• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
تقدير موقف

أبعاد النفوذ الصيني داخل أفغانستان


أجرى وزير الخارجية الصيني تشين جانج يوم 21 يناير 2023 محادثة هاتفية مع القائم بأعمال وزير الخارجية بحكومة حركة “طالبان” المسيطرة على الحكم بأفغانستان أمير خان متقي، وتعهدا بتعزيز التعاون الثنائي ومكافحة الإرهاب. وطلب “تشين” ضرورة الحفاظ على سلامة المواطنين والمؤسسات الصينية في أفغانستان، ودعا الجانب الأفغاني إلى اتخاذ إجراءات قوية لضمان سلامتهم، وهو ما تعهد به متقي وجدد تأكيد كابول حظر استخدام أراضيها في أنشطة ضد المصالح الصينية. ويعد هذا الاتصال الأول بين بكين وكابول منذ مقتل 6 صينيين مطلع العام الحالي بهجوم على فندق بكابول تبناه تنظيم “داعش– خراسان”، وهو الهجوم الذي أثار مخاوف من استهداف الاستثمارات الصينية بأفغانستان، لا سيما أنه تزامن مع توقيع عقد للتنقيب عن النفط بين بكين وكابول.

الاهتمام المتصاعد

ترتبط بكين وحركة “طالبان” الأفغانية بعلاقات جيدة تكثفت بعد سيطرة الحركة على الحكم بأفغانستان في منتصف أغسطس 2021 عقب الانسحاب الأمريكي، وقد استعدت بكين لعودة الحركة إلى الحكم، واستقبلت وفداً منها في يوليو 2021 تعهد بعدم استخدام الأراضي الأفغانية ضد الصين مقابل مساهمة الأخيرة في عمليات إعادة الإعمار. ويعد هذا جوهر التعاون الصيني مع “طالبان”. وثمة العديد من الدوافع للاهتمام الصيني بأفغانستان، ومنها:

1دعم النفوذ والمكانة الصينية: غداة سيطرة “طالبان” على كابول أعلنت الصين أنها مستعدة لتعميق العلاقات “الودية والتعاونية” مع أفغانستان، ورحبت بكين بتشكيل حكومة حركة “طالبان” في 8 سبتمبر 2021، ودعت لتشكيل هيكل سياسي شامل وواسع ينتهج سياسات داخلية وخارجية معتدلة. ورغم عدم استجابة “طالبان” لذلك وعدم اعتراف بكين رسمياً بشرعية حكم الحركة لأفغانستان، فإنها عززت نفوذها بالبلاد، وقدمت مساعدات إنسانية متعددة لها، واستقبلت وفوداً من حركة “طالبان” كما حضرت كافة المؤتمرات الإقليمية حول أفغانستان مثل (صيغة موسكو).

وشهدت تلك الفترة توافقاً سياسياً تاماً بين بكين وكابول؛ فقد تجاهلت الصين الانتهاكات الحقوقية لحركة “طالبان”، وتعهدت باحترام استقلال وسيادة ووحدة وسلامة أراضي أفغانستان، مقابل تعهد “طالبان” بالتمسك بمبدأ “صين واحدة” وعدم السماح بمهاجمة بكين من الأرضي الأفغانية. ولعل “طالبان” تُعول على الاستثمارات الصينية لمواجهة الأزمة الاقتصادية الحادة بالبلاد؛ حيث يواجه نصف عدد السكان البالغ 49 مليون نسمة الجوع والمرض، كما تسعى الحركة لكسر العزلة الدولية المفروضة عليها عقب الانسحاب الأمريكي.

2تعزيز أمن الطاقة: ارتفع حجم التبادل التجاري بين بكين وكابول خلال العامين الماضيين وأصبحت الصين أكبر شريك تجاري لأفغانستان، كما وقَّعت شركة صينية حكومية في 5 يناير 2023 اتفاقاً مع حكومة “طالبان” للتنقيب عن النفط بحقل “جیحون أمودريا” شمال البلاد بقيمة 540 مليون دولار. ويعد هذا أكبر استثمار سيتم تنفيذه في أفغانستان منذ سيطرة الحركة على الحكم. ويعد التنقيب عن النفط أمراً حيوياً للصين؛ لأنه يعزز “أمن الطاقة” لديها، لا سيما أنها تحتل المركز الأول في العالم في استهلاك النفط والغاز نتيجة عدد السكان.

وأهمية هذا الاتفاق هو في الموقع الجغرافي والحدود المشتركة بين أفغانستان والصين؛ مما يقلل تكلفة نقل النفط، ويضمن وصوله من الطرق البرية بدلاً من المخاطر التي تواجه الصين في نقل النفط بحراً، في ظل التنافس بين بكين وواشنطن على عسكرة بحر الصين الجنوبي، والتوترات الإقليمية بالشرق الأوسط؛ ما يهدد إيصال موارد الطاقة إلى الصين، وفرض عقوبات على مصادر الطاقة الروسية والإيرانية؛ ما يثير مخاوف بكين بفرض عقوبات مماثلة عليها أو فرض حظر لشحن موارد الطاقة إليها إذا توترت العلاقات بينها وبين واشنطن.

3السيطرة على الثروات الطبيعية: تقوم بكين باستثمارات في الثروة المعدنية للسيطرة عليها، لا سيما أنها لم تستغل خلال عقدين من الاحتلال الأمريكي، وحالياً تُبدي بكين اهتماماً واضحاً باستكشاف وإدارة عدد من مناجم المعادن بأفغانستان تحتوي على المعادن الهامة، مثل (الليثيوم، والنحاس، والرخام، والكبريت، والأحجار الكريمة)؛ حيث تقدر قيمة مناجم الليثيوم بأفغانستان، وفقاً لبعض التقديرات، بنحو تريليون دولار، فضلاً عن (1.75 تريليون) قدم مكعب من احتياطات الغاز الطبيعي، وهذا سيحقق لها عائداً اقتصادياً كبيراً، وسيعزز مشاريعها التنموية في إعادة إعمار أفغانستان بحيث يكون هناك “عائد مادي” للقروض التنموية الصينية لكابول؛ ما سيعزز نفوذها في أفغانستان خاصةً، وآسيا الوسطى عامةً.

4تنفيذ مبادرة “الحزام والطريق”: أعلنت بكين في 2013 عن مبادرة “الحزام والطريق” بمشاركة أكثر من 68 دولة، وهي مبادرة تمثل رؤيتها لقيادة الاقتصاد الدولي، وتلعب أفغانستان دوراً حيوياً في تلك المبادرة؛ حيث ترتبط الدولتان بحدود جبلية تمتد على 76 كم، وتسعيان إلى إقامة ممر استراتيجي بقيمة 62 مليار دولار، يربط بين مدينة (كاشغر) الصينية وميناء جوادر الباكستاني مروراً بأفغانستان، كما ستقوم بكين ببناء طريق رئيسي لربط أفغانستان بمدينة بيشاور في باكستان، كما تعمل على بناء خط سكك حديدية بين باكستان وأفغانستان؛ لذا فإن الحفاظ على استقرار أفغانستان يساهم في استكمال المبادرة، وتدهور الأوضاع الأمنية بها سيؤدي إلى توقف المشاريع البرية والممرات الاستراتيجية التي تعد أفغانستان جزءاً منها.

5تحجيم الحركات الانفصالية والإرهابية: قام وزير الخارجية الصيني بزيارة كابول لأول مرة منذ الانسحاب الأمريكي في مارس 2022، ودعا “طالبان” إلى اتخاذ كافة التدابير الفعالة ضد جميع القوى الإرهابية، بما في ذلك حركة تركستان الإسلامية”، والأخيرة حركة انفصالية إسلامية عناصرها من تركستان الشرقية بالصين وتطالب بالانفصال عن بكين؛ ما  دفع الأخيرة إلى تصنيفها حركة إرهابية، ويقدر عدد عناصرها بنحو ألف مقاتل لهم وجود في أفغانستان؛ حيث تفيد تقارير استخباراتية صينية بأن لها صلات مع حركة “طالبان”، وقامت بشراء الأسلحة منها “سراً” لتحسين قدراتها.

ولذا تخشى بكين من تحول أفغانستان إلى قاعدة للجماعات الإرهابية التي تعاديها وتستهدف مصالحها في آسيا الوسطى، ومنها (داعش خراسان، والحركة الإسلامية الأوزبكية، وحزب التحرير). وعليه فإن تعزيز التحالف بين بكين و”طالبان” سيضمن للصين وجود حركة إسلامية مسلحة تدافع عن مصالحها في مواجهة تلك الجماعات، كما كشفت تقارير صحفية عن أن أقلية “الإيجور” الصينية المسلمة، يقدر عددها في أفغانستان بنحو (2000 شخص) يتركزون بمدينة مزار شريف، تسعى للهروب من أفغانستان خشية تدهور أوضاعهم أو استهدافهم بعد سيطرة “طالبان” على الحكم، في ظل التعاون الاستراتيجي بين بكين وكابول.

تحديات مستقبلية

تحرص حركة “طالبان” على علاقاتها الاستراتيجية مع بكين؛ لسبيين: الأول أنها لا تضع شروطاً سياسيةً أو حقوقيةً على الحركة بعد سياساتها التعسفية ضد المرأة والأقليات؛ إذ قامت الحركة بمنع تعليم وعمل السيدات بأفغانستان منذ سيطرتها على الحكم. أما السبب الثاني فيتعلق بتعويض نقص الاستثمارات الأجنبية في البلاد في ظل إحجام الدول الغربية عن ضخ استثماراتها بعد الانسحاب الأمريكي. وهذه الاستثمارات ستساهم في مشاريع إعادة الإعمار وتطوير البنية التحتية الأفغانية، بيد أن مستقبل التعاون بين الحركة والصين تحيطه بعض التحديات، ومنها:

1مخاوف من استهداف المصالح الصينية: أعلن المتحدث باسم حركة “طالبان” “ذبيح الله مجاهد” في 5 يناير 2023 مقتل ثمانية أشخاص واعتقال سبعة بعد غارات على معاقل لتنظيم “داعش–خراسان” الإرهابي بالبلاد كانوا المسؤولين عن تفجير فندق “كابول لونجان” بكابول الذي يرتاده رجال أعمال صينيون، في ديسمبر 2022؛ ما أدى إلى مقتل 6 منهم، وقد أدانت بكين التفجير وطالبت بحماية مصالحها ومواطنيها في أفغانستان. ويعد رد حركة “طالبان” سريعاً ومرضياً لبكين؛ وهذا للحفاظ على الاستثمارات والمساعدات الصينية لأفغانستان.

ورغم هذا فقد تجددت المخاوف من استهداف المصالح الصينية بأفغانستان بشكل أوسع عقب تبني تنظيم “داعش–خراسان” الإرهابي مرة أخرى تفجير مبنى وزارة الخارجية بكابول يوم 11 يناير 2023؛ حيث كان مقرراً قيام وفد صيني بزيارة المقر في اليوم نفسه. وفي حالة تكرار تلك الحوادث الإرهابية، فإنها ستؤكد أن تنظيم “داعش خراسان” الإرهابي يستهدف المصالح الصينية بأفغانستان؛ وهذا ربما يكون بتحريض من دولة ثالثة ترغب في سحب استثمارات بكين من البلاد، أو بدافع نشر عدم الاستقرار بالبلاد وإحراج “طالبان” التي لم تتمكن من منع تلك الحوادث الإرهابية أو القضاء على “داعش–خراسان”، وربما يكون بدافع الانتقام من بكين نتيجة “الانتهاكات الجماعية” التي يتعرض لها المسلمون الإيجور بتركستان الشرقية.

2التحركات المناوئة من القوى الإقليمية: تسعى الصين إلى بناء محور سياسي جديد بجنوب آسيا يضم (الصين وباكستان وأفغانستان)، لمواجهة النفوذ الهندي المتصاعد بآسيا الوسطى وللحفاظ على مصالحها بالمنطقة؛ حيث تعد الصين الشريك التجاري الأول لدول آسيا الوسطى وباكستان وأفغانستان، وتستورد منها معظم موادها الأولية. وهذا المحور سيعزز مكانة الصين الإقليمية، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها كابول وإسلام أباد؛ ما يثمن الدعم الاقتصادي الصيني لهما مقابل دعمهما السياسي لمواقف بكين الإقليمية.

كما أن الصين تستغل الانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية وتعمل على وضع خارطة طريق لتقسيم النفوذ بالمنطقة بين بكين وموسكو؛ لمنع تقاطع المصالح بينهما. وهذا سيؤدي إلى تعزيز الاستقرار بالمنطقة، بيد أنه سيثير حفيظة قوى إقليمية أخرى لها مصالحها التي ستعمل للحفاظ عليها، مثل تركيا وإيران؛ ما يضاعف احتمالات تصاعد التنافس لبسط النفوذ بجنوب ووسط آسيا.

3تصاعد منحى التنافس الدولي: سعت الصين لملء الفراغ العسكري والسياسي والاقتصادي بأفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي منها، وكان التقارب مع “طالبان” جزءاً من التنافس السياسي بين بكين وواشنطن الذي شهدته عدة أقاليم كالشرق الأوسط ووسط أفريقيا وجنوب ووسط آسيا، فضلاً عن بحر الصين الجنوبي ومنطقة الهندوباسيفيك؛ حيث تعتبر بكين أفغانستان بمنزلة “الفناء الخلفي” لها، وعدَّت الانسحاب العسكري الأمريكي منها انتصاراً لها دون خوض معارك مع واشنطن؛ لذا عززت الأخيرة نفوذها ووجودها العسكري بتايوان وبحر الصين الجنوبي لمواجهة التعاون الصيني الاستراتيجي مع عدد من القوى الإقليمية المعادية لواشنطن (طالبان بأفغانستان، وإيران، وكوريا الشمالية، وفنزويلا، وروسيا).

ورغم التهدئة في العلاقات الأمريكية الصينية مع بداية العام الجديد، فإن أفغانستان ستكون محوراً للتنافس بين الطرفين مرة أخرى، لا سيما في ظل مساعي واشنطن لتعزيز نفوذها بوسط آسيا لمعالجة الخطأ الاستراتيجي بالانسحاب من أفغانستان.

خلاصة القول أن الصين نجحت في تحقيق طفرة بالعلاقات مع حركة “طالبان” منذ توليها الحكم بأفغانستان، ومن المتوقع استمرار ذلك التعاون الاستراتيجي، وربما تحوله إلى تعاون أمني عسكري لمواجهة خطر التنظيمات الإرهابية التي بدأت تهدد المصالح الصينية بأفغانستان، وربما يمتد التهديد إلى وسط آسيا وداخل العمق الصيني؛ ما يدفع الأخيرة إلى التخلي عن سياستها الحذرة في التعامل مع التنظيمات الإرهابية وتوجيه ضربات استباقية لها أو دعم “طالبان” عسكريًّا لتتمكن من مواجهة هذه التنظيمات، وهذا سيعزز التنافس الإقليمي بالمنطقة.