يتعرض النظام الاقتصادي العالمي لضغوط هائلة، مما يحد من آفاق نموه في المدى الزمني القريب، ويزيد من حالة عدم اليقين بشأن توقعات أدائه في المدى الزمني المتوسط. وعلى الرغم من أن هذا المشهد ينطبق على واقع الاقتصاد العالمي المُعاش، فقد كشف أحد التقارير البحثية الصادر في يناير 2019 عن "مجلس سياسات الأعمال العالمي" (Global Business Policy Council)، بعنوان "آفاق الاقتصاد العالمي 2019 – 2023: على جليد رقيق"، عن أزمة مركبة يعانيها الاقتصاد العالمي.
ويناقش هذا التحليل توقعات أداء الاقتصاد العالمي في عام 2023، في ظل استمرار تبعات جائحة كورونا، وما تلاها من آثار سلبية للحرب الروسية – الأوكرانية، مع توضيح سُبل مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية.
أزمة ممتدة:
وفقاً لتقرير "مجلس سياسات الأعمال العالمي" الصادر في عام 2019، أسهمت عوامل عدة في تأزم المشهد الاقتصادي، جاء في مقدمتها تباطؤ معدلات النمو في غالبية الاقتصادات الرئيسية، وارتفاع حاد ومتنام في الديون المتراكمة وأعبائها خاصةً في البلدان ذات الديون المُقومة بالدولار الأمريكي، التي باتت أعلى تكلفة في ظل ارتفاع أسعار الفائدة بالولايات المتحدة الأمريكية. يُضاف إلى ذلك، تكاتُف عوامل هيكلية عدة تُغذي هذا التباطؤ، منها شيخوخة سكان العالم وتحديداً في الاقتصادات المتقدمة، وتراجع مستويات الإنتاجية، واتساع فجوة المواهب التي تُكبل مؤسسات الأعمال لعدم تناسب مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل.
بعبارة أخرى، واستناداً إلى هذا التقرير، يُمكن القول إن أوضاع الاقتصاد العالمي كانت مُتأزمة بالفعل منذ عام 2019، أي قبل عام من تفاقم أزمة جائحة "كوفيد-19" التي بدأت في أوائل 2020، واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، وانتقال آثارهما الانتشارية العميقة في أرجاء العالم. وعندما نُضيف لذلك، تنامي التوترات الجيوسياسية، واتساع تغيرات المناخ القاسية التي تُكبد العالم خسائر بشرية ومادية جمة، والآثار الجانبية للإجراءات الحكومية المُتبناة لمواجهة هذه الأزمات الكارثية؛ يُصبح المشهد أكثر تعقيداً وتأزماً.
مشهد مُتأزم:
إذا كان 2022 عاماً سيئاً عبر تاريخ الاقتصاد المُعاصر، فإن البعض يصف عام 2023 بأنه سيكون الأسوأ. فإلى جانب أزمات طويلة المدى متراكبة ومتزامنة مُلقاة على عاتقه، تتزايد ردة فعل المستثمرين ورواد الأعمال الذين يواجهون حالة غير مسبوقة من التعقيد وعدم اليقين والغموض بشأن الحاضر والمستقبل، واحتقان مواطنين تتآكل مدخراتهم وأجورهم الحقيقية، وتنامي أعداد الفقراء واتساع الفجوة بينهم والأغنياء.
وهنا، يُثار تساؤل حول السمات الرئيسة لمشهد اقتصاد 2023 وأهم المخاطر التي يواجهها؟ وبدايةً، وفقاً لأحدث تقديرات صندوق النقد الدولي، يُتوقع انخفاض معدل نمو سنوي حقيقي للاقتصاد العالمي إلى 2.7% في العام الجديد، بعد أن يُسجل 3.2% في عام 2022؛ مع تباطؤ عالمي على نطاق واسع، وحالات من الانكماش.
وهناك عوامل عدة قد تُغذي هذا المشهد الاقتصادي المتأزم في العالم، أبرزها التالي:
1- انخفاض الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج: وصلت إنتاجية عوامل الإنتاج إلى أدنى مستوى لها منذ سبعينيات القرن العشرين، بنسبة -0.4% خلال الفترة 2020 – 2023. بعبارة أخرى، يتراجع أداء المؤشر الرئيسي المسؤول عن تعزيز فرص النمو والازدهار في المدى الزمني الطويل، ويؤثر عكسياً على عوامل النمو الأخرى.
2- تراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر: ضعفت معنويات المستثمرين بسبب ارتفاع معدلات التضخم ومخاطر الركود وحالة عدم اليقين. ووفقاً لتقرير منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد"، سجلت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر العالمية خلال الربع الثاني من عام 2022 ما يقرب من 357 مليار دولار، بانخفاض 31% عما كانت عليه في الربع الأول من نفس العام.
3- تباطؤ عمليات الدمج والاستحواذ: يأتي ذلك في ظل تقييمات الأسهم المنخفضة نسبياً، ورفع البنوك المركزية العالمية أسعار الفائدة للحد من ارتفاع التضخم، ما جعلها أعلى تكلفة، حتى أن خدمة "بلومبرغ للقانون" (Bloomberg Law) وصفت هذه السوق – التي بلغت قيمتها خلال التسعة أشهر الأولى من عام 2022 نحو 3.1 تريليون دولار أمريكي - بالبطيئة وغير المؤكدة.
4- استمرار ضعف تدفقات التجارة العالمية: فقدت التجارة العالمية زخمها خلال النصف الثاني من عام 2022، حيث يتوقع أن تحقق نمواً بنسبة 1% فقط خلال عام 2023، لأسباب عدة؛ منها تباطؤ نمو الاقتصادات الرئيسية، وزيادة تكاليف الإنتاج، وارتفاع تكلفة المعيشة. يُرجح ذلك نتائج "باروميتر التجارة السلعية"، حيث سجلت قراءة سبتمبر الماضي 96.2 نقطة، منخفضة عن القيمة الأساسية للمؤشر (100 نقطة) وقراءاته السابقة.
5- تنامي المخاوف المالية لدى الأفراد: مرد ذلك إلى الزيادات الكبيرة في تكلفة المعيشة خلال 2022، والتي أصابتهم بخيبة أمل بشأن تحسن أوضاعهم في 2023. ووفقاً لتقرير مرصد التضخم العالمي الشهري لشركة "إبسوس" – بعد مقابلة حوالي 25 ألفاً من البالغين في 36 دولة - يعتقد ما يقرب من سبعة من كل عشرة منهم أن التضخم سيستمر في الارتفاع، ويعتقد أكثر من ستة من كل عشرة أن أسعار الفائدة والبطالة سترتفع.
مخاطر في الأفق:
مع تأزم مشهد 2023، ثمة مخاطر عديدة قد تجعل الأمر أكثر سوءاً. وفي هذا السياق، ذكرت "وحدة الاستخبارات الاقتصادية"، التابعة لمجلة "الإيكونوميست" البريطانية، عشرة مخاطر أساسية، جميعها ستنعكس آثارها على الاقتصاد العالمي في العام الجديد، يتمثل أهمها في الآتي:
1- أربعة مخاطر اقتصادية: تتمثل في تدهور العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي أو بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وحدوث كساد عالمي ناتج عن تقييد السياسات النقدية، وحدوث موجة جديدة شديدة من متحور "كوفيد-19"، بالإضافة إلى سياسة "صفر كوفيد" التي تتبناها الصين.
2- ثلاثة مخاطر عسكرية: تشمل تحوُّل الحرب الروسية - الأوكرانية إلى صراع عالمي، واندلاع صراع بين الصين وتايوان، وحدوث حرب سيبرانية.
3- خطران سياسيان: احتمالية شتاء قارص يزيد من حدة أزمة الطاقة الأوروبية، واضطرابات اجتماعية ناتجة عن ارتفاع معدلات التضخم حول العالم.
4- خطر بيئي: يتضمن حدوث مجاعة نتيجة أحداث الطقس القاسي، والحرب الروسية - الأوكرانية.
وثمة مخاطر أخرى منظورة، منها حدوث اضطرابات تنظيمية، في ظل عدم القدرة على التنبؤ بالسياسات الحكومية، ومحاولاتها الاستجابة للأحوال الاقتصادية الصعبة وأوضاع المالية العامة الأكثر هشاشة. وفي هذا السياق، قد تتجه حكومات بعض الدول إلى فرض مزيد من الضرائب أو القيود التجارية الحمائية لدعم مواردها المالية، مما يزيد من حالة عدم اليقين التي تطغى على بيئة الأعمال.
كما يواجه العالم خطر "نقص المواهب البشرية"، التي تؤثر حتماً على أداء المؤسسات ومستويات الإنتاجية. ووفقاً لدراسة صادرة حديثاً عن مؤسسة "كورن فيري" الأمريكية (Korn Ferry)، فإنه بحلول عام 2030 سيكون هناك نقص عالمي في المواهب البشرية لأكثر من 85 مليون شخص، مما يتسبب في فقدان حوالي 8.5 تريليون دولار أمريكي من الإيرادات السنوية غير المُتحققة.
بالإضافة لذلك، يعاني الأفراد أيضاً تقادماً متنامياً للمهارات؛ حيث يشير تقرير "مستقبل الوظائف"، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، إلى أن 50% من الموظفين سيحتاجون إلى إعادة صقل مهاراتهم بحلول عام 2025. ولا نستغرب هنا أن ذلك يتطلب استثماراً لاستقطاب الموهوبين والحفاظ عليهم، وضمان تجدد مهاراتهم.
سياسات المواجهة:
في خضم مؤشرات عام 2023 غير المواتية، والمخاطر المرجح أن تُعمقها، لن يركن العالم لتوقعات تباطئه ويستسلم لها، فثمة فرص سانحة يمكن ترسيخها والبناء عليها، بإرادة ورغبة في طرق مسارات جديدة، والتعويل على الخبرة المُكتسبة من التعاطي مع أزمات السنوات الماضية، وتقييم مدى نجاعة تدخلات المواجهة في شتى المجالات.
ويعد تحسين مستوى الصمود الاقتصادي ركيزة أساسية لمقاومة الأزمات والتعافي السريع منها، والحد من آثارها، والاستفادة من فرصها. وقد يتطلب ذلك العمل على عدة محاور، ومنها وجود مزيد من التنويع للهيكل الاقتصادي، وتمكين القطاع الخاص، ومواجهة التغيرات المناخية، وتعزيز الأمن الغذائي، بالإضافة إلى إدماج مجتمعي فعَّال في العمل الحكومي، مع التعاون الدولي والإقليمي، وتحسين معيشة المواطنين.
وهناك آفاق رحبة لزيادة الإنتاجية، بتعزيز عمليات الابتكار الشامل (تحويل الابتكار إلى منتج أو خدمة نهائية)، والاستثمار في القطاعات الأعلى إنتاجية، وتحسين المنافسة في الأسواق، والارتقاء بقدرات القوى العاملة وإطلاق مواهبها. كما تبدو أهمية تحسين "الملاءة المالية" لحكومات الدول؛ لأن النمو الاقتصادي المستند إلى الدين يُعتبر مساراً غير مستدام في المدى الزمني المتوسط والطويل.
ولمواجهة اضطرابات الطاقة والحد من التغير المناخي، يتعين تكثيف العمل على مستهدفات إزالة الكربون، ومصادر الطاقة المتجددة لتحقيق استقرار طويل المدى، وتوفير فرص استثمارية كبيرة وواعدة، عبر جيل جديد من الطاقة النووية والهيدروجين الأخضر وتطور تقنيات بطاريات التخزين. ولا شك أن ذلك يزيد من مستويات إنتاجية الطاقة.
ختاماً، في ظل كل ما تعانيه البشرية من اضطرابات جيوسياسية، وأزمات اقتصادية، وظواهر مناخية متطرفة، وأوبئة فتاكة، وغير ذلك من مخاطر؛ تحتاج شعوب العالم إلى استعادة الثقة في قدرة الحكومات والمؤسسات ومنشآت الأعمال على توفير البيئة الآمنة لهم. ومن سينجح في ذلك سيكون هو الرابح في 2023.