• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42
news-details
أبحاث

دبلوماسية الإغاثة.. تأثيرات محتملة في سياسة تركيا الداخلية والخارجية


مقدمة

لا شك أن جهود التضامن الإنساني بين المجتمعات والدول، وقت الشدائد، تعزز من العلاقات الدبلوماسية، كما أنها تفتح المجال أمام خفض حدة التوترات السياسية بينها؛ ففي كثير من الأحيان تقوم دبلوماسية الإغاثة، إلى جانب جهودها الإنسانية، بإغاثة الدبلوماسية التقليدية. وتهدف هذه الورقة إلى دراسة مدى تأثير دبلوماسية إغاثة منكوبي زلزال تركيا، التي قامت بها دول إقليمية ودولية، في معالجة خلافاتها السياسية مع تركيا، وتصحيح صورتها السلبية لدى المجتمع التركي.

دبلوماسية الإغاثة

في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظهر مفهوم جديد عُرف بـاسم “الدبلوماسية الإنسانية”. وغَدَتْ هذه الدبلوماسية واحدة من أهم الوسائل التي تتبناها بعض الدول لتعزيز مكانتها العالمية. وهي عبارة عن مجموعة من الأنشطة والوظائف – ومن ضمنها التفاوض – للوصول إلى السكان المدنيين الذين هم بحاجة إلى الحماية والمساعدة، وتعزيز احترام القانون الدولي والمعايير الدولية، ومكافحة الثقافة التي تحدث فيها الانتهاكات. وهي، بدورها، “تُعَدُّ جزءًا من الدبلوماسية العامة، وإحدى الوسائل المكملة للدبلوماسية التقليدية، ويمكن النظر إليها بوصفها إحدى أدوات القوة الناعمة.

وتُعَدُّ “دبلوماسية الكوارث” و “دبلوماسية الإغاثة” من أبرز أدوات “الدبلوماسية الإنسانية”؛ حيث تضطلع الأولى بتوفير الدراسات والبحوث اللازمة “للحد من مخاطر الكوارث” الطبيعية وغير الطبيعية، وتقديم الخبرة والتكنولوجيا للدول المحتاجة، سواء بشكل وقائي قبل وقوع الكارثة، أو بالتقليل من آثارها. وتقوم بعض الدول بتوظيف هذه الدبلوماسية لزيادة فرص التعاون والسلام، وبناء علاقات طويلة المدى، وتحسين صورتها لدى المجتمعات الأخرى.

أمّا “دبلوماسية الإغاثة” فهي أداة تتسم بالاستجابة السريعة في مواجهة الكوارث الطبيعية فور حدوثها، مثل الزلازل والفيضانات وغيرها، من خلال إرسال فرق الإنقاذ المتخصصة والمساعدات الإغاثية.

ويشهد التاريخ القريب على الأدوار الإيجابية التي قامت بها دبلوماسية الإغاثة في تصحيح العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الدول. ولعل أبرزها، فيما يخص موضوع هذه الورقة، هو الزلزال الضخم الذي ضرب مدينة “إزميت” التركية في 17 أغسطس 1999، وراح ضحيته أكثر من 17 ألف قتيل.

كان اليونانيون من بين أوائل المبادرين بالمساعدة، رغم عقود من العداء بين الدولتين. وبعد أقل من شهر، في 7 سبتمبر من العام نفسه، ضرب زلزال بقوة ست درجات أثينا، وهُرع الأتراك للمساعدة والإغاثة بالمثل. وأدى هذا التضامن الإنساني إلى تخلي اليونان عن اعتراضاتها على أن تصبح تركيا دولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي.

زلزال تركيا 2023

الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا فجر يوم الاثنين السادس من فبراير 2023 لم يكن أقل خطورة من زلزال عام 1999. بل على العكس، كان أشد خطرًا وتدميرًا؛ إذ إن ولاية “قهرمان مرعش”، جنوب شرق تركيا، قد شهدتْ زلزالين في يوم واحد، أحدهما بقوة 7.7، والآخر بقوة 7.6 درجات على مقياس ريختر. وامتد تأثيرهما التدميري، وتأثير توابعهما التي تجاوزت ثلاثة عشر ألف هزة ارتدادية، إلى عشر ولايات أخرى يقطنها نحو 13.4 مليون نسمة. ونتيجة لذلك، توفي أكثر من 46 ألف شخص، وفقد أكثر من نصف مليون شخص مساكنهم

فور إعلان تركيا عن وقوع الزلزال، ودعوتها المؤسسات الدولية لتقديم الإغاثة العاجلة، أطلق المجتمع الدولي حملة تضامن مكثفة سريعة، بدأت منذ الساعات الأولى للزلزال؛ حيث تنوعت بين إرسال فرق الإغاثة والإنقاذ، وإنشاء المستشفيات الميدانية وتجهيزها باللوازم الطبية، ومستلزمات الإعاشة اللازمة للناجين من الزلزال، والتبرعات المادية والعينية، فضلًا عن رسائل التعازي والمواساة من رؤساء ومسئولي الدول في مختلف أنحاء العالم.

سارعت أكثر من 90 دولة إلى مد يد العون إلى تركيا، سواء كانت دولًا صديقة لها، أو على خلاف وتوتر معها، وقد قبلت تركيا هذه المساعدات منهم جميعًا، رغم أن المبادئ الدبلوماسية تسمح لها برفض المساعدة من أي جهة أرادت.

التوتر في علاقات تركيا مع الغرب

خلال العامين الأخيرين، انتهجت أنقره سياسة جديدة تجاه المنطقة العربية، استهدفت تحسين علاقاتها المتأزمة منذ العقد الماضي مع بعض دولها، وقد أحرزت نجاحًا في الكثير منها، وما تزال تعمل على معالجة ما تبقى من تحديات.

وعلى النقيض من ذلك، شهدت الفترة ذاتها تفاقمًا في خلافات تركيا السياسية مع الدول الغربية، وتحوّل بعضها إلى أزمات دبلوماسية وعسكرية، لا تتفق، حسب الدول الغربية، مع وضعيتها الجيواستراتيجية بوصفها حليفًا غربيًا.

وأضحى حلف الناتو يرى أن تركيا تنتهج سياسات تتعارض مع مصالح الحلف الذي تنتمي إليه، بداية من شرائها منظومة صواريخ “إس – 400” الروسية، وانتهاء بقرارها قطع المباحثات مع السويد لعرقلة انضمامها إلى الحلف، ورفضها المساومة على ذلك بموافقة الولايات المتحدة على صفقة مقاتلات “إف – 16”.

وصعّدت تركيا بشكل متواصل لهجة تهديدها العسكري تجاه اليونان، حليفتها في الناتو، على إثر الخلاف بينهما حول مسألة تسليح جزر بحر إيجه اليونانية، والنزاع حول حدود التنقيب عن الغاز في مياه شرق المتوسط.

دبلوماسية الإغاثة وفرص إدارة الخلافات

من البديهي أن دبلوماسية الإغاثة قد تغدو فرصة سانحة لإغاثة الدبلوماسية التقليدية من خلافاتها المتأزمة. ومن ثم يمكن القول إن جهود الإغاثة الإنسانية التي قامت بها دول ومنظمات دولية غربية، قد تسهم في تهدئة بعض ملفاتها الساخنة مع تركيا، أو إرجائها ولو بعض الوقت.

الولايات المتحدة

يبدو أن الولايات المتحدة أدركت الخطأ الذي وقعت فيه عندما تأخرت في إبداء موقفها من محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في 15 يوليو 2016، وفهمت مدى الانعكاسات السلبية لذلك التأخير على صورتها لدى المجتمع التركي والدولة التركية. ومن ثم، فإن الظرف السياسي الراهن، لا سيّما في ظل دور الوساطة الذي تقوم به تركيا بين روسيا وأوكرانيا، وحاجة حلف الناتو إلى توسيع عضويته بضم فنلندا والسويد، كل ذلك قد دفع الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، هذه المرة، إلى التعبير، وبسرعة، عن تضامنه مع ضحايا الزلزال، وانتهاج دبلوماسية الإغاثة؛ بُغْيَة توظيفها في حلحلة خلافات بلاده مع تركيا.

وفي هذا السياق كتب بايدن تغريدة على الحساب الرسمي للرئيس الأمريكي، بعد ساعات قليلة من وقوع الزلزال، قال فيها: “أشعر بحزن عميق بسبب الخسائر في الأرواح، والدمار الناجم عن الزلزال في تركيا وسوريا. وقد وَجَّهْتُ فريقي لمُواصَلة مُراقَبة الوضع عن كثب بالتنسيق مع تركيا، وتقديم أي مساعدة مطلوبة”. وبالفعل، وَجَّهَتْ الولايات المتحدة إلى تركيا فرقتيْ بحث وإنقاذ من أفضل الفرق في الاستجابة للمساعدة في حالات الكوارث التابعة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.

وكان لزيارة وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” مناطق الزلزال في 19 فبراير، بعد سنوات من التوتر السياسي مع تركيا، تأثيرٌ إيجابيٌّ في حلحلة بعض القضايا الخلافية، والظهور بصورة تضامنية مع المنكوبين، خاصة وأنه أعلن عن زيادة المساعدات المالية المقدمة لتركيا بسبب الزلزال إلى 185 مليون دولار.

ورغم الإطار التضامني الذي ظهرت فيه زيارة بلينكن، فإن مسألة أوكرانيا، و”الحاجة إلى العمل بشكل أوثق بشأن قضايا تشمل الدفاع والطاقة والأمن الجماعي”، كانت ذات أولوية خلال لقائه مع أردوغان.

ونظرًا لكون مسألة انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو قضية ذات أولوية قصوى أيضًا بالنسبة للولايات المتحدة فيما يخص الحرب الروسية – الأوكرانية، فقد سعى بلينكن إلى التأكيد لنظيره التركي على أن “قضية تَوَسُّع دول الناتو في بلدان الشمال الأوروبي ليست قضية ثنائية مع تركيا، وأن الولايات المتحدة تدعم بقوة انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف في أسرع وقت ممكن”.

وفي إشارة واضحة من تركيا إلى عزمها تهدئة التوترات بين ستوكهولم وأنقره، أعلن وزير الخارجية التركي أن المحادثات المعلقة مع السويد وفنلندا بشأن طلب عضوية الناتو ستُستأنف قريبًا. وكذلك أعلن الأمين العام لحلف الناتو “ستولنبرغ” في 24 فبراير أن الرئيس التركي أردوغان وافق بالفعل على استئناف المباحثات الثلاثية بين بلاده وبين السويد وفنلندا، وأن الاجتماع سينعقد في منتصف مارس.

كما يمكن القول إن بلينكن نجح أيضًا في الفصل بين مساريْ قبول تركيا انضمام السويد للناتو وبين مخاوف تركيا من عدم إتمام صفقة شراء طائرات “إف – 16″؛ حيث أكد أن “إدارة الرئيس بايدن تدعم بشدة الحزمة الهادفة إلى تحديث طائرات إف – 16 الموجودة أصلًا، وإلى تزويد تركيا بأخرى جديدة”، مشيرًا إلى عدم تمكنه من إعطاء “جدول زمني رسمي” لذلك؛ إذ إن أي عملية بيع تكون مشروطة بمنح الكونغرس ضوءه الأخضر”.

وسعيًا لتجاوز اعتراضات تركيا على دعم الولايات المتحدة وتعاونها مع “وحدات حماية الشعب الكردية” في شمال سوريا في محاربة تنظيم “داعش”، ونقلها إلى مستويات تشاورية، حرص بلينكن على إبداء تفهم بلاده “المخاوف الأمنية المشروعة لتركيا”، ودعاها أيضًا إلى أن “تتفهم مخاوف واشنطن بشأن داعش”، وتعهّد بمواصلة العمل مع تركيا “بشكل وثيق لمعالجة الأمرين معًا”.

وعليه، فإن زيارة بلينكن – رغم كونها مجدولة من قبل وقوع الزلزال – إلَّا أن تزامنها مع جهود إغاثية أمريكية مكثفة وتقديم دعم مالي هو الأكبر بين الدول الأخرى، كُلُّ ذلك كان له تأثيره في استئناف المباحثات المعلقة بين تركيا والسويد وفنلندا بشأن الانضمام إلى الناتو، وفي تهدئة نسبية لمخاوف تركيا من دعم واشنطن لقوات الحماية الكردية في سوريا، وكذلك في كسب الوقت للبت في مسألة صفقة مقاتلات إف – 16.

الاتحاد الأوروبي، واليونان

نَفَّذَ الاتحاد الأوروبي في تركيا واحدة من أكبر عمليات الإغاثة الإنسانية في تاريخه، حيث قام على الفور بتفعيل “آلية الحماية المدنية” الخاصة به. فقد أكدت “فون دير لاين” رئيسة المفوضية الأوروبية، خلال اتصال هاتفي مع الرئيس التركي أردوغان، أن 21 دولةً عضوًا في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى ألبانيا والجبل الأسود وصربيا، قد أرسلوا فرقة استجابة، تتألف من 1651 فردًا و106 كلب بحث وإنقاذ. وأن 12 دولةً عضوًا في الاتحاد الأوروبي قدمت أيضًا مستلزمات إيواء.

ولم يكتفِ الاتحاد الأوروبي بالمساعدات الإغاثية والمساعدات المالية التي قدمتها بعض دول الاتحاد، بل أعلن “توبياس بيليستروم” وزير خارجية السويد، الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي، أعلن عن عقد مؤتمر دولي للمانحين في 16 مارس، يضم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والمؤسسات المالية الدولية؛ للتبرع لمتضرري الزلزال.

وعلى الرغم من أن تركيا أبدتْ امتنانها لكل إيماءة بالمساعدة عقب الزلزال، إلَّا أن دولة واحدة على وجه الخصوص كانت متميزة، هي اليونان المجاورة؛ حيث كانت واحدة من أوائل من أرسلوا المساعدات، رغم أن الخطاب بين البلدين اتسم مؤخرًا بالعدوانية؛ لدرجة أن بعض المراقبين اعتقدوا أن المواجهة العسكرية بينهما قد باتت ممكنة

هذا، وقد أظهرت مواقف اليونانيين – قادةً وشعبًا – تعاطفًا وتضامنًا غير مسبوق مع كارثة الزلزال في تركيا، بما يُعيد إلى الأذهان موقفهم الإغاثي في زلزال إزميت 1999؛ حيث بادرت الرئيسة اليونانية “إيكاتيريني ساكيلاروبولو”، ورئيس الوزراء “كيرياكوس ميتسوتاكيس” بتقديم التعازي إلى الرئيس التركي أردوغان، كما كان وزير الخارجية اليوناني “نيكوس ديندياس” أول وزير أوروبي يزور مور منطقة الزلزال في تركيا.

وحرصًا على التعبير عن تضامن بلاده مع تركيا، قال ديندياس: “إن الجهود اليونانية لن تتوقف عند هذا الحد”، وستفعل اليونان كل شيء لدعم تركيا، سواء على الصعيد الثنائي، أو كأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

وفي دلالة أخرى على تضامن المجتمع اليوناني ومؤسساته الخاصة أيضًا، سمح مشغلو شبكات اتصال الهواتف المحمولة اليونانية لمنكوبي الزلزال باستخدام هواتف فرق الإنقاذ مجانًا للاتصال بأقاربهم، كما أطلقوا حملة تبرع في اليونان لمتضرري الزلزال مع كل وجبة طعام يتم طلبها عبر تطبيقات الهواتف المحمولة.

كما اصطف الناس في العديد من المدن اليونانية في نقاط التجمع للتبرع لمتضرري الزلزال، وانتشرت الأعلام التركية واليونانية على حسابات اليونانيين في وسائل التواصل الاجتماعي، بل إن الصحف اليونانية – التي لم تكن معتدلة قَطُّ في نبرتها تجاه تركيا – كانت تدعو إلى جمع المساعدات، وتتحدث عن بداية جديدة في العلاقات اليونانية التركية المتوترة.

وفي لفتة تضامنية أخرى، قام أهالي جزيرة “ميس” اليونانية بلصق رسالة على صناديق التبرعات التي أرسلتها إلى متضرري الزلزال في تركيا، كتبت فيها “جارتنا العزيزة، قلوبنا دُمرت مع منازلكم. هذا كل ما يمكننا فعله لإخواننا الذين نتشارك معهم نفس الأرض ونفس الهواء ونفس الشمس .. من أهالي جزيرة ميس”.

لا شك أن هذه المواقف الإنسانية من دولة اليونان وشعبها قد تركت آثارًا إيجابية في قلوب الشعب التركي تجاه اليونانيين، لدرجة أن صحيفة “حريت” التركية، التي عادة ما تَشُنُّ حملات هجومية ضارية ضد السياسيين اليونانيين، نشرت في صفحتها الأولى بأحرف كبيرة باللغة اليونانية عبارة ” EFHARİSTO POLİ FİLE”، وتعني “شكرًا جزيلًا يا جارتنا”.

ولعل أحد مخرجات دبلوماسية الإغاثة اليونانية تجاه هذه الكارثة يكمن في تصريح وزير الخارجية التركي خلال لقائه نظيره اليوناني؛ حيث قال: “أعتقد أنه يجب أن يكون هناك وقف للتصعيد، ويجب ألَّا ننتظر كارثة أخرى للعمل معًا، ليس فقط لتطبيع العلاقات، ولكن لحل بعض المشكلات”، وأكد “نحن بحاجة إلى تعزيز الأجندة الإيجابية”.

هذا وقد رَدَّتْ مصادر دبلوماسية يونانية على تصريحات وزير الخارجية التركي ، قائلة : “تعمل اليونان بشكل منهجي على تعزيز علاقات حسن الجوار والسلام والاستقرار في المنطقة الأوسع ، وحل القضايا العالقة مع جيرانها، بناءً على تطبيق القانون الدولي، والقانون الدولي الخاص بالجزر، في سياق احترام مبادئ وقيم ميثاق الأمم المتحدة”.

أرمينيا

كان وزير الخارجية الأرميني قد أعرب في ديسمبر الماضي 2022 عن استعداده للقاء نظيره التركي، بشرط أن يكون ذلك مثمرًا في مجال تطبيع العلاقات الثنائية وفتح الحدود، غير أن دبلوماسية الإغاثة تجاوزت حسابات الدبلوماسية التقليدية وخطواتها البروتوكولية، لتفتح المجال أمام تطبيع العلاقات بين البلدين في أسرع وقت.

كانت أرمينيا أيضًا من أوائل الدول التي أرسلت فرق إنقاذ ومساعدات إنسانية إلى كل من تركيا وسوريا. وأجرى رئيس الوزراء الأرميني “باشينيان” اتصالًا هاتفيًا مع الرئيس التركي “أردوغان”، الذي شكره بدوره على التواصل مع تركيا في وقت الأزمة، وشدد على أن هذا التضامن سيقطع شوطًا طويلًا في محادثات التطبيع المستقبلية بين يريفان وأنقرة.

وقد تم فتح الحدود الأرمينية التركية يومي 11 و 14 شباط/ فبراير، بعد أن ظلت مغلقة نحو ثلاثين عامًا، كما تم السماح لقوافل الشاحنات المحملة بالطعام والماء والأدوية ومواد إنسانية أخرى، و 27 من عمال الإنقاذ، بالانتقال من أرمينيا إلى ولاية “أديامان” في جنوب تركيا. وبعد بضعة أيام، عاد هؤلاء المنقذون إلى أرمينيا عبر الحدود البرية نفسها.

وقام وزير الخارجية الأرميني بزيارة أنقرة في 15 فبراير، والتقى نظيره التركي، الذي أعرب بدوره عن امتنانه بجهود الإغاثة الأرمينية، وقال: “يجب أن نحافظ على هذا التضامن في جنوب القوقاز”، و”نحن نقدر تقديرًا عاليًا المساعدة الإنسانية لأرمينيا، وأعتقد أنها ستدعم أيضًا عملية تطبيع العلاقات بين أذربيجان وتركيا وأرمينيا”. وسعيًا لتبديد مخاوف أرمينيا من احتمالية عرقلة أذربيجان عملية التطبيع، ألمح إلى التنسيق الوثيق بين أنقرة وباكو بقوله إن إحراز تقدم في حوار أرمينيا مع تركيا وأذربيجان سيُسهم في استقرار المنطقة.

كانت هذه الانفتاحات هي الأولى منذ ثلاثين عامًا، ورغم أنها تأتي في إطار مفاوضات جارية لتطبيع العلاقات الأرمينية التركية منذ أكثر من عام، إلَّا أنها تُعَدُّ قفزة طفرية دفعت إليها كارثة الزلزال، وما تلاها من الاستجابة الأرمينية السريعة بالمساعدة.

دولة الإمارات العربية المتحدة

تحظى دبلوماسية الإغاثة الإماراتية بتاريخ وخبرات متميزة؛ تنطلق من “نهج ورثته عن مؤسسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، في مد جسور التعاون والتضامن مع الشعوب الشقيقة والصديقة”؛ ولذلك كانت دولة الإمارات من أوائل الدول التي بادرت بمد جسور الإغاثة والمساعدة لمنكوبي الزلزال في تركيا وسوريا.

وفي هذا السياق أصدر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، حفظه الله، فور وقوع الزلزال، أوامره بتدشين جسر جوي من طائرات الشحن، محملة بأطنان من مختلف أنواع المواد الإغاثية والمعيشية، بلغ 189 طائرة، والتبرع بمبلغ 100 مليون دولار مناصفةً بين تركيا وسوريا. وأنشأت الإمارات مستشفييْن ميدانييْن كبيريْن في ولايتيْ غازي عنتاب وهاتاي جنوب شرق تركيا. وقام سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية، بزيارة عدد من المناطق المتأثرة بالزلزال.

كما أظهر المجتمع الإماراتي تضامنًا واسعًا مع متضرري الزلزال، بمشاركته في الحملة التي نظمتها هيئة الهلال الأحمر الإماراتي، بالتعاون مع وزارة الخارجية والتعاون الدولي، ووزارة تنمية المجتمع، وعدد من المنظمات الإنسانية والخيرية الإماراتية. وقد دفعت هذه الجهود الإغاثية منظمة الأمم المتحدة للإشادة بعطاء دولة الإمارات الإنساني، وأنه “جاء في توقيت مهم وحساس لإنقاذ حياة الكثيرين من متضرري الزلزال”.

ولا شك أن هذا التضامن الإنساني من دولة الإمارات تجاه تركيا يُسهم في تعزيز العلاقات بين الدولتين والشعبين. وقد أشاد الرئيس التركي أردوغان بالدعم الذي تقدمه دولة الإمارات إلى تركيا منذ اليوم الأول للزلزال.

وكان التوقيع على اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين دولة الإمارات وتركيا في 3 مارس إحدى ثمار هذا التقارب والتعاون. وقد أشار صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة إلى أن “توقيع الشراكة تجسيد للتطور الكبير والنوعي الذي شهدته علاقاتنا خلال الفترة الماضية .. وأنها تعبر عن الإرادة المشتركة لانطلاق مرحلة جديدة للعلاقات بين بلدينا في مختلف المجالات”.

مصر

لم تكن مصر أيضًا بعيدة عن تفعيل “دبلوماسية الإغاثة” تجاه منكوبي الزلزال في كل من تركيا وسوريا. وكان الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع نظيره التركي أردوغان لتقديم التعازي في ضحايا الزلزال، والإعراب عن استعداد مصر تقديم جميع أوجه المساعدة المطلوبة، كان هذا الاتصال فعلًا إنسانيًا ودبلوماسيًا؛ ترك تأثيره لدى الرئيس التركي الذي شكره على مشاعره الطيبة.

وهكذا خطت العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا خطوة جديدة؛ حيث قام وزير الخارجية المصري سامح شكري في 27 فبراير بأول زيارة لوزير مصري إلى تركيا منذ عشر سنوات، استقبله خلالها نظيره التركي مولود جاويش أوغلو في ميناء ولاية “مرسين” جنوب تركيا، وأعرب عن شكره لمصر – حكومةً وشعبًا – موضحًا أن مصر كانت من أوائل الدول التي بادرت في إرسال مساعدات إنسانية، مشيرًا إلى وصول سفينة المساعدات المصرية الثانية، فضلًا عن استقبال مساعدات أخرى من خلال الطائرات.

وصرح “جاويش أوغلو” أن بلاده سوف تفتح صفحة جديدة في علاقاتها مع مصر، وأعرب عن ثقته بأن تركيا ومصر ستعملان معًا لتعزيز علاقاتهما نحو الأفضل”. ومن جانبه أكد شكري أن بلاده “ستبقى بجانب شقيقتها تركيا، وأن العلاقات بين البلدين سترتقي لأفضل مستوى

أثمرت جهود مصر لتحقيق التضامن الإنساني مع متضرري الزلزال عن كسر حالة الجمود التي سادت عملية المباحثات الاستكشافية الرامية لتطبيع العلاقات المصرية – التركية، من خلال الإعلان عن تدشين مسار تشاوري مباشر بين البلدين.

ومن ثم، فإن ذلك المسار “سيكون هو الحَكَم في سرعة استعادة العلاقات وحيويتها”، حسب تصريح متحدث الخارجية المصري ويمكن حينها للعلاقات بين البلدين أن تتجاوز الأطر الأمنية إلى مستويات أوسع؛ من شأنها تفعيل الروابط المشتركة، بمختلف أنواعها، نحو تحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة.

انعكاسات جهود الإغاثة على السياسة الداخلية

من المعروف أن التوترات السياسية والدبلوماسية التي شهدتها علاقات تركيا مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو – منذ عام 2016 – قد تركت تأثيرات سلبية متراكمة؛ شوهت صورة الغرب لدى الرأي العام التركي. وجعلت طموحات الأتراك تتضاءل تدريجيًا في الانضمام إلى المجتمع الغربي، والاتحاد الأوروبي خاصة، مُحمّلةً بمشاعر النفور التي كرستها مواقف الدول الغربية وردود أفعالها تجاه سياسات تركيا الإقليمية والدولية.

وبات الرأي العام التركي يشعر بحالة متزايدة من عدم الثقة تجاه الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، وحلف الناتو، لا سيّما بعد اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية؛ فقد كشفت نتائج استطلاع رأي أجرته شركة Areda التركية في يونيو 2021 أن 70.4 % من الأتراك يرون القواعد العسكرية لحلف الناتو في تركيا باتت تمثل تهديدًا لهم، و78.3 % يعتقدون أن حلف الناتو لن يساند تركيا في أي حرب محتملة. وهذه بالطبع نسبة كبيرة، إلَّا أنها زادت بعد الحرب الروسية – الأوكرانية، وقد ظهر ذلك من خلال استطلاع رأي للشركة ذاتها في مارس 2022؛ حيث صرح 90.8 % من الأتراك أنهم يعتقدون بأن حلف الناتو لا يمكنه حماية تركيا.

وفي استطلاع رأي آخر أجرته شركة “متروبول” في مارس 2022 أيضًا، أظهرت النتائج ارتفاعًا في نسبة الأتراك الذين يرون أن الولايات المتحدة تُشَكّل أكبر تهديد لهم؛ حيث ارتفعت من 48.4 % في يناير 2022 إلى 51.7 % في مارس. وجاءت روسيا في المرتبة الثانية بين الدول الأكثر تهديدًا للأتراك بنسبة 19.4 % بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية، ويُذكر أنها كانت في المرتبة الثانية أيضًا قبل شهرين ولكن بنسبة ضئيلة هي 5.1 %.

وتشير نتائج هذه الاستطلاعات إلى التحول الواضح في رؤية الأتراك للاتحاد الأوروبي، فقد أعرب 64.7 % من الأتراك عن اعتقادهم أن الاتحاد الأوروبي لا يحترم معايير الديمقراطية، في حين كان 31.2 % فقط هم من يختلفون مع هذه الرؤية. ويدلل على ذلك التحول أيضًا الانخفاض الشديد في نسبة الأتراك الذين باتوا يرغبون في انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، من 75.9 % في عام 2005، إلى 49.4 % عام 2022.

وأكد تقرير التوجهات عبر الأطلنطي 2022 (Transatlantic Trends) الذي أصدره صندوق مارشال، فيما خلص إليه من نتائج وتوصيات، أكد أن ثمة أزمة ثقة متبادلة بين تركيا وحلفائها الغربيين، وأن أزمة الثقة هذه قد باتت واضحة أيضًا بين صانعي السياسة ومتخذي القرار. صحيحٌ أن المشكلات الموجودة بين تركيا وحلفائها يمكن حَلُّها، الواحدة تلو الأخرى، ومع ذلك يصعب القول إن العلاقات بينهما قد استقرت في وضعها الصحيح ما لم تتم إعادة تأسيس الثقة المتبادلة.

وتضمنت نتائج التقرير أيضًا أن الوضع الدولي، بعد الحرب الروسية – الأوكرانية، يزيد من حاجة الغرب إلى تركيا. وعند اتخاذ الخطوات اللازمة لتذليل العقبات أمام علاقات الاتحاد الأوروبي مع تركيا، والولايات المتحدة مع تركيا، ينبغي أن تكون مسألة بناء الثقة المتبادلة لدى الرأي العام عند كل الأطراف مسألة ذات أولوية.

ولعل جهود الإغاثة والمساعدات المادية والمعنوية التي قدمتها وستقدمها الدول الغربية إلى تركيا كانت تجسيدًا واقعيًا لاستراتيجية بناء الثقة لدى المجتمع التركي. فلا غرو أن رؤية الأتراك فرق الإنقاذ التي هُرعت لإغاثتهم من الولايات المتحدة ومختلف دول الاتحاد الأوروبي – لا سيّما اليونان – هذه الرؤية قادرة على تبديد المشاعر السلبية والمعادية للغرب التي تفاقمت في السنوات الأخيرة.

الخلاصة

أسهمت جهود “دبلوماسية الإغاثة” التي قامت بها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأرمينيا ودولة الإمارات ومصر في حلحلة بعض القضايا الخلافية، وفتح المجال أمام حوار هادئ تجاه القضايا المعقدة. غير أن احتمالية التوصل إلى نتائج إيجابية وحلول مُرضية لكل الأطراف ستكون مقصورة على القضايا التي تمثل مصالح استراتيجية أو اقتصادية مشتركة، أمّا القضايا الخلافية التي تعتبرها تركيا تهديدًا لأمنها القومي، فليس من المنتظر استمرار حالة الهدوء تجاهها فترة طويلة، مثل: “تسلح الجزر اليونانية في بحر إيجه”، و”الدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردية” في شمال سوريا.