طرح السياسي الإسرائيلي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، زعيم حزب "القوة اليهودية"، في حملته الانتخابية سؤالاً لم يكن لدى المؤسسة السياسية الإسرائيلية إجابة عليه: "من المسؤول؟"؛ لقد كانت تهكمًا يصب في بئر عميق من الشعور بأن اليهود فقدوا السيطرة على الفلسطينيين الذين يعيشون في دولتهم. لكن في غضون أسابيع من التناسخ الأخير لبنيامين نتنياهو كرئيس لأكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ إسرائيل، يسأل ملايين الإسرائيليين أنفسهم الآن سؤالاً مماثلاً: من الذي المسؤول لدينا؟: وزير عدل يخطط لتحييد السلطة القضائية واستقلالها؟، أم وزير مالية يشكك في حق المهاجرين الروس في اعتبارهم يهودًا؟، أم وزير الأمن القومي الذي كان أول عمل له هو اقتحام المسجد الأقصى؟
في الحقيقة، التظاهرات الجماهيرية معنية فقط بالمسألة الأولى من القضايا الثلاث، على الرغم من أن قضية الهوية الروسية متفجرة بدرجة كافية أطلق عليها بتسلئيل سموتريتش اسم القنبلة اليهودية الموقوتة. وتم استبعاد الفلسطينيين مرة أخرى من قبل الثورة الصهيونية الليبرالية. فبعد ظهور عدد قليل من الأعلام الفلسطينية وسط بحر من الأعلام ذات الأزرق والأبيض في التظاهرات الجماهيرية الأولى، سارع المنظمون إلى نبذ الوجود الفلسطيني. ومع ذلك، تذوق الصهاينة الليبراليون طعم أن تكون فلسطينيًا على يد النخبة الجديدة: الحركة القومية الدينية للمستوطنين.
صحيح أن المعركة صيغت على أنها معركة من أجل الديمقراطية ضد الفاشيين. ولم يتحول ـ على الأقل حتى الآن ـ إلى نقاش حول القسوة اليومية والكلفة البشرية لاستدامة المشروع الصهيوني نفسه. لكن هذه الأسئلة لا تكمن بعيدًا عن السطح.
اقرأ هذا التعليق الذي نشرته صحيفة يديعوت أحرانوت ـ وهي صحيفة وسطية موالية للخط الإسرائيلي الرسمي ـ حول الاحتلال: الحقيقة المزعجة هي أنه لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية إلى جانب الاحتلال؛ ولا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية في بلد تسمح سياسته الاقتصادية للقوى بالقفز إلى الأمام بينما يتخلف الضعيف عن الركب؛ ولا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية في مكان أبعد العرب عن المسرح".
أي شخص يفشل في معالجة هذه القضايا بشكل واضح ومتسق سيفشل أيضًا في جهوده المبررة تمامًا لإيقاف جزء واحد من العملية، والحقيقة المزعجة هي أن أي شخص يريد أن ينزل مليون شخص إلى الشوارع لزعزعة البلاد استجابة كرد فعل على ليفين لا يمكن أن تتلعثم بالتفاهات حول "تقليص الصراع" وعن كونك "لا يمينًا ولا يسارًا".
العلاقة معقدة
لطالما كانت علاقة الصهيونية السائدة بحركة الاستيطان أكثر تعقيدًا ودقة من تصويرها المعتاد على أنها فاصل بين يمين الوسط واليمين المتطرف. وعندما يكون المركز مسؤولاً يكون الأمر أكثر بكثير من مجرد النظر في الاتجاه الآخر.. لقد ازدادت المستوطنات في ظل الحكومات العمالية. إن التعبير عن الرعب من تكليف بن غفير بمسؤولية حكم الضفة الغربية المحتلة هو تجاهل للدماء الفلسطينية الملطخة بأيدي رئيس الوزراء السابق يائير لابيد. وكان العام الماضي هو الأكثر دموية منذ الانتفاضة الثانية حيث قتل 220 شخصا بينهم 48 طفلًا.
إن إدانة الهجمات على القضاة الإسرائيليين اليساريين يعني نسيان أن هجمات المستوطنين مرت من دون عقاب، وفي حالة الادانة النادرة تتعرض للعقاب. حتى الآن، كانت العلاقة بين الصهيونية الليبرالية والإرهاب اليهودي تكافلية قبل وبعد اغتيال إسحق رابين عام 1995. هذا واضح جدًا من شهادات رؤساء الشاباك المتعاقبين. عندما أمسك جهاز الأمن الداخلي بالإرهابيين يقومون بعملية زرع عبوات من مادة السيمتكس في حافلات فلسطينية ـ كان يمكن أن تؤدي إلى وفيات جماعية ـ عثروا أيضًا على خطط لتفجير المسجد الأقصى.
قال رئيس الشاباك في الفترة 1994-1996 كارمي جيلون في مقابلة مع الفيلم الوثائقي The Gatekeepers: حراس البوابة ": بعد أن كشفنا عن التنظيم السري اليهودي وصف رئيس الوزراء شامير وحدتي بـ "الماسة في التاج". وتلقينا الثناء والدعم من كل مكان. ثم بدأ الضغط نيابة عنهم. تم تقديمهم للمحاكمة. ثلاثة منهم حكم عليهم بالسجن المؤبد وآخرون بأحكام مختلفة. خرجوا جميعًا من السجن بسرعة كبيرة. عادوا إلى منازلهم ومناصبهم، وبعضهم الى مناصب أعلى حتى، وكأن شيئًا لم يحدث.. تم أطلق الكنيست سراح كامل المجموعة السرية. فقد وقّع إسحاق شامير رئيس وزراء إسرائيل قانون العفو عن التنظيم السري اليهودي. ولم يكن الأمر مجرد عدد قليل من أعضاء المعارضة. وبالنسبة للشاباك، كان اغتيال رابين فيلم عن حادث سيارة بطيء الحركة. هنا ظهر بن غفير لأول مرة. ظهر على شاشة التلفزيون وهو يلوح بقطعة من غطاء محرك السيارة كاديلاك التي سُرقت من سيارة رابين: "وصلنا إلى سيارته وسنصل إليه أيضًا".
قال رئيس الشاباك في الفترة 1988-1994 يعقوب بيري: إن اغتيال رابين غير عالمه كله: "رأيت فجأة إسرائيل مختلفة. لم أكن على علم بحدة الخلافات وكراهية الخلافات بيننا. كيف لنا نرى مستقبلنا؟، ما الذي يجمعنا؟، لماذا أتينا إلى هنا؟، ماذا نريد أن نصبح؟، كل هذا كان بديهيًا وانهار ذلك كله. "
هناك شعور بالمرارة في المقابلات الست مع رؤساء الشاباك. إنهم لا يشعرون فقط بخذل الحكومات المتعاقبة. إنهم يشعرون بالخيانة ويقولون ذلك بصراحة. في العام 1996 عندما أدين ييجال عمير قاتل رابين، فقد قال 10 في المئة من الإسرائيليين إنه يجب إطلاق سراحه. وبحلول العام 2006، ارتفع إلى 30 في المئة. لكن هذه العلاقة التكافلية لم تعد موجودة. إن صعود بن غفير وسموتريتش إلى السلطة ليس نزوة من الطبيعة، ولا صدفة سياسية. إنه ليس ترامب. كما أنها ليست انتفاضة 6 كانون الثاني/يناير.
كانت المواجهة بين قوات المشروع الصهيوني لإنشاء دولة يهودية من النهر إلى البحر والتيار الصهيوني السائد في إسرائيل والخارج متأصلة ومخفية في الخلفية منذ إنشاء دولة إسرائيل نفسها. لقد كانت موجودة منذ أن أمر رابين كقائد في الجيش الإسرائيلي المشكّل حديثًا قواته بفتح النار على سفينة شحن تفرغ حمولة أسلحة لمنظمة الإرغون، ما أسفر عن مقتل 16 مقاتلاً. ونُقل مناحيم بيغن الذي أصبح في ما بعد رئيسا للوزراء إلى الشاطئ مصابًا. وتم مسح هذا الانقسام تحت السجادة مرات عديدة. اليوم يندلع في العلن.
الأنموذج الجزائري
إذا كان هناك تشابه تاريخي مع الانقسام الذي يشق الصف الصهيوني على مصراعيه، فهو ليس جنوب إفريقيا بل الجزائر. فقد أقام المستوطنون الفرنسيون الذين عُرفوا باسم الأقدام السوداء في الجزائر منذ القرن التاسع عشر. وتم التعامل مع البلاد على أنها الامتداد الرئيس بدلاً من كونها مستعمرة في إفريقيا. وذهب المثل: "الجزائر جزء من فرنسا بقدر ما هي بروفينس". ومنذ البداية، كانت "المستعمرات" جزءًا لا يتجزأ من المشروع الاستعماري الفرنسي. أعلن الحاكم العام للجزائر المارشال توماس روبرت بوغود أمام الجمعية الوطنية الفرنسية في العام 1840: "أينما توجد مياه عذبة وأرض خصبة في الجزائر فيجب على المرء أن يحدد موقع المستعمرات من دون أن نُعنى لمن تنتمي هذه الأراضي".
تم التعامل مع المطالبات الجزائرية الأولى بعد الحرب بالمواطنة المتساوية بمحاولات الإصلاح. فمنحت باريس الجنسية لـ60 ألفًا على أساس "الجدارة"، وفي العام 1947 أنشأت برلمانًا يتكون من مجلسين أحدهما لأصحاب الأقدام السوداء والآخر للجزائريين. ومع ذلك، فإن تصويت أصحاب الأقدام السوداء كان أكثر قيمة من تصويت الجزائري بسبع مرات. وبعد أربع سنوات من حرب الاستقلال الوحشية التي لا يزال عدد القتلى في فرنسا - حتى يومنا هذا - أقل من الواقع ـ تقول الجزائر إن 1.5 مليون قتلوا، بينما تقول فرنسا إن 400000 من كلا الجانبين قُتلوا ـ فقد حظي أصحاب الأقدام السوداء بتعاطف المؤسسة العسكرية والأمنية الفرنسية ودعمها..
في كتابه "القيادة"، يعتبر الفصل الذي كتبه هنري كيسنجر عن الجنرال تشارلز ديغول ـ ويسميه أحد القادة الستة العظماء الذين تفاعل معهم خلال حياته المهنية كدبلوماسي ـ مفيدًا لفهم ذاك العصر.
انطلقت علاقة ديغول مع المستعمرين من خطاب قال لهم فيه: "أنا أفهمكم" إلى أن أصبح هدفًا لحملتهم الإرهابية في فرنسا نفسها. مع حلول ذلك الوقت تغير المزاج العام في فرنسا وانقلبت فرنسا ضد المستوطنين. كانت نقطة التحول هي تشويه فتاة تبلغ من العمر أربع سنوات في انفجار قنبلة في باريس عام 1962. قبل ذلك، حظيت منظمة الجيش السري Organisation Armee Secrete (OAS) بدعم 80 نائبًا في الجمعية الوطنية. ونتج عن ذلك تظاهرة ضد المنظمة قمعتها الشرطة وقتلت ثمانية شارك مئات الآلاف في جنازاتهم، وحوّل وقف إطلاق النار بين فرنسا وجبهة التحرير الوطني (FLN) المعركة الثلاثية إلى معركة بين طرفين محكوم على المنظمة أن تخسرها.
بالطبع، وبقدر ما يوجد أوجه تشابه بين المستوطنين أصحاب الأقدام السوداء والمستوطنين اليهود، هناك اختلافات كثيرة، بينها أن الدين لم يؤدي دورًا محددًا في المشروع الفرنسي، ولم يكن هناك قتل على نطاق واسع للفرنسيين في أوروبا لتبرير إنشاء هذه المستعمرة في الجزائر. ومع ذلك، فالنقطة الحاسمة في المقارنة لا تزال صحيحة. عندما انقلبت منظمة الجيش السري على أبناء جلدتها فقدت مشروعها بأكمله. ونقطة أخرى حيوية بالنسبة إلى الفلسطينيين هي أن أيًّا من المقاومة الجزائرية ولا مقاومة جنوب أفريقيا انتصرت عسكريًا. بل إن البقاء في الجوار، والمثابرة، ورفض الاستسلام هو الذي فاز في القتال في كلتا الحالتين.
لا أحد يقول ـ على الأقل أنا ـ إن إسرائيل على وشك الانهيار كما حصل للحكم الفرنسي في الجزائر. لكن الشروخ الرئيسة الأولى في المشروع الصهيوني بدأت بالظهور.
الشرخ الأول
لقد بذل بن غفير جهودًا كبيرة منذ مجيئه إلى السلطة قبل بضعة أسابيع نزعت الشرعية عن إسرائيل أكثر نشاط حملة حركة المقاطعة BDS على مدى سنوات، حتى إن قواعد التأييد اليهودي لإسرائيل السابقة في نيويورك أصدرت بيانات توسلت فيها نتنياهو لتغيير مساره. فرئيس أكبر اتحاد يهودي في أمريكا الشمالية إريك غولدشتاين ناشد نتنياهو باحترام" الوفاء بتعهداته السابقة بأنه سيعطل القوانين التي تهدد استقلال نظام القضاء الإسرائيلي. وتكاد الفدراليات اليهودية لا تصدر مثل هذه التصريحات علنًا لسبب بسيط هو أن قطاع الخدمة الاجتماعية الإسرائيلي هو أحد أكبر المستفيدين منها.
بالطبع، سوف يبذل نتنياهو كل ما في وسعه للعب الورقة الدولية. لقد فعل ذلك في الأردن، وأعلن بما لا معنى أن الوضع الراهن في الأقصى لن يتغير. وتعرف الأوقاف جيدًا بصفتها الوصي الأردني على الأماكن المقدسة في القدس أن الوضع تغير بالفعل.
إلا أن نتنياهو مع وجود بن غفير وسموتريتش يواجه شكلًا مختلفًا من شركاء الائتلاف. هؤلاء الذين يمثلون كلاب الحراسة لليمين الديني، وليسوا جزءًا فقط من الحاضر الذي يمثله نتنياهو بكل مساعيه للبقاء في السلطة، إنما يرسمون شكل القيادة الإسرائيلية في المستقبل. وينبغي أن يكون ذلك بمنزلة جرس إنذار لكل يهودي إسرائيلي لا يحمل جواز سفر أوروبي، ولا يتمنى أن يكون وقودًا لحرب شاملة مع 1.6 مليار مسلم حول العالم تبدو الحركة القومية الدينية عازمة على إشعالها. وينبغي عليهم أن يفكروا بالترتيب لمستقبل يتعاملون فيه مع الفلسطينيين سواسية لحل النزاع حول الأرض والمواطنة، وليس خوض صراع حول الدين. والوقت ليس في صالحهم.
قال غيلون في فيلم The Gatekeepers: "كانت الخطة نسف قبة الصخرة وستؤدي النتيجة - حتى اليوم - إلى حرب شاملة مع الدول الإسلامية كلها، وإندونيسيا أيضًا، وليس إيران فقط"؛ وإذا كان محقًا قبل 11 عامًا عندما تم تسجيل هذه المقابلة، فهو أكثر صوابًا اليوم مع وجود الحركة القومية الدينية في مقعد القيادة، إن تنبؤ عامي أيالون نبوءة بصيرة: "نحن نفوز في كل معركة، ولكننا نخسر الحرب". وقد حدث ذلك في الجزائر، وفي جنوب إفريقيا، وسيحدث في اسرائيل أيضًا.