تمر الأزمة الليبية بانسداد سياسي منذ سنوات، إلا أنه في المدة الأخيرة ازداد هذا الانسداد خاصة في ملف تجديد الهيئات التشريعية والتنفيذية الحاكمة في البلاد، فمجلس النواب الليبي في الشرق لم يستطع مع نظيره السياسي، المجلس الأعلى للدولة في الغرب الليبي، إنتاج قواعد حاكمة ودستورية يمكن أن يجرى بمقتضاها أي تجديد لهذه الهيئات، وبالتالي كان الفشل هو العنوان الأبرز دائمًا في هذا المسار.
وإزاء هذا كله، ومع التشظي الحاصل في مؤسسات الدولة الداخلية، سواء أكانت التنفيذية أو التشريعية وما دونهما، التي تتمثل في وجود حكومتين، الأولى مكلَّفة من مجلس النواب، والثانية حكومة الوحدة الوطنية الناشئة عن لجنة الحوار السياسي في جنيف والتي ترفض التسليم إلا لحكومة تأتي عبر برلمان جديد منتخب.
وفي المقابل، هناك متابعة دولية وإقليمية لهذا الوضع، والإصرار من قبل الكثير من الدول الكبرى المتدخلة في الأزمة الليبية على تجديد هذه الهيئات؛ لتأتي الخطة الأممية الجديدة من قبل البعثة الأممية عن طريق الإحاطة التي قدمها المبعوث الأممي إلى ليبيا لمجلس الأمن، في 27 فبراير/شباط 2023، والتي من شأنها أن تضع طريقًا للمسار السياسي الذي سوف ينطلق منه المشهد في قابل الأيام، استنادًا إلى المادة 64 من الاتفاق السياسي الليبي لعام 2015، وبناء على الاتفاقات التي توصل إليها الأطراف الليبيون في تحقيق إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية خلال هذا العام 2023.
التعديل الدستوري واتساع دائرة الخلاف
لم ينته الجدل بشأن التعديل الدستوري الثاني عشر الذي أصدره مجلس النواب في طبرق في فبراير/شباط 2022، ورفض المجلس الأعلى للدولة له، واعتباره غير قانوني، ناهيك عن كونه هو والعدم سواء؛ إذ لم ينتج عنه أي واقع على الأرض، بل اعتبر أنه غير جدي وغير ملائم لمرحلة تجديد الهيئات التشريعية في البلاد، وبالتالي ما أضافه للأزمة الليبية هو مزيد من الوقت الضائع، ومزيد من الاختلاف.
كان من المفترض بحسب هذا التعديل تشكيل لجنة من أربعة وعشرين عضوًا: ثمانية عشر عضوًا موزعين بالتساوي بين كل من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة والهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، وستة أعضاء من الخبراء يختارهم مجلسا النواب والدولة بالتساوي بينهما، وتناط بهذه اللجنة مراجعة المواد محل الخلاف في مشروع الدستور المنجز من قبل الهيئة التأسيسية، وإجراء التعديلات الممكنة عليه.
كما نص على أن اللجنة تنتهي من إجراء التعديلات خلال خمسة وأربعين يومًا، بدءًا من أول اجتماع لها خلال خمسة عشر يومًا من تاريخ صدور هذا التعديل. ويحال مشروع الدستور المعدل مباشرة إلى المفوضية الوطنية العليا للانتخابات للاستفتاء عليه. وإذا تعذر إجراء التعديلات بعد انتهاء هذه المدة تتولى ذات اللجنة خلال خمسة وأربعين يومًا أخرى، تالية للمدة الأولى، إعداد قاعدة دستورية وقوانين انتخابية ملزمة للطرفين لدورة برلمانية واحدة. ويحال النظر في مشروع الدستور المنجز من قبل الهيئة التأسيسية إلى السلطة التشريعية الجديدة. كل ذلك لم يكن واقعًا، بل النقيض هو الذي كان، وبالتالي بات هو والعدم سواء.
واليوم يتجدد الجدل حول إصدار التعديل الثالث عشر من مجلس النواب منفردًا، بعد عام كامل على الجدل الذي كان في التعديل الثاني عشر؛ ليكون مرة أخرى مع إقرار مجلس النواب في شرق البلاد التعديل الدستوري الثالث عشر بمفرده، بل ويراد منه أن يكون واقعًا؛ الأمر الذي رآه كثيرون تسابقًا مع الزمن للاستمرار في المشهد السياسي الليبي المتأزم بطريقة أو أخرى. وفي نفس الوقت يتدافع المجتمع الدولي لإيجاد بدائل واقعية وفاعلة على الأرض لهذه الهيئات، باعتبار أنها جزء من الأزمة، وحتمًا لن تكون جزءًا من الحل، وإن كان أُريد لها ذلك في سنوات ماضية ومتتالية.
وقد جاء هذا التعديل الذي نشر نصه الموقع الإلكتروني لبرلمان طبرق في جريدته الرسمية، في 23 فبراير/شباط 2023؛ متضمنًا 34 مادة، بشأن نظام الحكم الجديد، بحسب التعديل، مُقرًّا بأن التشريع سيكون من غرفتين: مجلس البرلمان ومجلس الشيوخ؛ وفقًا للمادة الأولى منه، بحيث يتكون نظام الحكم من سلطة تشريعية مكونة من غرفتين، وسلطة تنفيذية يترأسها رئيس منتخب مباشرة من الشعب، بالإضافة إلى مواد متعلقة بالأحكام الانتقالية.
كما نص التعديل على أن السلطة التشريعية ستكون تحت اسم (مجلس الأمة) وتتكون من غرفتين؛ الأولى هي مجلس النواب ويكون مقره بنغازي، والغرفة الثانية هي مجلس الشيوخ ويكون مقره طرابلس. كما يحدد التعديل الاختصاصات التشريعية للمجلسين وطريقة وشروط الترشح والانتخابات الخاصة بهما.
ومن جانب السلطة التنفيذية، وبحسب التعديل، فإن رئاستها ستكون لرئيس منتخب مباشرة من الشعب يكلف رئيسًا للوزراء أو يقيله، ويحدد التعديل اختصاصات السلطة التنفيذية ومهامها وطريقة مساءلتها ومحاسبتها.
بالإضافة إلى ذلك، نص التعديل على تكوين لجنة من 12 عضوًا لإعداد قوانين الاستفتاء والانتخابات؛ بواقع ستة أعضاء من مجلس النواب ومثلهم من مجلس الدولة للتوافق بأغلبية الثلثين من أعضاء كل مجلس لإعداد قوانين الاستفتاء والانتخابات. وفي حال عدم التوافق على النقاط الخلافية تضع اللجنة آلية لاتخاذ قرار بشأنها، ويكون نهائيًّا وملزمًا، ويُحال إلى مجلس النواب لإقرار القوانين وإصدارها دون تعديل.
كل ذلك وهذه القوانين أصدرها البرلمان منفردًا ومتخطيًا شريكه السياسي بحسب اتفاق الصخيرات المسير للعملية السياسية في البلاد، والذي ينص على أن يكون مجلس الدولة جزءًا من أي تعديل دستوري، وهذا ما لم يكن. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الكثير يرفض هذا التعديل، ناهيك عن التوجه الخارجي الذي بات من الواضح أنه يتجه لاتخاذ خطوة أبعد من البرلمان والمجلس الأعلى للدولة.
وخلاصة القول: إن التعديل الأخير الذي أقره مجلس النواب بعيد عن التوافقية التي يدندن حولها في السنوات الماضية على أقل تقدير مع شريكه السياسي، المجلس الأعلى للدولة، بحسب اتفاق الصخيرات المسيِّر للعملية السياسية في البلاد، وربما يكون قد وضع آخر عصا يتكئ عليها، وبالتالي فإن نقطة القفز عليه، أو بالأحرى عليهما، هو والمجلس الأعلى للدولة، قد قاربت على أن تكون واقعًا. وما الحوارات والاجتماعات الدولية التي تقودها البعثة الأممية في ليبيا مع الدول الكبرى ببعيدة عن هذا الطرح، وكذلك ما كان في الإحاطة الأخيرة للبعثة الأممية في مجلس الأمن وتكوين لجنة جديدة ما هو إلا البداية الفعلية للقفز عليهما.
الإحاطة الأممية وضرورة الخروج من المأزق السياسي
منذ الإحاطة الأممية السابقة، في 17 ديسمبر/كانون الأول 2022، لم يتغير المشهد السياسي الداخلي في البلاد، غير أنه من الناحية الإقليمية والدولية كان هناك تقارب واتفاق كبير على ضرورة إجراء الانتخابات في 2023، بغض النظر عن الآلية التي سوف تكون عليها، برلمانية ورئاسية أو برلمانية فقط؛ لتكون الإحاطة الأخيرة لمجلس الأمن، في 27 فبراير/شباط 2023، سائرة في هذا الاتجاه، بل إن هناك إجماعًا دوليًّا كبيرًا على ذلك.
كما أن الوضع القائم الذي يعلوه الفشل في كل مرة بات من الواضح للبعثة ضرورة أن يُتخطى، خاصة في ظل وجود أزمة شرعية حقيقية، كما وصفتها البعثة؛ الأمر الذي يفتح مجالًا واسعًا للبدء في برنامج سياسي من غير هذه الهيئات، بل إن البعثة أصرت على "أن يتصدر حل أزمة الشرعية أولويات الفاعلين السياسيين الراغبين في تغيير الوضع القائم"، وبالتالي فإن الحديث اليوم عن اتفاق بين الهيئات الداخلية بات من الماضي.
ربما فاعلية لجنة الحوار الماضي 75 في جنيف التي أنتجت المجلس الرئاسي الجديد وحكومة الوحدة الوطنية ماثلة اليوم أمام البعثة في محاكاتها بطريقة أو أخرى للسير بالعملية السياسية في البلاد إلى الإمام؛ حيث أفادت البعثة بأن من أولوياتها في المرحلة المقبلة تكوين "وإنشاء لجنة تسيير رفيعة المستوى للانتخابات في ليبيا"، وستعمل هذه اللجنة على الجمع بين مختلف الأطراف الليبية المعنية بمن فيهم ممثلو المؤسسات السياسية وأبرز الشخصيات السياسية وزعماء القبائل، ومنظمات المجتمع المدني، والأطراف الأمنية الفاعلة، بالإضافة إلى اضطلاعها بتيسير اعتماد إطار قانوني وجدول زمني ملزم لإجراء الانتخابات في 2023؛ الأمر الذي يتضح معه أن هذه اللجنة سوف تكون جزءًا أصيلًا في تخطي المشهد الحالي من جهة، وخطوة إلى الأمام في عدم العودة إلى المربع الأول وعدم انتظار البرلمان والأعلى للدولة، في القاعدة الدستورية، أو غيرها من الإجراءات المطلوبة لتجديد هذه الهيئات، التي ربما تتعداها إلى تكوين أجسام سياسية جديدة على غرار لجنة 75 الماضية، سواء أكانت سياسية أو تنفيذية، الغرض منها هو السير في اتجاه وتيسير إجراء الانتخابات في هذا العام.
خلاصة
لا شك أن أي إجراء أو خارطة طريق جديدة لابد لنجاحها من وجود حدٍّ أدنى من التوافق بشأنها، خاصة من القاعدة الشعبية في البلاد، هذه من جهة، ومن جهة أخرى لابد أن يكون هناك تناغم دولي بشأنها، وهذا ما بات جليًّا وواضحًا في جلسة مجلس الأمن الأخيرة؛ حيث إن أغلب الدول المتدخلة في الأزمة الليبية تتجه نحو هذا المنحى ودعم هذا المقترح. وهذا يعني أن التعويل على هذه الخريطة الجديدة سوف يكون محل اهتمام دولي في تحقيق هدف تجديد الهيئات التشريعية، بغض النظر عن الآلية المصاحبة التي سوف تتخذها اللجنة الجديدة سواء من ناحية توحيد الحكومة التنفيذية أو من ناحية القوانين والقواعد الدستورية التي سوف تنطلق منها. إلا أنه من المؤكد أنه بات من الماضي الحديث عن البرلمان والمجلس الأعلى للدولة في تكوين هذه المسارات أو تعطيلها، ومن ثم رفض هذه الخريطة أو المقترح من قبلها؛ إذ إن المشهد السياسي اليوم لا يحتمل الانتظار أكثر من ذلك.