وافقت مصر في ظل حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي في السلطة منذ العام 2014 على ثلاث عمليات إنقاذ مع صندوق النقد الدولي (IMF)، وهي حاليًا ثاني أكبر مقترض من صندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين. وجاءت صفقات صندوق النقد الدولي على خلفية نقص في العملات الأجنبية وارتفاع شديد في الديون. فقد ارتفعت ديون مصر الخارجية من حوالي 40 مليار دولار في العام 2012 إلى ما يقرب من 155 مليار دولار في العام 2022.
بصرف النظر عن الدعم الذي تلقته من المؤسسات المالية الدولية، بما في ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي، فقد تلقت مصر أيضًا ما يقدر بنحو 92 مليار دولار من دول الخليج في العقد الماضي. وفي حين عززت الودائع الخليجية في مصر في العامين التاليين لتولي السيسي السلطة الاحتياطيات الأجنبية للبلاد، فقد تراجع هذا الدعم تدريجيًا منذ العام 2015 حيث تكافح مصر لسداد ديونها وتمويل اقتصادها المعتمد على الاستيراد. وزيادة الاقتراض تعني أيضًا أن معظم نفقات الحكومة قد تم تخصيصها لسداد الديون بدلاً من مشاريع الصحة والتعليم والاقتصاد.
قالت أستاذة الاقتصاد في جامعة القاهرة عالية المهدي لموقع Middle East Eye: "كان ينبغي على الحكومة توجيه هذا الإنفاق إلى مشاريع إنتاجية يمكن أن تدر عائدات. لقد ساهم الإنفاق المفرط على مشاريع البنية التحتية في تعميق الأزمة المالية التي نعاني منها الآن".
وقال الخبير الاقتصادي اللبناني والمسؤول السابق في البنك الدولي إسحاق ديوان إن "الجمع بين موافقة صندوق النقد الدولي، والأسواق الدولية الشديدة السيولة بعد العام 2016 سمح لمصر باقتراض الكثير من أجل تأخير الإصلاحات اللازمة". وقال لموقع Middle East Eye: "وهي تجد نفسها الآن مرة أخرى في ظل اقتصاد ضعيف للغاية ومشكلة ديون أكبر".
تلقت مصر الشهر الماضي الدفعة الأولى من أحدث قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار، ويهدف إلى مساعدتها في معالجة تداعيات الصراع في أوكرانيا الاقتصادية. فقد جففت الحرب خزائن مصر وفتحت الباب أمام اضطرابات محتملة، إذ أصابت خسائرها الاقتصادية جيوب المصريين من الطبقة الوسطى والفقيرة. ومع ذلك، يفرض صندوق النقد الدولي مجموعة من الشروط الصارمة على القاهرة حتى يتمكن المقرض من المضي قدمًا في الصفقة خلال الـ 46 شهرًا المقبلة.
يقول صندوق النقد الدولي إن الشروط ضرورية للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي وتشجيع النمو الذي يقوده القطاع الخاص، وإحداث التحول في نظام سعر الصرف المرن (حيث يتم تحديد قيمة العملة من خلال العرض والعرض)، والسياسة النقدية للحد من التضخم وتوحيد ديون الدولة. لكن خفض قيمة الجنيه يفاقم مشاكل غالبية سكان مصر البالغ عددهم 104 ملايين نسمة، إذ يعيش ما يقدر بنحو 60 مليون شخص تحت خط الفقر أو فوقه بقليل. كما يفتح قرض صندوق النقد الدولي المجال أمام استثمارات من دول الخليج بقيمة 6.7 مليار دولار في السنوات المالية الثلاث المقبلة. فقد تعهدت دول مجلس التعاون الخليجي مثل السعودية والإمارات وقطر بدعم مصر بأكثر من 20 مليار دولار على شكل ودائع واستثمارات..
لماذا تستمر مصر في الاقتراض من صندوق النقد الدولي
لقد أدت مجموعة من المشاكل الهيكلية الداخلية والعوامل الخارجية إلى نقص العملة الأجنبية وارتفاع الديون. بالإضافة إلى جائحة Covid-19 والحرب في أوكرانيا، وهناك قضايا أخرى ساهمت في عدم الاستقرار الاقتصادي.
يقول صندوق النقد الدولي إن سعر الصرف المدار بشدة في مصر هو جزء كبير من المشكلة. ويقول إن خفض قيمة الجنيه المفاجئ أدى إلى ارتفاع التضخم وتراجع ثقة المستثمرين. وبناءً على ذلك، فإن الهدف الرئيس لصفقات صندوق النقد الدولي هو تعويم الجنيه الذي سيؤدي بدوره إلى استقرار العرض والطلب على العملات الأجنبية والحفاظ على الاحتياطيات الأجنبية.
عامل آخر، أبرزه صندوق النقد الدولي أيضًا، هو توسع الشركات ذات الامتياز المملوكة للجيش في عهد السيسي التي زاحمت القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية. وتعمل هذه الكيانات إلى حد كبير من دون رقابة وخارج ميزانية الدولة الرسمية. وفي غضون ذلك، أشرف الجيش على مشاريع ضخمة باهظة الثمن استهلكت الجزء الأكبر من الإيرادات المتاحة من الأموال الساخنة (الاستثمارات قصيرة الأجل في الأسواق المالية التي تستفيد من أسعار الفائدة المرتفعة) والدعم الدولي. وتشمل هذه المشاريع العاصمة الإدارية الجديدة البالغة 58 مليار دولار، ومشتريات الأسلحة الضخمة، وتوسيع قناة السويس بقيمة 8 مليارات دولار، ولم ينتج أي فائدة اقتصادية عن أي منها حتى الآن.
في ظل هذه الخلفية، وافقت مصر في أحدث برنامج لها على تقليص أثر الشركات المملوكة للدولة، بما في ذلك الشركات المملوكة للجيش، وتكافؤ فرص التنافس الحر مع القطاع الخاص. علاوة على ذلك، اعتمدت حكومة السيسي في السنوات الأخيرة بشكل كبير على الأموال الساخنة خلال حقبة شهدت معدلات فائدة وتكاليف اقتراض منخفضة بشكل غير مسبوق. لكن ثبت أن هذا النهج غير مستدام لأن الصدمات الخارجية مثل الحرب في أوكرانيا أدت إلى هروب مفاجئ لنحو 20 مليار دولار في العام 2022. واعترف وزير المالية المصري بأن حكومته "تعلمت الدرس" ولن تعتمد على الأموال الساخنة مرة أخرى.
في ما يأتي تحليل للصفقات الثلاث التي تم إبرامها بين صندوق النقد الدولي والحكومة في ظل الرئيس السيسي:
القرض الأول: برنامج التسهيلات الموسع
في تشرين الثاني \نوفمبر 2016، وافق صندوق النقد الدولي على طلب مصري للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار بموجب اتفاق مدته ثلاث سنوات. وجاء طلب القرض المصري على خلفية عدم الاستقرار المستمر والهجمات الإرهابية في سيناء وغيرها، وضعف السياحة وإغلاق المصانع بسبب نقص الطاقة. وهدف إلى مساعدة مصر على استعادة الاستقرار ودعم النمو. وطالب الحكومة بتبني سياسات تهدف إلى تصحيح الاختلالات الخارجية واستعادة القدرة التنافسية وتقليل عجز الموازنة والدين العام وتعزيز النمو وخلق فرص العمل مع حماية الفئات الضعيفة.
قالت كريستين لاغارد التي كانت آنذاك العضو المنتدب ورئيس صندوق النقد الدولي في مجلس النواب “تدرك السلطات أن التنفيذ الحازم لحزمة السياسات في إطار البرنامج الاقتصادي أمر ضروري لاستعادة ثقة المستثمرين، وخفض التضخم إلى الحدود الدنيا، وإعادة بناء الاحتياطيات الدولية، وتعزيز المالية العامة وتشجيع النمو الذي يقوده القطاع الخاص".
وتم إيداع الأموال في برنامج EFF مباشرة في ميزانية الدولة ولكن من دون تدقيق في كيفية إنفاق الأموال. ففي تقريره، على سبيل المثال، يذكر صندوق النقد الدولي الإنفاق على الصحة والتعليم، لكنه لا يشير إلى أي مشاريع محددة ستطلقها الحكومة المصرية. وفي يوليو/ تموز 2017، أكمل المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي تقريره الأول عن التقدم المحرز في قرض ال 12 مليار دولار، وأعطاه مراجعة إيجابية.
وقال المجلس إن برنامج الإصلاح بدأ بداية جيدة، مشيرًا إلى التحول إلى سعر صرف مرن واختفاء سوق العملات الأجنبية الموازية. وفي اليوم نفسه هنأت لاغارد مصر على نجاح برنامجها الطموح. لكن في أيلول/ سبتمبر 2017، أصدر صندوق النقد الدولي تقريرًا عن خبراء أشار فيه إلى عدم امتثال السلطات المصرية لبعض شروط الصفقة، بما في ذلك الخفض الكبير في قيمة الجنيه المصري.
وقال الخبير الاقتصادي المصري ممدوح الوالي لموقع Middle East Eye: "فشلت السلطات في تطبيق الشروط التي أملاها صندوق النقد الدولي ومؤسسات الإقراض الأخرى". وقال "هذا هو سبب استمرار معاناة مصر من فجوة تمويلية ما أبقى حملة الاقتراض نشطة". وقدر حجم الأموال التي اقترضتها مصر من المؤسسات الدولية والبنوك والدول الأخرى بـ 16 مليار دولار سنويًا.
لا أحد يستطيع التحدث بأي درجة من اليقين حول الطريقة التي تم بها إنفاق مبلغ 12 مليار دولار الذي حصلت عليه مصر من صندوق النقد الدولي منذ العام 2016، لكن الكثيرين يتهمون الحكومة بسوء إدارة هذه الأموال. وقال والي: "لا توجد شفافية أو مساءلة في هذه الحكومة". وهذا يزيد المشاكل الهيكلية للاقتصاد المصري سوءًا ".
إحدى المشاكل بحسب يزيد صايغ ـ زميل بارز في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت ـ هي أن "تلك الأموال منقولة". وقال لموقع Middle East Eye: "من خلال منح مصر أموالاً مقابل شيءٍ واحد، فإن صندوق النقد الدولي في الواقع يحرر أموالاً حكومية أخرى لإنفاقها على أشياء قد لا يدعمها أو يوافق عليها".
خفضت مصر قبل الحصول على الدفعة الأولى من القرض قيمة الجنيه بما يقارب 48 في المئة من قيمته مقابل الدولار، عملة الاستيراد الرئيسة في البلاد. لكن هذه الخطوة فشلت في تخفيف الضغط على الاحتياطيات الدولية في البنك المركزي وسط تقارير عن اختيار مصر لنظام سعر صرف مُدار من قبل الدولة.
ارتفعت الاحتياطيات الدولية في البنك المركزي من 31.3 مليار دولار في السنة المالية 2016-2017 إلى 44.5 مليار دولار في السنة المالية 2018-2019. ومع ذلك، فإن هذا الارتفاع يتلخص في الأساس لدعم دول الخليج التي أودعت مليارات الدولارات (ما مجموعه 18.5 مليار دولار في السنة المالية 2016-2017، وفقًا للبنك المركزي المصري) في البنك المركزي. كما أدت السياسات التي تبنتها السلطات المصرية ، ومنها إلغاء بعض الدعم والضرائب الجديدة والتعويم الجزئي للجنيه إلى تراجع تدريجي في العجز ، ودفع معدل النمو إلى أعلى ، وساهم في خفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي.
أزمة كوفيد تؤدي إلى قرضين آخرين
تسبب Covid-19 بخسائر فادحة في الاقتصاد المصري.؛ فقد انهارت السياحة بعد أن قررت السلطات تعليق الرحلات الجوية القادمة والمغادرة بكلفة مليار دولار شهريًا. كما تسبب في فقدان عشرات الآلاف من الوظائف في قطاع يساهم بنسبة 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لمصر ويوظف 10 في المئة من القوى العاملة البالغ عددها 27 مليونًا. كما أدى الإغلاق الجزئي إلى تباطؤ الإنتاج وتسبب في فقدان الوظائف في القطاع الصناعي، حيث دعا السيسي المستثمرين وأرباب العمل للاحتفاظ بعمالهم. وأنفقت الحكومة عشرات المليارات من الجنيهات لدعم قطاعات السياحة والصناعة والزراعة، وقدمت مساعدات نقدية لمئات الآلاف من العمال. كما تصاعد الإنفاق على الصحة، حيث كانت المستشفيات الحكومية المصرية الغارقة في ذروة الوباء تقدم العلاج المجاني للمرضى. وزاد هذا الإنفاق، بما في ذلك شراء اللقاحات والأدوية والمواد الغذائية من الضغط على احتياطيات مصر من العملات الأجنبية. وانخفضت احتياطيات العملة الأجنبية إلى 37 مليار دولار في نهاية نيسان \أبريل 2020 مقارنة ب 40 مليار دولار في نهاية آذار\ مارس وأكثر من 45 مليار دولار في بداية ذلك الشهر. كما شهدت مصر أيضًا تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج بنحو 16 مليار دولار في العام نفسه. ومن أجل تمويل الاستجابة لـ Covid، طلبت مصر قرضًا إضافيًا بقيمة 5.2 مليار دولار من صندوق النقد الدولي الذي وافق عليه في حزيران/ يونيو 2020 في شكل ترتيب احتياطي لمدة 12 شهرًا. وقال المُقرض إن البرنامج سيركز على تلبية احتياجات عاجلة لمواجهة الوباء، بما في ذلك الإنفاق الضروري على البرامج الصحية والاجتماعية لحماية الفئات الأكثر ضعفًا.
لكن، مرة أخرى، لم يحدد صندوق النقد الدولي مشاريع محددة يتم فيها إنفاق أموال القرض. وفي تشرين الثاني \نوفمبر من العام نفسه أصدر صندوق النقد الدولي تقرير المراجعة الأول الذي قال فيه إن أداء الاقتصاد المصري كان أفضل من المتوقع على الرغم من الوباء. وقال إن إجراءات الاحتواء المدعومة من قبل إدارة الأزمات من قبل السلطات، والتنفيذ القوي لبرنامج سياستها ساعدت في تخفيف الأزمة. كما أشاد تقرير نهائي في أيار \مايو 2021 بإدارة السلطات المصرية للبرنامج. وقبل شهر من اتفاق الاستعداد الائتماني عرض صندوق النقد الدولي على القاهرة أيضًا تسهيلات ائتمانية بقيمة 2.7 مليار دولار لمساعدتها في التغلب على الصعوبات المالية أثناء الوباء. وتقول مصادر مطلعة إن هذا التمويل كان مفيدًا في مساعدة القاهرة على الاستمرار، لاسيما مع تسبب الوباء بخسائر فادحة في الاقتصاد. وقال عضو اللجنة الاقتصادية في البرلمان المصري أحمد دياب لموقع Middle East Eye: "استخدمت الحكومة القروض في سد عجز الميزانية جزئيًا والاستجابة لاحتياجات التمويل". لم تكن السلطات المصرية لتنجح في التغلب على الصعوبات التي سببها الوباء لولا هذه التسهيلات".
الحرب في أوكرانيا: مصر تعود إلى صندوق النقد الدولي
مرة أخرى توجهت مصر إلى صندوق النقد الدولي في العام 2022 عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في سياق تضاؤل احتياطيات العملات الأجنبية وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة. فمصر تعتمد على الدولتين المتحاربتين في غالبية إمدادات القمح وثلث السياح. في تشرين الأول\ أكتوبر وافقت القاهرة على تسهيل تمويل ممدد لمدة 46 شهرًا مع سلسلة من الشروط الصارمة للاستغناء عن مختلف دفعات القرض. وتشمل الشروط تحولًا دائمًا إلى نظام سعر صرف مرن، وتدابير خفض التضخم ونسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة الإنفاق الاجتماعي لحماية الضعفاء. كما طُلب من القاهرة أيضًا تنفيذ إصلاحات هيكلية للحد من وجود الدولة وتشجيع النمو الذي يقوده القطاع الخاص ، وتعزيز الحوكمة والشفافية في القطاع العام.
قبل إبرام الصفقة، دفعت الحكومة بالفعل من أجل خصخصة بعض قطاعات الاقتصاد، بما في ذلك المستثمرين الأجانب من بين إجراءات أخرى تهدف إلى جذب حوالي 40 مليار دولار. وقد استحوذت دول الخليج بالفعل على حصص في شركات مصرية في إطار حملة الخصخصة، بما في ذلك شركات الأسمدة والمستشفيات والبنوك.
وفي مخطط سياسة بعنوان "سياسة ملكية الدولة" وضعت الحكومة خطة لإنهاء سيطرة الدولة جزئيًا أو كليًا على قطاعات مثل بناء الموانئ وإنتاج الأسمدة وتحلية المياه على مدى ثلاث سنين لكن الاقتصاديين يتوقعون معارضة بعض مؤسسات الدولة لهذه السياسات، خاصة الجيش الذي يمتلك إمبراطورية تجارية ضخمة.
وكتب صايغ في مقال مؤخرًا: " المعارضة العسكرية تفسر بشكل شبه مؤكد التأخير المستمر في تعويم الشركات العسكرية في البورصة أو بيع الأسهم من خلال صندوق الثروة السيادي المصري". وأضاف "في الواقع، من المعروف أن الجيش معاد لبيع أي أصول للدولة، ناهيك عن ممتلكاته". وأشار صايغ إلى أن ذلك ساعد في تفسير معارضة البرلمانيين لخطط الحكومة لخصخصة الشركات والأصول الأخرى التابعة لهيئة قناة السويس التي يعتبرها الجيش جيبه الاقتصادي الحصري. وكتب صايغ يقول: "المعارضة العسكرية مهمة، لكن التجربة السابقة تشير إلى أن الحكومة ستستغل كل ثغرة لتأخير تنفيذ بنود اتفاقية صندوق النقد الدولي".