تحولت الكابلات البحرية - كإحدى وسائل الاتصال الرقمي في شبكة الإنترنت العالمية - إلى مجال للتنافس بين القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة والصين داخل منطقة أوقيانوسيا، والتي ترتبط بالجغرافيا السياسية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، فبسبب المسافات الطويلة التي تفصل أراضي جزر المحيط الهادئ، فإن مد هذه الكابلات يصبح أكثر اعتمادية على دول أخرى، ومن ثّم تكون عرضه للتأثير والسيطرة السياسية الخارجية.
في هذا الإطار، طرحت الباحثة كميل موريل في ورقة بحثية لها نشرها مؤخراً المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية تحت عنوان: "وقع المحيط الهادئ في شبكة الويب العالمية: الجغرافيا السياسية للكابلات البحرية في أوقيانوسيا" مراجعة لتحديات الاتصال الرقمي لدول جزر المحيط الهادئ (بولينيزيا وميلانيزيا وميكرونيزيا). إذ تعتبر اتصالات الكابلات البحرية أكثر أهمية لجزر المحيط الهادئ المعزولة جغرافياً لكونها داعمة لمسار التحول للرقمنة داخل مختلف قطاعات الاقتصاد والمجتمع في الصناعة والصحة والتعليم وغيرها، ولعل هذا الأمر يحقق توازناً وارتباطاً افتراضياً بباقي وحدات المنظومة الدولية.
الأهمية الاستراتيجية:
منذ مطلع القرن العشرين، وتحديداً عام 1902 تمكّنت جزر المحيط الهادئ من إنشاء رابط افتراضي ثابت لبقية العالم، إذ أدت وضعية التقدم في شبكة كابل التلغراف البريطانية إلى تحقيق اتصال أستراليا ونيوزيلندا ببقية العالم، وكذلك الأمر بالنسبة لجزر فانينغ وفيجي ونوفولك، علاوة على ربط جزر هاواي وغوام بآسيا والولايات المتحدة، وصولاً لعام 2022 الذي شهد ربطاً كاملاً للمحيط الهادئ بشبكة متداخلة، وتكمن أهميتها في الآتي:
- الرقمنة المجتمعية: تُعد الكابلات البحرية آلية اتصال ملائمة تحقق ترابطاً بين وحدات المنظومة الدولية، وتزداد تلك الأهمية في المناطق المنعزلة جغرافياً مثلما هي الحال بالنسبة لـجزر المحيط الهادئ المعزولة جغرافياً، إذ تساهم في تحقيق التواصل الخارجي إلى جانب كونها مرتكزاً رئيسياً لرقمنة مختلف قطاعات الاقتصاد والمجتمع (الصناعة والتعليم والصحة وما إلى ذلك)؛ مما ساهم في تحقيق مكاسب في الإنتاجية والتوظيف والتقدم الاجتماعي.
- الاتصال الخارجي: تُمثل الكابلات البحرية الطريق الرئيسي الذي تنتقل به المعلومات حول العالم، سواء كانت اقتصادية (التسوق عبر الإنترنت، والخدمات المصرفية، والتجارة)، أو إدارية (التصويت، أو تقديم الإقرارات الضريبية، أو الاتصال بالسفارات الأجنبية)، أو التواصل الاجتماعي (وسائل التواصل الاجتماعي، والمكالمات الهاتفية مع البلدان الأخرى، والمحادثات عبر البريد الإلكتروني، إلخ).
نتيجة لذلك؛ فإن الكابلات البحرية تزيد من تصعيد المنافسة البحرية بين الدول، في سياق القضايا العسكرية، مثل حرب قاع البحار وكذلك التحديات الاقتصادية والديموغرافية والبيئية، فمنذ بداية عام 2022، كانت الكابلات محط اهتمام خاص برزت في "استراتيجية حرب قاع البحار" التي نشرتها الحكومة الفرنسية والتي تهدف إلى اكتساب قدرة إضافية على مراقبة البنية التحتية الموجودة في قاع البحر، علاوة على كونها موضعاً للمفاوضات الدولية تحت رعاية الأمم المتحدة بهدف إبرام معاهدة لحماية التنوع البيولوجي في أعالي البحار، كما بيّن الصراع في أوكرانيا أن البنية التحتية للاتصالات تظل هدفاً رئيسياً خلال التوترات الدولية والتدخلات العسكرية.
من هذا المنطلق؛ ونتيجة لحالة الترابط التقني بين جزر المحيط الهادي والعالم عبر الكابلات البحرية، فإن أي ضرر بها سوف يتسبب في خسائر متعددة الجوانب لتلك الجزر، وقد اتضح ذلك في يناير 2022 عندما تأثر كابل الألياف الضوئية (كابل تونغا- فيجي) -الذي يربط تونغا ببقية العالم- بثوران بركاني مما جعل هناك عزلة للمعلومات بين تلك المنطقة والعالم، كما أثرّ بشكلٍ كبير على الجوانب الاقتصادية، ما دفع إلى مزيد من التركيز على أهمية كابلات الاتصالات البحرية لأراضي المحيط الهادئ المنعزلة.
تنافس صيني – أمريكي:
منذ صعود القوة الاقتصادية والتكنولوجية للصين خلال العقد الأخير، وما تبعها من تنامي أهمية منطقة المحيط الهادي، بات الأخير أحد المسارات الرئيسية الثلاثة للبيانات في القرن الحادي والعشرين، في ضوء ما تمتاز به تلك المنطقة من وضعية جغرافية خاصة غير متشابكة مقارنة بالطريق الشمالي عبر المحيط الهادئ والروابط بين آسيا، وتتبلور تلك الأهمية في الآتي:
- تزايد التنافس الاستراتيجي: نتيجة للأهمية الاستراتيجية لمنطقة جنوب المحيط الهادئ، فقد بات هناك تنافس استراتيجي بين القوى الكبرى، لا سيما الصين والولايات المتحدة، في مجال التقنيات الرقمية، وبات هناك صراع على النفوذ بين الصين وقوى المحيط الهادئ التقليدية في أوقيانوسيا من خلال الجيل الخامس لشبكات الهاتف المحمول (5G) وكذلك من خلال كابلات الاتصالات البحرية، وبرز ذلك في عام 2018 عندما قررت الحكومة الاسترالية حظر الشركات الصينية وعلى رأسها هواوي من شبكة (5G) للهواتف المحمولة، علاوة على رفض استراليا أيضا خطة صينية لبناء كابل يربط استراليا بجزر سليمان وبابوا غينيا الجديدة.
لذا، فإن موضوع الكابلات في أوقيانوسيا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالجغرافيا السياسية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، فبسبب المسافات الطويلة التي تفصلها عن بقية العالم وتكلفة الكابلات، فإن أراضي جزر المحيط الهادئ أكثر عرضة للاعتماد على التأثير الخارجي. وباتت تلك المنطقة مسرحاً للوجود الأوروبي، خاصة في ظل تنامي الوجود الصيني في تلك المنطقة عبر مشاريع الكابلات التي تسعى لتدشينها.
- شركات متعددة واستثمارات مُركزّة: منذ مطلع القرن الحادي والعشرين تزايد الاستثمار في الكابلات الجديدة، حيث شهد عام 2011 دخول عمالقة الإنترنت الأمريكيين (جوجل، ميتافيرس، أمازون، وميكروسوفت) وباتت لديهم مشاريع متعددة تتعلق بالاتصالات وتمكنوا من إطلاق 10 مشاريع اتصال في المنطقة، خاصة أن منطقة المحيط الهادئ تحتوي على الطريق الشمالي الذي يُعد أحد طرق المعلومات السريعة على المستوى العالمي، ويحتوي على 13 كابلاً بحرياً بسعة إجمالية تصل لنحو 657 تيرابايت في الثانية مع العمل على تدشين ثمانية كابلات جديدة بحلول عام 2024. وفيما يتعلق بمنطقة أوقيانوسيا، فهي تربط جزر المحيط الهادئ بعضها البعض وبالمراكز الإقليمية ومن بينها استراليا وهاواي وغوام، وتتصف هذه الروابط بسعة منخفضة نسبياً تبلغ 19.8 تيرا بايت في الثانية، مما يعكس الانتشار المحدود للإنترنت في تلك المنطقة مما هو عليه في بقية المحيط الهادئ.
وتشهد منطقة المحيط الهادي نشاطاً متنامياً للصين التي زادت استثماراتها في السوق بين عامي 2015 و2019، حيث تضمنت مبادرة الحزام والطريق دور المجال الرقمي والكابلات البحرية في محاور التأثير الصينية، وبلغت أعداد الكابلات النشطة التي تربط الصين ببقية دول العالم في المحيط الهادئ قرابة ستة عشر كابلاً، مما أثار مخاوف الولايات المتحدة التي منعت بشكلٍ منهجي شبكة الكابلات الخفيفة التي تسعى الصين لتدشينها داخل هونغ كونغ؛ لما يمثله ذلك من تهديد للأمن القومي الأمريكي.
وتستخدم الصين الكابلات في المحيط الهادئ، كأدوات لتأكيد سيادتها في البحر، من خلال تعزيز مكانة الشركات المصنعة الصينية وفرض قيود أكثر صرامة على التصاريح الممنوحة لمنظمات القطاع الخاص الأجنبية لمد الكابلات وإصلاحها في بحر الصين الجنوبي، ومن ثّم تأكيد وجودها في المياه الإقليمية المتنازع عليها، فهي تستهدف بصورة كبيرة إعادة رسم الخريطة الرقمية في آسيا.
بالتالي، فإن السياسة الأمريكية المتمثلة في مشاريع الكابلات لربط الولايات المتحدة بالصين عبر هونج كونع، تقابلها سياسة صينية تحد من مد الكابلات في بحر الصين الجنوبي؛ لذلك تتجه الأنظار من جانب المستثمرين لتحديد طرق جديدة تسمح لهم بالتغلب على تلك المشكلة والعمل على ربط أمريكا الشمالية مباشرة بجنوب شرق آسيا دون المرور عبر الصين أو بحر الصين الجنوبي، حيث يتم التخطيط في مد خطوط من خلال طرق بديلة، وهو ما قامت به جوجل وميتافيرس، عبر مد خطوط في المحيط الهادئ بداية من عام 2023 و2024 لتربط أمريكا الشمالية عبر بحر جاوة بعيداً عن بحر الصين الجنوبي والربط بإندونيسيا والفلبين.
تحديات متباينة:
بالرغم من الأهمية الاستراتيجية التي يمتاز بها المحيط الهادئ، فإن هناك عِدة تحديات تواجه مسألة تأسيس الكابلات الخاصة بالألياف الضوئية، من أبرزها البنية التحتية التي تحتاجها منطقة المحيط الهادئ الذي تبلغ مساحته ثلث سطح الأرض وما يتطلب ذلك من جهد في وضع الوصلات والخطوط المختلفة اعتماداً على طوبولوجيا الشبكة وموقعها، والتنوع الذي تمتاز به البيئة البحرية للمحيط الهادي.
لذلك، تواجه مسألة مد الكابلات الخاصة بالألياف الضوئية تحدياً صعباً، في ضوء ما تتسم به تلك المناطق، خاصة من اختلاف عمق المياه (على سبيل المثال، فإن عمق الجزء الجنوبي من بحر الصين الجنوبي إلى مدينة هوشي "ضحل جداً" أقل من 75 متراً) إلى جانب وجود ممرات إلزامية (مثل مضيق تايوان ومالاكا، ولا يزيد عمقهما على 50 متراً)، وهذا الأمر يزيد من مخاطر التلف، حيث إن أكثر من 60% من الأضرار التي لحقت بالكابلات في تلك المنطقة ناجمة عن الأنشطة البحرية.
من جانب آخر، تؤثر الظواهر الطبيعية على إتلاف تلك الشبكات مثلما حدث في عام 2006 عندما أدى زلزال قوته 7.2 ريختر في مضيق لوزون إلى قطع العديد من الكابلات في وقتٍ واحدة قبالة سواحل تايوان؛ مما أثَّر على حركة الإنترنت في الكثير من الدول (الصين، هونغ كونغ، فيتنام، الفلبين، سنغافورة، واليابان)، علاوة على الانفجارات البركانية التي كانت لها أضرارها على الكابلات في المحيط الهادئ، كما حدث في تونغا مطلع عام 2022.
يأتي أيضاً ثراء النظم البيئية البحرية في المحيط الهادئ، خاصة تلك الموجودة في أوقيانوسيا، ليُجسد تحدياً آخر، فهذا التنوع يتطلب حماية التنوع البيولوجي أثناء عمليات تركيب الكابلات التي تخدم الجزر والأرخبيل. وعلى الرغم من أن مجرد وجود كابلات الألياف الضوئية في رواسب قاع البحر قد لا يؤثر بالضرورة على أنواع الكائنات البحرية، فإن مد الكابلات وإصلاحها يؤثر على البيئة البحرية. وبينما قد تقلل بعض التقنيات من هذه التأثيرات وتجعل مد الكابلات ممكناً في تلك المناطق، إلا أنها تزيد من تكلفة مد الكابلات.
ختاماً؛ ترى الورقة البحثية لكميل موريل أن هناك نشاطاً مكثفاً من جانب الولايات المتحدة واستراليا من ناحية والصين من ناحية أخرى فيما يتعلق بالسيطرة على الألياف الضوئية والكابلات البحرية في منطقة المحيط الهادئ، مما يدفع تلك المنطقة للدخول إلى ساحة التنافس الصيني – الأمريكي، حيث يُعد تأسيس البنية التحتية الخاصة بالكابلات الذكية محاولة من بعض الدول لتأكيد سيادتها في المساحات البحرية وأراضي الجزر المتنازع عليها في المحيط الهادئ. أضف لذلك، فإن هناك خطراً آخر يتمثل في كون الكابلات الذكية التي تهدف إلى خدمة أهداف علمية سيتم استخدامها بشكلٍ مزدوج، حيث تكتسب الدولة التي تنشرها مستوى غير مسبوق من المعرفة بالنشاط البحري - العسكري على وجه الخصوص، مما يزيد من التنافس العسكري بين الدول في تلك المنطقة.