• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
قراءات

أزمة تعديلات القضاء وديمقراطية "الهيمنة" في إسرائيل


تواجه حكومة بنيامين نتنياهو، منذ تشكيلها في نهاية ديسمبر 2022، أزمات عديدة تتعلق معظمها بتداعيات إصرار الائتلاف الحاكم على تمرير حزمة من التعديلات على القوانين المنظمة لعمل المحكمة العليا الإسرائيلية، وهيئات قضائية أخرى. وتواصل المعارضة دعواتها للنزول إلى الشارع للضغط على نتنياهو لإيقاف خطة التعديلات القضائية تحت شعار "الدفاع عن الديمقراطية"، واستمر الإسرائيليون بالفعل في احتجاجاتهم للأسبوع التاسع على التوالي، إذ نزل آلاف منهم يوم 4 مارس الجاري إلى شوارع العاصمة تل أبيب، تعبيراً عن مناهضتهم لخطوة حكومة نتنياهو التي أثارت الكثير من الجدل. ومن جانبه، حاول نتنياهو استغلال نفس شعار المعارضة دفاعاً عن خططه، وهو ما نقل الصراع إلى مستويات أعمق حول تعريف الديمقراطية في النظرية والممارسة من جانب، وحول تأثير الانقسام الحادث في الشارع في تماسك المجتمع الإسرائيلي من جانب آخر.

والسؤال المطروح هنا لا يتعلق فقط بتحديد المدى الذي ستستمر خلاله الأزمة الحالية قائمة، أو كيفية حلها، بل أيضاً بالأسباب التي دفعت نتنياهو إلى خوض معركة مبكرة مع معارضيه دون خشية من تأثيرها في بقاء الائتلاف الحاكم.

صراعات الديمقراطية:

على مدى أكثر من عقد من الزمان وليس في إسرائيل وحدها، بل في العديد من دول العالم، كانت هناك صدامات حادة بين اليمين واليسار حول معنى الديمقراطية، التي تتضمن تناقضات لا يمكن حلها. فعلى سبيل المثال، كيف يمكن التوفيق بين جوهر الديمقراطية التمثيلية ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية المنتخبة (البرلمان والحكومة) التي تأتي عبر انتخابات نزيهة وقانونية، وبين مؤسسات السلطة القضائية "غير المنتخبة" والتي يمثلها قضاة المحاكم المختلفة والادعاء العام والمستشارون القانونيون للحكومة؟

وفي حين يتمسك اليسار بتوسيع صلاحيات الهيئات القضائية ودعم استقلالها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية كأهم معلم من معالم النظام الديمقراطي، يرى اليمين أن هذا التوجه قد أدى تدريجياً إلى تقويض المعنى الحقيقي للديمقراطية بجعل من هم "غير منتخبين من الشعب" (خاصة قضاة المحكمة العليا، وموظفي هيئات الادعاء العام ومستشاري الحكومة القانونيين) يتحكمون فيمن "انتخبهم الشعب" (نواب الكنيست الذين يمنحون الثقة للحكومة أو يحجبونها عنها). كما أدى نفس التوجه إلى الإخلال بالتوازن المفترض الذي تقول به النظرية الديمقراطية بين السلطات الثلاث.

ومن جانبه، أشار نتنياهو إلى أن نقل المعارضة المعركة حول التعديلات القضائية إلى الشارع، بتنظيم تظاهرات حاشدة ومستمرة تحرض على الكنيست والحكومة، هو "اعتداء صارخ على الديمقراطية"، التي من المفترض أنها تُلزم من خسروا الانتخابات بعدم اللجوء إلى التحريض ومحاولة إسقاط حكومة منتخبة إلا بالوسائل الديمقراطية (عبر الانتخابات وصناديق الاقتراع). وبناءً على ذلك، اعتبر نتنياهو أن هدف ما أسماه بالإصلاحات القضائية هو استعادة التوازن بين السلطات كأحد أسس الديمقراطية، فيما رأت المعارضة أن هذه الإصلاحات تنطوي على تجريد كامل للسلطة القضائية من صلاحياتها بما يشكل تهديداً خطيراً للديمقراطية.

والواقع أن بعضاً من المنطق الذي يستخدمه نتنياهو وحلفاؤه من اليمين فيما يتعلق بضرورة معالجة الخلل في التوازن بين السلطات الثلاث، بدا مقبولاً حتى من جانب بعض معارضيه، بدليل موقف زعيم المعارضة، يائير لابيد، الذي قبل في البداية مبدأ إجراء حوار بين الحكومة والمعارضة حول خطة نتنياهو، قبل أن يتحول - تحت الضغوط من أطراف أخرى في معسكر المعارضة - إلى رفض الحوار، والمطالبة بتعليق عملية التصويت على التعديلات في الكنيست.

فما جوهر هذه التعديلات التي يقترحها ائتلاف نتنياهو؟ وما مدى إمكانية أن تتوصل الأطراف المتصارعة لحلول وسط؟ خاصة بعد تمرير بعض من عناصر حزمة التعديلات بالقراءة الأولى في الكنيست. وجدير بالذكر أنه وفقاً للنظام التشريعي الإسرائيلي، لا يعد مقترح القانون أو التشريع مُجازاً إلا بعد ثلاث قراءات تنتهي بالتصويت عليه من قِبل اللجان المتخصصة.

خطة التعديلات:

وفق التقارير الواردة في وسائل الإعلام الإسرائيلية، فإن خطة ائتلاف نتنياهو للتعديلات القضائية تتكون من العناصر التالية:

1- يمكن للأغلبية البسيطة (61 نائباً من أصل 120) من المشرعين (أعضاء الكنيست)، أن تُعيد سن قانون ألغته المحكمة العليا الإسرائيلية، وإذا ما تقدم معارضو التشريع إلى المحكمة العليا بطلب لإلغاء التشريع أو القانون المعني مجدداً، فيتعين أن يكون قرار المحكمة بالإجماع أي بموافقة قضاة المحكمة الخمسة عشر.

2- تعديل عملية اختيار أعضاء اللجنة التي تقوم بتعيين قضاة المحاكم العادية بكل درجاتها، وبدلاً من واقع النظام الحالي الذي يجعل عدد الأعضاء الذين تعينهم الحكومة في هذه اللجنة أقلية، تقترح تعديلات نتنياهو تعيين أغلبية أعضاء اللجنة التي تختار قضاة جدداً من جانب الائتلاف الحاكم.

3- تمرير تشريع ينص على إخضاع قسم التحقيقات مع أفراد الشرطة (الذي يتولى التحقيق في التجاوزات التي يرتكبها بعضهم) لوزير العدل، وليس لهيئات مستقلة.

4- تمرير تشريع يمنع إدخال المأكولات التي تشتمل على "الخميرة " - وفق الشريعة اليهودية لا يجب استخدام هذه المادة في الخبز المصنوع للاحتفال بالأعياد الدينية - إلى المستشفيات، في عيد الفصح اليهودي.

بالإضافة إلى العناصر الأربعة السابقة، تخشى المعارضة الإسرائيلية من الاتفاقات الائتلافية التي وقعها نتنياهو مع الأحزاب الحريدية (شاس، ويهدوت هتوراة)، والتي تتجه مستقبلاً لتمرير تشريعات تضرب علمانية الدولة، وتحيلها لأخرى خاضعة لأهواء الأحزاب الدينية، مثل ما ورد في الاتفاقية بين حزبي الليكود وشاس، لتوسيع صلاحيات المحاكم الدينية، ليكون في مقدورها التحكيم في قضايا مدنية عادية، في حال أراد طرفا النزاع هذا التحكيم.

علاوة على ذلك، يطرح الجمهور الحريدي ونوابه في الكنيست إمكانية بلورة تشريعات أخرى تنص، على سبيل المثال، على وقف كل أعمال الصيانة في شبكة المواصلات وخاصة القطارات في أيام السبت، وتقليص مجالات العمل المسموح بها في أيام السبت. كذلك قد تطالب الأحزاب الحريدية بإصدار تشريعات تفرض تخصيص حصص الدين ودراسة التوراة في مدارس الجمهور العلماني، وإلغاء التسهيلات المحدودة التي أُقرت في السنوات الأخيرة بشأن إصدار شهادات الحلال وفق الشريعة اليهودية، بالإضافة إلى زيادة عدد الشواطئ التي فيها فصل بين الرجال والنساء. كما شملت المطالب العودة إلى الإعفاء الشامل لشبان الحريديم من الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، على الرغم من صدور قرار في المحكمة العليا منذ سنوات يلزم الحريديم بأداء الخدمة العسكرية.

مسارات الأزمة:

حتى الآن، لا يبدو الصراع بين الحكومة ومعارضيها في إسرائيل حول التعديلات القضائية قابلاً للحل. فمن جانب، يتجاهل نتنياهو وحكومته مظاهرات الشوارع التي تنظمها المعارضة، ومرر الكنيست بالفعل بعض التعديلات المقترحة في القراءة الأولى، ويؤكد نتنياهو أنه منفتح على الحوار مع المعارضة خلال شهر مارس الجاري قبل الشروع في إجراء القراءتين الثانية والثالثة للتعديلات في الكنيست في نهاية نفس الشهر.

وعلى الجانب الآخر، تستمر المعارضة في التحريض ضد الحكومة ليس فقط بالدعوة إلى الاستمرار في التظاهر في الشوارع، بل بجمع التوقيعات من أعضاء النخب الاقتصادية والأمنية والسياسية لرفض هذه التعديلات بحجة خطورتها على مستقبل إسرائيل. فعلى سبيل المثال، لجأت المعارضة إلى الشركات العاملة في قطاع التكنولوجيا المتقدمة - أهم قطاعات الصادرات الإسرائيلية - لكي تحذر من مغبة الإصلاحات المقترحة على ثقة المستثمرين الأجانب واحتمال إحجامهم عن الاستثمار في إسرائيل بسبب التدخل الحكومي في عمل القضاء، وهو ما يهدد حقوق المستثمرين في حالة نشوب نزاع مع أطراف محلية، إذا كان القضاء غير مستقل.

كذلك جمعت المعارضة توقيع قرابة 500 كادر أمني عمل معظمهم في السابق في أجهزة الاستخبارات، على عريضة تطالب بتعليق خطة الإصلاح القضائي التي يمكن أن يؤدي الإصرار على تمريرها إلى تمزيق النسيج الاجتماعي في إسرائيل، ونشوب حرب حقيقية بين العلمانيين والمتدينين. وأخيراً، أجرت أطراف في المعارضة الإسرائيلية اتصالات مع مسؤولين أمريكيين وأعضاء جماعات الضغط اليهودية هناك من أجل حشدها في المعركة ضد نتنياهو، محذرين من إمكانية تدهور العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، خاصة أن إدارة الرئيس بايدن تعتقد أن خطة نتنياهو للإصلاحات القضائية لا تخدم دعوة الولايات المتحدة الأمريكية لدعم الليبرالية والديمقراطية في أنحاء العالم في مواجهة النموذجين الروسي والصيني. ومن المؤكد - وفقاً للرؤية الأمريكية - أن خطة نتنياهو لإصلاح القضاء ستعزز الأفكار المُعادية للديمقراطية، وهو ما لا يجب أن تشارك فيه تل أبيب، فضلاً عن أن دفاع الولايات المتحدة عن إسرائيل وممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة قد ارتكز على مدار سنوات طويلة على مقولة أن إسرائيل تنتمي للمعسكر الديمقراطي ويجب حمايتها في المحافل الدولية.

وعلى الرغم من هذا الوضع المتأزم، من المُحتمل أن تؤثر التوترات الناشبة حالياً بين إسرائيل والفلسطينيين، والتي يمكن أن تتحول في أي لحظة إلى مواجهة عسكرية شاملة، في طريقة تعامل نتنياهو ومعارضيه مع أزمة التعديلات القضائية. فمن المعروف تماماً، وبناءً على سوابق تاريخية عديدة، أن الخطر الخارجي الذي واجهته أو قد تواجهه إسرائيل، يؤدي إلى تقليص الخلافات الداخلية فيها.

ومن المتوقع بعد إثبات نتنياهو قوة تماسك ائتلافه في مواجهة المظاهرات الحاشدة ضده خلال الأسابيع الماضية، أن يسعى إلى إجراء حوار مع المعارضة للتوصل إلى حلول وسط، لكن من غير المرجح أن يتخلى نتنياهو عن تمرير الإصلاح الخاص بالمحكمة العليا على وجه الخصوص، فيما قد يقبل بالتخلي عن النص الخاص بضرورة إجماع قضاة المحكمة على إلغاء قانون قام الكنيست بتمريره، ويمكن أن ينص التشريع بدلاً من ذلك على أن يكون الاعتراض على أي قانون من جانب المحكمة بأغلبية كبيرة من أعضائها وليس بأغلبية بسيطة. ومن الممكن أيضاً أن يقبل نتنياهو بأن يتساوى عدد الأعضاء الذين تعينهم الحكومة في اللجان المعنية باختيار قضاة المحاكم، مع عدد الأعضاء المستقلين الذين ترشحهم الجهات القضائية لعضوية هذه اللجان، بدلاً من سعي نتنياهو حالياً لجعل الغلبة لممثلي الحكومة.

ويتوقف مستقبل هذه الحلول الوسطية على مدى قدرة نتنياهو على الاستجابة أيضاً لبعض مطالب الأحزاب الحريدية، مثل تمرير التشريع الخاص بحق أي طرفين في اللجوء إلى محاكم دينية إذا ما كان ذلك بموافقتهما، طالما أن ذلك لا يمنع أطرافاً أخرى من اللجوء في الشؤون الشخصية تحديداً إلى المحاكم العادية. وقد يلجأ نتنياهو إلى تمرير تشريع مخفف لتدريس الدين في المدارس كجزء من عملية دعم الثقافة والهوية اليهودية من منظور قومي وليس ديني.

الخلاصة أن تداخل أزمة التعديلات القضائية مع الاحتمالات المرتفعة لانفجار الأوضاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين خلال شهري مارس وإبريل 2023، يمكن أن يجعل التأثير المتبادل بينهما في أقصى درجاته، وهو ما يصعب معه التنبؤ بمآلات الأوضاع الداخلية في إسرائيل على المدى القصير.