شخصت مجلة “إيكونوميست” حالة تركيا التي تقترب من مئويتها الأولى ومن عقد انتخابات حيوية قد تقرر مصيرها كديمقراطية.
وفي مقال رأي نشره بيوتر زالويسكي قال إن أحدا لا يمكنه تجنب رؤية قصر “كلية الرئاسي” في أنقرة، عاصمة تركيا، حيث تنقل السيارات السوداء الصغيرة (ميني فان) الزوار عبر أنفاق إلى موقف سيارات وتضعهم في جناح. وفوق الأرض ممرات لا نهاية لها مغطاة بالسجاد تربط 1.100 غرفة تغطي مساحة 300.000 متر مربع أي أربعة أضعاف حجم قصر باكنغهام في لندن. وهناك مسجد يلقي بظله على المجمع وحرس بزيهم البيج والشوارب المشذبة بعناية يمرون سريعا بمركباتهم. ويرحب بالزوار الأجانب، محاربون بأزيائهم التي تمثل الإمبراطورية العثمانية من الهان إلى العثمانيين.
وبعيدا في مركز المدينة بناية متواضعة زهرية اللون كانت مقر مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، وهو قصر “جانكايا” والذي ظل مقر خلفائه لمدة 90 عاما، وباستثناء واحد، ففي عام 2014 انتقل رجب طيب أردوغان إلى القصر الجديد “كلية” بحيث تحول قصر أتاتورك إلى بناء مهمل باستثناء اتخاذه مقرا لرئيسي وزراء، قبل أن يتحول إلى رمز لماض ذهب.
ويقول الكاتب إن الأتراك سيحتفلون في نهاية العام الحالي بالمئوية الأولى على ولادة دولتهم الحديثة والتي أسسها أتاتورك الذي دافع عن البلاد ضد اليونان والبريطانيين والفرنسيين وكذا الإيرانيين ليصبح أول رئيس لها. وتساءل الكاتب عما سيدور في ذهن أتاتورك اليوم عن الدولة التي أنشأها، وهو سؤال تصعب الإجابة عليه. وبالتأكيد سيشعر بالعاطفة المتأججة عندما يرى صورته تزين كل مكتب ومؤسسة حكومية. وسيشعر بالدهشة عندما يرى أن كل البلاد تحيي ذكرى يوم وفاته في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر كل عام وبعد 85 عاما عليها. وسيصاب بالذهول من تحول البلد من اقتصاد زراعي متعثر لواحد من القوى الأوروبية من الناحية السكانية، فقد تفوق عدد سكان تركيا (85 مليونا) على عدد سكان ألمانيا.
ولكنه لن يتعرف على الكثير مما حدث للبلد، فعلى مدى عشرين عاما، تحول أردوغان، الذي أصبح رئيسا للوزراء في آذار/مارس 2003، ورئيسا عام 2014 للشخصية السياسة المهيمنة على البلاد. وربما تمت المبالغة في ميوله الإسلامية ببداية حكمه إلا أن نزعته الاستبدادية أصبحت أكثر وضوحا.
ولدى تركيا اليوم رئاسة تنفيذية استغلها أردوغان ليجمع ما بين دور الرئيس ورئيس الوزراء وزعيم الحزب وحاكم المصرف المركزي. ولم يعد الجيش الذي كان قوة يحسب لها حساب مؤثرا في السياسة، فقد تم تدجينه. وأصبح لدى أردوغان سياسة خارجية مستقلة عن الغرب وتفضل التدخلات العسكرية الخارجية وتتعامل مع معدلات الفائدة المنخفضة كحل للمشاكل إلا التضخم. وأصبح لدى تركيا اسم جديد، ففي أيار/مايو 2022 أصدر أردوغان مرسوما أعلن فيه عن تحويل الاسم إلى تركيا من “تيركي” بالحروف اللاتينية. وتركيا التي وعد أردوغان بحكمها في المستقبل القريب ليست منتجا كاملا. إلا أن معظم المداميك والدعائم للبناء قائمة.
وتحول المجمع الرئاسي “الكلية” إلى رمزها وعصبها، فقد تحولت الكثير من السلطات على مدى العقد الماضي من مؤسسات الدولة إلى الرئيس وحاشيته وعائلته وأصدقائه. وأصبح لدى أردوغان الكلمة الأخيرة في كل ملامح السياسة العامة، فكرئيس للوزراء منح المصرف المركزي استقلالية وحوله لمؤسسة تابعة للحكومة كرئيس. وأصبحت وزارة الخارجية التي كانت ساحة للمؤسسة العلمانية مجرد سكرتاريا في السياسة الخارجية. ونفس المصير حصل للحزب الحاكم، العدالة والتنمية، حيث قال أردوغان عام 2014 “حزب العدالة والتنمية لن يتحول أبدا لحزب الرجل الواحد” ولم يكن هذا الكلام صحيحا في حينه وهو خطأ اليوم. فهناك انقسامات وتنافس داخل الحزب بدون أن تكون هناك مساحة للمعارضة، فالحزب تابع لأردوغان وكذا جزء كبير من قاعدته. وقال نائب للحزب “لو قال الرئيس إن هذا أزرق فالشعب يقول إنه أزرق”.
ويقول الكاتب إن المحاسبة والقيود ليست موجودة في سلطة أردوغان، واحدة من هذه هي الاقتصاد، فتخفيض سعر الفائدة المتهور أدى لنمو مستمر ولكن بثمن كبير. فالتضخم وصل إلى 85% في الخريف قبل أن ينخفض إلى 64% في كانون الأول/ديسمبر حسب الإجراءات الرسمية، إلا أن المساعدات الحكومية وزيادة الأجور وضعت ضغوطا على الأسعار. وأثارت القواعد الجديدة التي تطلب من البنوك شراء الصكوك الحكومية واستخدام الشركات الليرة مخاوف من انهيار القروض.
وهناك صناديق الاقتراع، فالانتخابات البرلمانية والرئاسية ستعقد في حزيران/يونيو، مع أنها قد تعقد قبل ذلك، قبل شهر على الأقل.
فالنفقات الكبيرة الأخيرة أدت لارتفاع شعبية الحزب والرئيس. فقد تراجعت نسبة الأتراك الذين لا يوافقون على طريقة الحكومة في معالجة الاقتصاد من 75% إلى 62% في تشرين الثاني/نوفمبر. إلا أن الاستطلاعات تقترح خسارة الرئيس الانتخابات لصالح مرشح المعارضة وكذا خسارة الحزب وشريكه في الحكم الحركة الوطنية الغالبية في البرلمان. وبحلول الذكرى المئوية لتركيا في 29 تشرين الأول/أكتوبر ربما يكون أردوغان خارج الرئاسة.
لكن المراهنة على الرئيس التركي تظل مقامرة خطيرة، فرغم فوزه في 10 انتخابات برلمانية وانتخابات محلية وجولتين رئاسيتين وثلاثة استفتاءات ونجا من تظاهرات حاشدة وفضائح فساد وحرب مع الجماعة الغولونية القوية ومحاولة انقلاب عنيفة، فإنه حقق هذا من خلال القمع والرقابة وبرغماتية شرسة وحس سياسي قوي وجاذبيته الشخصية. فلا يوجد في تركيا اليوم شخصية سياسية تستطيع جذب الجماهير كما يستطيع ولا أحد لديه القدرة على القيام بحملات انتخابية لا تنتهي مثله. ويتأكد أردوغان أن الانتخابات تعقد بناء على شروطه. ولدى أردوغان وحزبه القدرة على استخدام مصادر الدولة والإعلام لصالحهم.
ولا يمكن اعتبار سوى 10% كإعلام مستقل أو مؤيد للمعارضة. وكانت شبكة الإنترنت ملجأ للأصوات المعارضة، لكنها لم تعد. وقدمت الأدلة ضد 200.000 شخص بتهمة “إهانة الرئيس” منذ عام 2014 وهي تهمة قد تؤدي للسجن مدة أربعة أعوام، ومنحت الحكومة قوة على تويتر وفيسبوك. ويعرف عن أردوغان قدرته للحصول على منافع من عملياته العسكرية مثل الغارات ضد المقاتلين الأكراد في سوريا. وهدد بالقيام بعملية عسكرية بعد تفجير إسطنبول الذي اتهمت به الحكومة حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) والجماعة التابعة له قوات حماية الشعب في سوريا (واي بي جي).
واستخدم أردوغان المحاكم لصالحه، فعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، حاول حرمان إمام أكرم أوغلو عمدة إسطنبول من النصر. وفي كانون الأول/ديسمبر أصدرت محكمة قرارا يدين أوغلو بإهانة المسؤولين، وتم إلغاء القرار عبر الاستئناف. وسجن عدد من قادة حزب الشعوب الكردية. ويناقش التقرير الحالي أن الديمقراطية موجودة في تركيا إلا أن خمس سنوات أخرى من “الأردوغانية” قد تؤدي إلى تعميق الاستبداد. ويخشى الأتراك من محاولة النظام الحاكم اللجوء إلى الإجراءات المتطرفة للحفاظ على السلطة، ويجدون صعوبة في تخيل مستقبل بدون أردوغان، كما وستظل التغيرات في السياسة الخارجية والتي أحدثها الرئيس.
وما يحدث في تركيا مهم للعالم وبخاصة أوروبا، وركزت الحرب في أوكرانيا النظر على أهمية تركيا وبخاصة في البحر الأسود، رغم العلاقة الغامضة مع روسيا. وبالنسبة للاتحاد الأوروبي فتركيا هي خط الدفاع الأول، وإن لم تكن في مجال الهجرة والتطرف الإسلامي. ومحادثات العضوية في الاتحاد الأوروبي في غيبوبة، حيث تريد أنقرة التركيز على القضايا المهمة مثل الهجرة والتعاون الاستخباراتي وتجاهل ملفات حقوق الإنسان.
ووصل مدى التأثير التركي إلى القوقاز ووسط آسيا حيث بدأت القوة الروسية تتلاشى، وكذا في الشرق الأوسط وأفريقيا وغرب البلقان. وفي العام الماضي أصلحت تركيا علاقاتها مع إسرائيل والسعودية والإمارات العربية وتقترب من التصالح مع سوريا. ومع مرور أنابيب النفط والغاز من روسيا والشرق الأوسط ووسط آسيا، تطمح تركيا بأن تكون منطقة عبور لثروات الهيدروكربون المخفية في قاع البحر المتوسط. وشاهدت تركيا في عقد واحد عددا من التحديات من اللاجئين والهجمات الإرهابية ومحاولة انقلابية وحالة طوارئ وكوفيد-19 وهناك اليوم أزمة جديدة تلوح بالأفق وهي الاقتصاد.