحاد الأوروبي، و10% حول العالم، مع تنامي تدفقات الأموال على الأبحاث والشركات الناشئة المهتمة بهذا القطاع؛ حيث تحرص بريطانيا وفرنسا على بناء مصانع تقليدية جديدة، وحتى ألمانيا التي تعهدت بإغلاق مفاعلاتها النووية هذا العام أجلت ذلك حتى أبريل 2023، في حين أن شركة الطاقة الهندية التي تسيطر عليها الدولة NTPC وضعت الكثير من الخطط لأجل تطوير قدرات نووية جديدة.
2- مساعي الغرب للاقتداء بالتجربة النووية الفرنسية: تقدم فرنسا نموذجاً يمكن للدول الأوروبية الساعية لتطوير قدراتها النووية الاقتداء به؛ فبعد الصدمة النفطية الأولى في عام 1973، قامت باريس ببناء أسطول يتشكل من 56 مفاعلاً نووياً يشكل نحو 70% من قدرة البلاد على توليد الكهرباء، وهي أعلى حصة في العالم وأكثر من ثلاثة أضعاف الرقم في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك ما يشجع الدول الغربية على الاعتماد على الصناعة النووية الفرنسية للتوقف عن كونها عبئاً على نظام الطاقة المتوتر في القارة الأوروبية على المدى القصير، مع السعي إلى الاقتداء بالتجربة الفرنسية في بناء المفاعلات النووية على المدى الطويل، وهو ما يعتمد عليه آنياً الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” لتحقيق النهضة النووية الوطنية المنشودة.
3- صعوبات الرهان على إحياء الأسطول النووي لفرنسا: رغم اعتماد أوروبا على تجاوز أزمة الطاقة الشتوية جزئياً على أسطول فرنسا القديم من المفاعلات النووية وإمكانية رفعه للعمل بما يقارب طاقته الكاملة، فإن الملاحظ أن هذا الأسطول كان يعمل بأقل من قدرته النظرية هذا العام؛ ما أسهم في ارتفاع أسعار الطاقة على مستوى أوروبا، وفيما يتراكم لدى شركة الطاقة النووية الرئيسية في فرنسا التزامات هائلة تقدر بقيمة 350 مليار دولار، فمن المتوقع أن تتكبد الشركة 19 مليار دولار من الخسائر هذا العام. وبجانب ذلك، ومع توقف توريد المفاعلات الجديدة، فإن الملاحظ أنه من بين المفاعلات الست التي بنتها فرنسا منذ عام 1999 – والتي تُعد من أحدث التصاميم الفرنسية، وتم بناء خمسة منها في الخارج وواحد في الوطن – فإن اثنين منها فقط يولدان الكهرباء وهما اللذان تم بناؤهما في الصين.
4- معضلة الصيانة في بناء المفاعلات النووية الفرنسية: سمح النظام السياسي المركزي الفرنسي للسلطة التنفيذية بتدشين برنامجها النووي الطموح والتوسع فيه بمساهمات محدودة من الجمهور الفرنسي أو ممثليهم المنتخبين؛ وذلك ما مكَّن فرنسا من التمتع بما يُعرف صناعياً بـ”تأثير الأسطول”؛ فبناء المفاعل أمر معقد ويتطلب الكثير من التعلم بالممارسة ومع الاستمرار في ذلك تزداد الخبرة؛ ما يجعل بناء المزيد من المفاعلات أمراً يسيراً نسبياً في كل مرة جديدة. ومع ذلك واجهت التجربة الفرنسية الكثير من المشكلات، وفي مقدمتها مشكلات الصيانة؛ ذلك أن الضغط على الكثير من البناء في بضع سنوات يعني من جانب آخر أن المفاعلات تخضع للتجديد في الوقت نفسه تقريباً. وخصوصاً أنها مبنية على المعيار نفسه. ونتيجة لذلك، فإن طاقة عمل المصانع في فرنسا هي في حدود نسبة 60%، مقارنة بأكثر من 90% في الولايات المتحدة.
5- ضعف الرقابة الحكومية على الصناعة النووية في البلاد: أصبحت الصناعة النووية في فرنسا دولة داخل دولة، مع الدور الواسع للشركات التجارية الهادفة بالأساس إلى تعظيم الأرباح، ومع وجود نخبة من المهندسين الذين لم يخضعوا للتدقيق الكافي؛ لضعف آليات المساءلة والرقابة في ظل مركزية القرارات الخاصة بالسياسة النووية، وضعف دور الهيئة التشريعية، وهو ما أدى في النهاية إلى سياسة غير متسقة سمحت ببعض القرارات التجارية الخطرة؛ ذلك أن تجاوز الهيئة التشريعية قد يؤدي في البداية إلى تسريع الخطط، غير أن ذلك جعل السياسة النووية الفرنسية عرضة للتقلبات والأهواء السياسية.
6- ضرورة تنويع مصادر الطاقة مع تطوير القدرة النووية: أدى الاندفاع الفرنسي السابق نحو الطاقة النووية إلى تقليل أهمية مصادر الطاقة المتجددة، فتعمل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح اليوم على تشغيل 9% من إمداداتها من الطاقة، مقارنة بـ25% في بريطانيا، ولكن مع ذلك فإنه من خلال تعزيز توليد الطاقة النووية، إلى جانب العمل لتطوير مصادر الطاقة المتجددة الأخرى، يمكن تحقيق مزيج طاقة أكثر توازناً ومنخفض الكربون. وفيما كان للنخب الفرنسية ارتباط عاطفي وأيديولوجي تقريباً بالطاقة النووية، فإن الطاقتين النووية والمتجددة ليستا على طرفي نقيض كما يعتقد البعض في باريس؛ فالعالم بحاجة إلى كلتيهما.
وختاماً، فإنه في مواجهة التحديات المشار إليها، يسعى الرئيس الفرنسي لمعالجة المشكلات التي تواجه الصناعة النووية بالدولة، حتى ما قبل الحرب الأوكرانية؛ حيث أعلن عن خطة لبناء ستة مفاعلات جديدة على الأقل، وما يصل إلى 14 مفاعلاً إذا ما سارت الخطة على نحو جيد، قائلاً: “علينا أن نلتقط خيط المغامرة العظيمة للطاقة النووية المدنية”؛ وذلك مع توجه الدولة لتشديد سيطرتها على الشركة الرئيسية المعنية بالطاقة النووية بحلول نهاية العام، والساعية لإعادة تشغيل أكبر عدد ممكن من المفاعلات المغلقة مرة أخرى بحلول يناير المقبل، بحسب ما تعهد رئيس الشركة المختار بعناية من قِبل الرئيس. وعلى ضوء ذلك، سيؤثر نجاح التجربة الفرنسية ومدى القدرة على تجاوز العوائق المشار إليها في مواقف غيرها من الدول المتحولة نحو الطاقة النووية.