أثناء حكومة لبيد - بينت، تم اقتحام الأقصى وبضجيج كبير وبدعم كامل من المؤسسات السياسية والأمنية، وذات الحكومة عملت بمبدأ معاقبة السلطة ردًا على أيّ توجه من طرفها للمؤسسات الدولية، واستمرت بتطبيق القرار الخاص بحسم قيمة مرتبات الأسرى من عائدات الضرائب؛ فما بالنا بحكومة اليمين الفاشي التي جاءت بشعارات فرض الحكم وإثبات من هو رب البيت في القدس وداخل مناطق الـ 48، ومنحت المقتحم الأبرز للأقصى مفاتيح الأمن وفرض السيادة في القدس، وتحمل برنامجًا متكاملًا لضم وفرض السيادة على المستوطنات وتفكيك السلطة أو تجزئتها وتوزيعها على العشائر والحمولات بحسب السيادة العشائرية في كل محافظة (بحسب برنامج سموتريتش)؛ وبذلك فإن ما تم من اقتحام متسلل للأقصى وإقرار الكابينت لمجموعةٍ من العقوبات على السلطة - أبرزها سطو وقح على أموال الشعب الفلسطيني لصالح بعض مصابي العلميات الفلسطينية، فضلًا عن استمرار حسم قيمة رواتب الأسرى - هو مجرد البداية على درجات سلم الهجمة المسعورة المخطط لها.
من طبيعة الحياة السياسية، فإن خطاب المعارضة - وبالذات اليمينية - يختلف عن خطابها من كرسي الحكم، حيث في المعارضة تتسم بالانفلات والتحلل من المسؤولية وهدفها الرئيس المزايدة والاستقطاب، وبالتجربة فقد عايشنا ليبرمان وزيرًا للأمن وكيف تعامل مع المقاومة بعد أن كان السياسي الأكثر تهديدًا لها، وبينت رئيسًا للوزراء، وجلعاد أردان وزيرًا للأمن الداخلي وتهديداته السابقة ضد ظروف معيشة الأسرى، والتجربة تقول إن أوراق القوة والضغط التي يملكها الفلسطينيون ميدانيًا أو على مستوى تأثيرهم ومركزية قضيتهم في الفضاء العربي والإقليمي والدولي، هي التي تحدد مدى تجرؤ الاحتلال ومستوى هجماته المسعورة، مع عدم تقليل خطورة طبيعة المكونات السياسية لحكومة الاحتلال، لا سيما عندما تنتمي لليمين الفاشي وتمتلك قدرة فرض أجندتها بما تمتلكه من سيطرة على رئيس الحكومة، فسموتريتش مثلًا (الذي كان وزيرًا في حكومة نتنياهو 2018، وكان له تأثير يكاد لا يذكر) يختلف عن سموتريتش في حكومة نتنياهو السادسة، بما يمتلكه تأثير قوي عليها.
سنة التغير تنطبق أيضًا على بن غفير بشكل أكبر ممّا تنطبق على سموتريتش، فالفرق بينهما كبير؛ فالأول بلطجي منفلت لكنه يبحث عن مكانته، ومكانته التي يكتسبها من ناخبيه هي الأساس، وبذلك فهو برغماتي إلى حد ما، واضطرارات السياسة جعلته يظهر تغيرًا تنكر خلاله للكهانية وأزال صورة الفاشي القاتل باروخ غولديشتاين من مكتبه، وهو يسعى بشكل رئيس لالتقاط الصورة، مع ذلك قدرة سنة التغير محدودة وتتطلب وقتًا، وهي بشكل أساسي مرهونة بممكنات الشعب الفلسطيني التي تجعلهم يصطدمون بمحدودية قوتهم.
تسلل بن غفير للأقصى صباحًا يعبّر بشكل كبير عن فهم التغير ما بين خطاب المعارضة وخطاب الحكم، لكن الإخراج كان ذكيًا، وذكاء الإخراج هنا يعود لنتنياهو الذي فهم أن لدى بن غفير التزام كبير باقتحام الأقصى وكأنه نذر عليه، وأنه لا يستطيع أن يمنعه بشكل رسمي وعلني، لتداعيات ذلك في أوساط ناخبي اليمين من أن يدركوا أن حكومتهم كاملة، اليمينية و(القوية جدًا)، لا تستطيع أن تخلص لشعاراتها ولا تستطيع أن تقوم بما قامت به حكومة لبيد (المتهمة باليسروية والضعف)، فطلب من بن غفير أن يتشاور مع الشرطة ومع "الشاباك"، وهنا حرر نتنياهو نفسه من الحرج وألقى بالكرة في ملعب رونين بار، رئيس "الشاباك".
ومن الواضح أن نتنياهو طلب من بار أن يشترط على بن غفير الشروط المعروفة باقتحامه للأقصى، منها التسلل صباحًا وبدون إعلان مسبق وبدون تلاوات دينية، وكل ذلك بعد أن تأكدوا من أن الموقف سينتهي بدون ثمن ميداني، سواء في القدس أو على مستوى القطاع، وثمن الإدانة العربية والدولية هو أمر مُضطرين على احتماله، فهو ثمن محدود. كما أن إظهار نوع من فرض السيادة على الأقصى هو جزء حيوي من السياسة الاحتلالية، وقد علق مكتب نتنياهو بالإشارة إلى أن الاقتحام لا يعد خرقًا للوضع الراهن، على اعتبار أن وزراء سابقين سبق وأن اقتحموا الأقصى.
بن غفير ونتنياهو خرجا بمظهر من ربح اللحظة السياسية؛ فبن غفير أثبت لجمهوره أنه قادر على الاقتحام دون أن يحسب حسابًا لأحد، وهذا غير صحيح. كما أن نتنياهو ظهر بمن لا يخضع لاعتبارات التهديد والضغط عليه من الفلسطينيين والعرب، وأنه مُلتزم بإظهار السيادة على الأقصى، هي مناوره ذكية وإدارة مسرحية من خلف المشهد أعِدّت بأحكام وحسبة مدروسة.
من هنا وحتى وقت مسيرات الإعلام ويوم احتلال القدس، ابتداءً من نيسان ومايو القادميْن، وهي المرحلة الأكثر حساسية وتوترًا، والتي قد يكون أهم شخصياتها بن غفير؛ فأنه سيحاول أن يحتل منصات الإعلام عبر سياسات استفزازية في النقب وفي الجليل، وداخل المدن المختلطة.
أما سموتريتش فهو الأيديولوجي الأكثر تشددًا ومنهجية وعنادًا في تنفيذ أجندته، ويعمل عليها بشكل شامل وحازم، ولا يخفي توجهه بشرعنة البؤر الاستيطانية وفرض السيادة على المستوطنات وتفكيك السلطة باعتبارها كيانًا يعمل على منح الفلسطينيين في الضفة هوية سياسية؛ لذلك فإن العقوبات التي أقرها الكابينت هي فقط البداية، كما أعلن عن ذلك سموتريتش، وستحمل الفترة القادمة الكثير من أشكال فرض الأمر الواقع، ميدانيًا وسياسيًا، هذا عدا عن التشديد في الملاحقة الأمنية للفلسطينيين، لا سيما في ظل الضعف الفلسطيني الكبير الذي يجعل التجرؤ الاستيطاني والاحتلالي بلا ثمن يضطرهم على الأقل لإبطاء وتيرة اندفاعهم، لاسيما في ظل غياب أيّ موقف عربي أو دولي قوي ينتقد أو يعارض السياسات الاحتلالية.