• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42
news-details
مقالات عربية

القدس تضرب وبن غفير يُصاب بالهلع


ما إن استلم بن غفير وزارة الأمن القومي مهددًا ومتوعدًا الفلسطينيين، وواعدًا للمستوطنين رافعًا راية إعادة الحكم وفرض السيطرة وتوفير الأمن الشخصي؛ حتى انفجرت القدس في وجهه بشكل استثنائي، وكأنه ردٌ على التحدي بتحدٍ أكبر، عملية تلو عملية توقع الكثير من القتلى والإصابات، فوجد نفسه في غمار معركةٍ أمواجها عالية، وفي أكثر الأماكن حساسية، وفي أكثر الأوقات التهابًا، وبأدواتٍ محدودة الفعل والتأثير، فخرج عن طوره وأظهر انفلاتًا وتهورًا مطالبًا الشرطة بالاستعداد لتنفيذ عملية "السور الواقي 2" في مدينة القدس، متناسيًا أو متجاهلًا أن للقدس وضعية قانونية مختلفة عن باقي مناطق الضفة بحكم القانون الإسرائيلي، حيث إن سكانها يحملون بطاقة الهوية الزرقاء ولديهم إقامة وينطبق عليهم القانون الإسرائيلي بحكم ضم المدينة وأحيائها الكثيرة والكبيرة، ممّا أثار انتقادات من نتنياهو على تصريحات بن غفير، مؤكدًا على أن سياسات وإجراءات الحكومة في القدس لا تقرر بهذا الشكل من قِبل وزير ما؛ بل يتم بحثها داخل المؤسسات المناسبة، ويتم اتخاذا القرار داخل مجلس الوزراء، وكأن نتنياهو يوجّه ملاحظة علنية لبن غفير بأنك لستَ صاحب قرار.

الحقيقة بن غفير ليس أول وزير للأمن الداخلي يواجه التعقيدات المرتبطة بحساسية القدس كمدينة مقدسة يقطنها مئات آلاف الفلسطينيين الذين يحظون بمكانة المقيمين، ممّا يجعل قدرة البطش والتنكيل بهم تخضع لبيروقراطية قانونية، فضلًا عن الضغوط الدولية والعربية، وحساسيتها كمركز اشتعال لكل المنطقة؛ فقد واجه وزراء سابقون هذه الحقيقة، سواء كانوا محسوبين على المركز السياسي أو على اليمين السياسي، لا سيما في فترة انتفاضة الأقصى، ومع كل عملية كان يجري نقاش حاد وكبير عن الأدوات القانونية والاحتلالية، والعقوبات التي يُمكن فرضها على السكان المقدسيين، وعن السبل لمنع العمليات، وفي حينه قاموا بعزل الأحياء العربية في مدينة القدس وحاصروها بمكعبات اسمنتية، ولكن ذلك جلب انتقادات كبيرة من قِبل اليمين، الذي اتهم الحكومات "اليسارية" بأنها تمرر عمليًا فكرة تقسيم القدس.

سكان الأحياء العربية (شعفاط والعيساوية وجبل المكبر وبيت حنينا وبيت صفافا وسلوان وعناتا وصور باهر والعيزرية وغيرها) هم بالنسبة لإسرائيل العدو القادر على ضربهم في كل وقت، والذي لا يُمكن ردعه؛ لأنه ببساطة يقيم داخل السور ويحظى بمكانةٍ ليس من الصعب جدًا تغييرها أو مصادرتها بشكل جارف، الأمر الذي يجعل من صده أمرًا شبه مستحيل. وبالتالي، دومًا ما أثيرت اقتراحات عديدة من قِبل السياسيين لمعالجة الأمر، لا سيما بعد العلميات، وكل اقتراح كان يمثل موقع المقترح في الخريطة الحزبية، فمن ينتمون لمعسكر المركز يعتقدون بأنه كان على جدار الفصل العنصري أن يفصل عددًا أكبر من الأحياء والسكان عن مدينة القدس، ويعتقدون بأن القدس الكبرى التي ضمت إليها الكثير من الأراضي وجاءت بالكثير من السكان الفلسطينيين إلى مدينة القدس كانت خطأ كبيرًا، لأنها اعتمدت على التوسع في الأرض وتجاهلت خطر ضم السكان. لكن اليمين يعتقد بأن الضم والتوسع هو الأهم ويُمكن التصدي للفلسطينيين بوسائل كثيرة، وفي مقدمتها التضييق عليهم والتنكيل بهم بسن الكثير من القوانين أو بالتنكيل الأمني والظروف المعيشية بهدف دفعهم للخروج من المدينة.

لكن، وبالرغم من كل الوسائل العدوانية وأشكال التنكيل والتضييق والإغراء؛ فإن المقدسيين صمدوا على أرضهم، وأثبتوا ولاءهم لمدينتهم، وظلوا خنجرًا مغروسًا في قلب الاحتلال، بدون أي حيلة في مواجهتهم.

وها هو بن غفير، الذي جاء متوعدًا، يقف اليوم مذهولًا أمام العمليات وفاقدًا لتوازنه أمام محدودية قدرات وزارته، فحتى إغلاق منزل منفذ عملية الدهس أمس، الشهيد حسين قراقع، الواقع في بلدة العيساوية، كان غير مُمكن لأن البيت مُستأجر وليس ملكًا لعائلة الشهيد، فلا يوجد في القدس بنك أهداف لبن غفير يضربها ليحظى بهتافات الفاشيين، ولم يبقَ أمامه سوى المزيد من التضييق وفرض القبضة الأمنية، وهذا بحد ذاته يحمل الكثير من البطش والعدوان بالمقدسيين، لكنه يبقي بن غفير مع حالة من الشعور بالإحباط وتقييد اليدين والخوف من خيبة أمل ناخبيه تجاهه.

مع ذلك، ثمة حديث كثير عن التوجه لوسائل أكثر فتكًا تتعلق بالإضرار بأهالي منفذي العمليات مثل سحب إقامتهم وترحيلهم إلى قطاع غزة، لاعتقادهم بأنه لا يوجد شيء قد يردع من يقبل على الاستشهاد سوى خوفه على ذويه، والنتيجة بالنسبة لهم هنا مضاعفة: جباية الثمن وردع الآخرين، وفي نفس الوقت فرصة للتخلص من أفراد العائلة بترحيلهم أو تهجيرهم.

أزمة حكومات الاحتلال مهما اختلفت حزبيًا، مع القدس والمقدسيين، هي أزمة مستمرة ومتواصلة لأنها معركة وجود بين الشعب الفلسطيني والأمة والعربية والإسلامية، وبين الاحتلال، وستظل القدس قلب الصراع وصاعق التفجير، ولن تفلح كل محاولات الاحتلال - مهما بلغت من بطش - في التغلب على الإرادة الفلسطينية في القدس.