تعيش الساحة الفلسطينية في العامين الأخيرين وضعا استثنائيا، متمثلاً في تذبذب حالة الهدوء التي سادت منذ زمن، فما إن يعلن الاحتلال عن انخفاض وتيرة التصعيد، واستقرار الوضع الأمني بعد استهدافه لخلايا المقاومة وحالاتها العسكرية، حتى تفاجئه حالة جديدة في بقعة جغرافية تخالف كل توقعاته وتقديراته، وتفرض أمامه تحديات أمنية أعقد وأثقل عبئاً.
الضربة هذه المرة كانت من شرقي الضفة، مدينة أريحا، وهي المدينة الأهدأ نسبياً طوال سنوات الانتفاضتين، مقارنة بباقي مدن الضفة، والأقل تركيزاً للجهود الأمنية “الإسرائيلية”. فقد شكلت العملية التي نفذتها مجموعة مقاومي عقبة جبر ناقوس خطر للاحتلال، من ناحية الهدف والجرأة وموقع التنفيذ.
هدف هذه العملية كان مطعم – Me Casa – الواقع على الطريق الواصل بين القدس والبحر الميت، إذ كان يوجد في المطعم نحو ٣٠ مستوطناً، حين وصل أفراد الخلية لإفراغ رصاصاتهم في المستوطنين، لكن خللا أصاب السلاح حال دون إتمام المهمة، ما اضطر الشبان إلى الانسحاب.
وكرد أولي على هذه العملية فرض الاحتلال حصارا على مخيم عقبة جبر، من حيث خرج المنفذون، واستمر هذا الحصار تسعة أيام شن فيها الجيش عددا من المداهمات للمخيم، دون جدوى، حتى وصل به المطاف إلى معركة اليوم العاشر، تلك المعركة التي كشفت عن الكثير من الإخفاقات لدى المنظومة الأمنية والعسكرية “الإسرائيلية”، بخلاف ما تروج له المنظومة.
بحسب صحيفة يديعوت أحرنوت فإن الجيش قد بدأ عمليته بصمت مطبق من خلال الدفع بقوات الكوماندوز من كتيبتي دوفدوفان ومجلان مع حلول الساعة 2:54 فجراً، وفي الخلف تواجدت كتيبة لبؤة الغور وهي إحدى الكتائب العسكرية المختلطة التي تضم شبانا وفتيات وتعمل في مجال تأمين الحدود والتعامل مع المهربين، كانت مهمتها في هذه العملية تأمين القوات الخاصة المقتحمة والحيلولة دون وصول مسلحين فلسطينيين أو متظاهرين إلى مربع الحدث.
عملت القوات الخاصة منذ دخولها على تفتيش أكثر من 20 منزلاً في المخيم، بناءً على معلومات تلقوها من جهاز الشاباك حول مكان وجود عناصر الخلية المستهدفة، دون أن يعثروا على أي من أفرادها، و”بمحض الصدفة” على حد تعبير مراسل القناة الحادية عشر “إيتاي بلومنتال”، حدث تحول دراماتيكي في العمل، بعد أن أطلق أحد الشبان المقاومين النار تجاه القوات وانسحب بعدها إلى كوخ خشبي توارت فيه الخلية، توجه قائد سرية من قوات لبؤة الغور وحاول فتح باب الكوخ للتفتيش، ولكن رصاصات المقاومين أصابت درعه ودفعته هارباً نحو الخارج، بعدها دارت اشتباكات حامية الوطيس بين المقاومين وجنود هذه الوحدة، انتهت بارتقاء عناصر الخلية شهداء.
تكشف حيثيات هذه العملية برمتها عن خلل واضح لدى منظومة الأمن “الإسرائيلية” تتمثل في الآتي:
أولاً:
وصول السلاح إلى أريحا، أهدأ المناطق وأكثرها انعزالاً، وتشكيل خلايا عسكرية للمقاومة الفلسطينية هناك دون علم أجهزة الأمن “الإسرائيلية”.
ثانياً:
انتقال هذه الخلية إلى مراحل متقدمة تجاوزت التخطيط والإعداد، وأقدمت على إخراج عملية المطعم إلى حيز التنفيذ دون إنذارات مسبقة لدى أجهزة الأمن “الإسرائيلية”، كما هو الحال مع المناطق الشمالية في الضفة.
ثالثاً:
حصار المخيم دون طائل أدى إلى نتائج عكسية في مواجهة المخيم بأكمله، والذي عبر عنه الدعم والتضامن مع المقاومين من أبنائه وتوفير حاضنة لهم، وهو ما يُعد الأخطر بالنسبة للجيش الساعي إلى فصل الشارع الفلسطيني عن الحالة الثورية، يضاف إلى ذلك اختطاف جثامين الشهداء؛ الأمر الذي يزيد من حالة الاحتقان.
رابعاً:
العملية العسكرية التي انتهت باستشهاد الشبان المقاومين كان مقررا لها الفشل الكلي، وأن ما جرى مصادفة، ولم تكن معلومات الشاباك دقيقة في تلك اللحظة، ولولا تلك الرصاصات التي أطلقها أحد المقاومين تجاه قوات الجيش، لما تمكنوا من الوصول إليهم.
أضف إلى ذلك أن منطقة الأغوار مستبعدة من دائرة النشاط والجهد الاستخباري “الإسرائيلي” على مدار عقود، باستثناء الحدود وعمليات التهريب، ولكن بعد هذه العملية فإن الوضع قد تغيير، وساحات المواجهة في إزدياد.
وكذلك تعتبر حالة المقاومة هذه بمثابة الروح الجديدة التي ابتعثت في الجسد الفلسطيني، بعد عقود من السبات، ورغم المساعي المبذولة لاستئصالها، إلا أنها ماضية في مسار تدريجي متصاعد يجوب كل بيت وكل زقاق، ليؤسس لثورة هادرة لا توقفها أسوار واقية أو كاسر أمواج عاتية.