• اخر تحديث : 2024-07-01 12:23

تجادل بعض الكتابات بإمكانية صعود الهند كبديل محتمل للصين المتعثرة حالياً، بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي وسياسة صفر كوفيد الصارمة؛ إذ تتمتع الهند بمزايا تنافسية غير موجودة في دول أخرى لكن من غير الواضح بعد إذا ما كانت نيودلهي قادرة على اغتنام تلك الفرصة أم لا، وفي ضوء هذا، فقد نشر موقع "فورين أفيرز" تقريراً للكاتبين أرفيند سوبرامانيان وجوش فيلمان، بعنوان "معوقات السياسة: لماذا لا تستطيع الهند أن تحل محل الصين؟"، ويمكن استعراض أبرز ما جاء فيه على النحو التالي:

مقومات نيودلهي

تمتلك الهند بعض المقومات التي يمكن أن تعزز من مركزيتها في الاقتصاد العالمي؛ وذلك على النحو التالي:

1- مزايا للهند كوجهة جاذبة للشركات العالمية: من بعض النواحي، تبدو الهند كأرض واعدة للشركات العالمية؛ إذ تتمتع بمزايا هيكلية، وتقدم الحكومة حوافز استثمارية كبيرة، في مقابل العيوب الخطيرة للخصوم المحتملين؛ حيث تسيطر الهند على منطقة أكبر بتسع مرات من ألمانيا، ويقترب عدد سكانها من نفس تعداد الصين تقريباً كأكبر دولة في العالم، كما أنها واحدة من الدول القليلة التي تعد كبيرة بما يكفي لإيواء العديد من الصناعات الكبرى؛ إذ تنتج أولاً للأسواق العالمية ثم السوق المحلية المزدهرة. علاوة على ذلك، تمثل الهند ديمقراطية راسخة ذات تقاليد قانونية طويلة، وقوة عاملة شابة وموهوبة ومتحدثة بالإنجليزية بشكل ملحوظ. لدى الهند أيضاً بعض الإنجازات المتمثلة في تحسن البنية التحتية المادية بشكل كبير في السنوات الأخيرة، في حين أن البنية التحتية الرقمية – لا سيما نظام المدفوعات المالية – قد تجاوزت في بعض النواحي مثيلاتها في الولايات المتحدة.

2- عدم وجود بديل للهند على المستوى الإقليمي: لا يوجد بديل أفضل من الهند يمكن أن تتجه الشركات الدولية إليه. قبل بضع سنوات، ربما كانت دول جنوب آسيا الأخرى تعتبر مرشحة جذابة، لكن هذا تغير الآن؛ فخلال العام الماضي، شهدت سريلانكا أزمة اجتماعية وسياسية واقتصادية تاريخية، كما تعرضت باكستان لصدمة بيئية أدت إلى تفاقم ضعف الاقتصاد الكلي الدائم وعدم الاستقرار السياسي. حتى بنجلاديش، التي لطالما كانت وجهة مفضلة في التنمية، اضطرت إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي بعد أن تسبب التدخل الروسي في أوكرانيا في ارتفاع أسعار السلع الأساسية؛ ما أدى إلى استنزاف احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي. وبناءً عليه، وفي خضم هذه الأزمات المتعددة في جنوب آسيا، تبرز الهند كملاذ للاستقرار.

3- تصاعد التحديات داخل الخصم الصيني: على مدار العام الماضي، عانى نظام الرئيس الصيني شي جين بينج، من تحديات متعددة، بما في ذلك النمو الاقتصادي البطيء والانحدار الديموغرافي الذي يلوح في الأفق، فضلاً عن أن عمليات الإغلاق الصارمة التي يمارسها الحزب الشيوعي والاعتداء على القطاع الخاص، قد زادت الأمور سوءاً. وفي الأسابيع الأخيرة، واجهت بكين عدداً متزايداً من الاضطرابات والاحتجاجات السكانية المناهضة للحكومة. وبذلك فإن التحول الصيني نحو الاستبداد في الداخل والعدوان في الخارج والحكم غير الكفء، جعل الهند الديمقراطية تبدو أكثر جاذبية.

4- تقديم نيودلهي بعض الحوافز إلى الشركات: اتخذت الهند خطوات من شأنها، على الورق، أن تعمل على تحسين التعاقدات مع الشركات الدولية؛ ففي أوائل عام 2021، قدمت الحكومة مخطط “الحوافز المرتبطة بالإنتاج Production-Linked Incentives PLI”، لتوفير الحوافز الاقتصادية لكل من شركات التصنيع الأجنبية والمحلية؛ ما حقق نجاحات ملحوظة. على سبيل المثال، أعلنت شركة أبل Apple في سبتمبر 2022، أنها تخطط لإنتاج ما بين خمسة وعشرة بالمائة من نسخ iPhone 14 الجديدة في الهند. وفي نوفمبر، أعلنت شركة فوكسكون لتصنيع الإلكترونيات أيضاً، أنها تخطط لبناء مصنع لأشباه الموصلات بقيمة 20 مليار دولار في البلاد بالتعاون مع شريك محلي.

معوقات مختلفة

تواجه الهند معوقات متعددة في سبيل تحقيق تقدم اقتصادي يفوق الخصم الصيني؛ وذلك على النحو التالي:

1- مكافحة الاقتصاد الهندي بسبب جائحة كورونا: يجب أن تصطف الشركات الدولية لتحويل إنتاجها إلى شبه القارة الهندية، بينما تعزز الشركات المحلية استثماراتها للاستفادة من الطفرة. ومع ذلك، هناك القليل من الدلائل على حدوث هذا التحول. يتضح من خلال العديد من المقاييس، أن الاقتصاد الهندي لا يزال يكافح لاستعادة مكانته قبل انتشار الجائحة. صحيح أنه كان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال العامين الماضيين سريعاً بشكل استثنائي، وأعلى من أي دولة رئيسية أخرى، إلا أن هذا وهم إحصائي إلى حد كبير؛ فخلال العام الأول للوباء، عانت الهند من أسوأ انكماش في إنتاج أي دولة نامية كبيرة.

وبالقياس إلى عام 2019، فإن الناتج المحلي الإجمالي اليوم في الهند، يعتبر أكبر بنسبة 7.6% فقط، مقارنة بـ13.1% في الصين و4.6% في الولايات المتحدة البطيئة النمو؛ فلقد تراجعت الإعلانات عن المشاريع الجديدة مرة أخرى، بعد انتعاش قصير بعد الوباء، وبقيت أقل بكثير من المستويات التي تحققت خلال الازدهار في السنوات الأولى من هذا القرن. الأكثر إثارة للدهشة أنه لا يوجد دليل كبير على أن الشركات الأجنبية تنقل إنتاجها بالفعل إلى الهند؛ فعلى الرغم من الحديث عن الهند كوجهة استثمارية مفضلة، فإن الاستثمار الأجنبي المباشر الكلي ظل في حالة ركود خلال العقد الماضي، وبقي عند نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي، فلا تزال المخاطر مرتفعة للغاية.

2- مؤشرات اقتصادية مقلقة خلال عام 2022: مع انتشار الجائحة، وصل العجز المالي والتجاري الخارجي في الهند، أعلى من الحد الأقصى الذي يفرضه البنك المركزي قانوناً البالغ ستة في المائة. وفي الوقت نفسه، تضاعف عجز الحساب الجاري للهند إلى نحو أربعة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث من عام 2022؛ حيث تكافح لزيادة الصادرات بينما تستمر وارداتها في النمو. بالطبع، تعاني العديد من البلدان من مشاكل في الاقتصاد الكلي، لكن متوسط هذه المؤشرات في الهند أسوأ من أي اقتصاد كبير آخر، باستثناء الولايات المتحدة وتركيا.

الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن العجز الحكومي العام في الهند، الذي يبلغ نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي، يعتبر واحداً من أعلى المعدلات في العالم؛ حيث تمثل مدفوعات الفائدة وحدها أكثر من 20% من الميزانية. يبقى العائق الأخير أمام النمو، هو التحول الهيكلي العميق الذي قوض ديناميكية وتنافسية المشاريع الخاصة؛ فلقد تضرر القطاع غير الرسمي الضخم للغاية في الهند، بشكل خاص. وتُعد نقاط ضعف سوق العمل تلك، تذكيراً تحذيرياً بأن القطاع الرقمي المتقدم في البلاد، يوظف عمالاً ذوي مهارات عالية يشكلون جزءاً صغيراً من القوة العاملة. على هذا النحو، يبدو أن صعود الهند كقوة رقمية، بغض النظر عن مدى نجاحها، من غير المرجح أن يولد فوائد كافية على مستوى الاقتصاد ككل لإحداث التحول الهيكلي الأوسع الذي تحتاجه الدولة.

3- وجود بعض مخاطر الاستثمار داخل الهند: من بين العديد من المخاطر التي تواجه الاستثمار في الهند، هناك نوعان مهمان بشكل خاص: أولاً– لا تزال الشركات تفتقر إلى الثقة بأن السياسات الهندية المعمول بها وقت الاستثمار لن تتغير لاحقاً، بطرق تجعل الاستثمارات غير مربحة. وحتى إذا ظل إطار السياسة جذاباً على الورق، فلا يمكن للشركات أن تكون متأكدة من أن القواعد سيتم فرضها بشكل محايد، وليس لصالح التكتلات الهندية الوطنية العملاقة التي فضلتها الحكومة.

فاعتباراً من أغسطس 2022، تم حساب ما يقرب من 80% من الزيادة السنوية البالغة 160 مليار دولار في رسملة سوق الأوراق المالية في الهند، من قبل مجموعة واحدة فقط، وهي مجموعة أداني Adani الهندية لإدارة الموانئ وتوليد الطاقة، التي أصبح مؤسسها فجأة ثالث أغنى شخص في العالم. من ناحية أخرى، لا يمكن للشركات الأجنبية أن تقلل من مخاطرها من خلال الشراكة مع الشركات المحلية الكبيرة؛ حيث تسعى تلك الكيانات الوطنية المحلية للسيطرة على المجالات المربحة نفسها، مثل التجارة الإلكترونية. أما الشركات المحلية الأخرى، فلا ترغب في السير في القطاعات التي تهيمن عليها المجموعات التي تلقت مزايا تنظيمية واسعة من الحكومة.

4- وضع الهند بعض القيود الحمائية على الشركات: هناك العديد من الأسباب الأخرى التي تجعل الشركات الدولية من المرجح أن تظل مترددة بشأن الهند؛ حيث يتمثل أحد العناصر الرئيسية لخطة PLI، على سبيل المثال، في رفع التعريفات الجمركية على المكونات الأجنبية الصنع. تهدف تلك إلى تشجيع الشركات التي تنتقل إلى الهند، على شراء المدخلات من السوق المحلية، لكن هذا النهج يعيق بشكل كبير معظم الشركات العالمية، نظراً لأن المنتجات المتقدمة في العديد من القطاعات، مصنوعة عادةً من مئات أو حتى آلاف الأجزاء التي يتم الحصول عليها من المنتجين الأكثر قدرة على المنافسة في جميع أنحاء العالم.

بالنسبة لشركات مثل Apple التي تخطط لبيع منتجاتها في الهند، قد تكون التعريفات الجمركية المرتفعة للواردات أقل أهمية، لكن هذه الشركات قليلة ومتباعدة؛ لأن سوق المستهلكين من الطبقة المتوسطة في الهند، لا يزال صغيراً بشكل مدهش، فلا يزيد عن 500 مليار دولار مقارنة بالسوق العالمية التي تبلغ نحو 30 تريليون دولار. وبذلك فبالنسبة لمعظم الشركات، فإن مخاطر ممارسة الأعمال التجارية في الهند تفوق المكاسب المحتملة. وإدراكاً للتوتر المتزايد بين سياساتها الحمائية وهدفها المتمثل في تعزيز قدرتها التنافسية العالمية، تفاوضت نيودلهي مؤخراً على اتفاقيات التجارة الحرة مع أستراليا والإمارات، لكن تبقى هذه المبادرات مع الاقتصادات الأصغر والأقل ديناميكية، ضئيلة للغاية بجانب تلك الخاصة بمنافسي الهند في آسيا. فيتنام – على سبيل المثال – وقعت عشر اتفاقيات تجارة حرة منذ عام 2010؛ مع الصين والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، وكذلك مع شركائها الإقليميين في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان).

وختاماً، تواجه الهند ثلاث عقبات رئيسية في سعيها لأن تصبح “الصين التالية”: تفاقم مخاطر الاستثمار، والاندماج السياسي القوي للغاية، والاختلالات الاقتصادية الكلية الكبرى. لذلك يجب إزالة هذه العقبات قبل أن تستثمر الشركات العالمية في الهند. وإذا لم يحدث ذلك، فستستمر الهند في التعثر؛ حيث تعمل أجزاء من الاقتصاد بشكل جيد، بينما تفشل الدولة ككل في تحقيق إمكاناتها. وبذلك، قد ينجذب صانعو السياسة الهنود إلى الاعتقاد بأن تراجع الصين يعني عودة ظهور الهند. لكن في النهاية، إذا ما كانت الهند ستتحول إلى الصين التالية أم لا، هذا ليس مجرد مسألة قوى اقتصادية عالمية أو جغرافيا سياسية، بل إنه أمر سيتطلب تحولاً جذرياً في السياسة من جانب نيودلهي نفسها.2022.