يتقلب المسار الديمقراطي في إفريقيا على مدار السنوات الثلاث الماضية، بدءًا من الاحتجاجات في إيسواتيني للمطالبة بإنهاء النظام الملكي المطلق، ونجاح التداول السلمي للسلطة في زامبيا، والانقلابات العسكرية في السودان ومالي وغينيا وبوركينا فاسو، إلى جانب محاولات انقلاب فاشلة في دول أخرى مثل النيجر وغينيا بيساو وساوتومي وبرينسيبي.
وقد تركزت معظم الجهود على الانتخابات العامة والمشاركة السياسية متعددة الأحزاب والحريات السياسية لتقييم الحالة السياسية والتطورات الديمقراطية في إفريقيا. وعلى هذا المنوال تتناول هذه الورقة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في نيجيريا التي تعتبر أكبر دول إفريقيا سكانًا وواحدة من أكبر الديمقراطيات في العالم، كما تتطرق إلى الانتخابات العامة التي أجريت في عام 2022 في كينيا والسنغال وأنغولا وغينيا الاستوائية بهدف استخلاص بعض التطورات والدروس المستفادة منها.
رئاسيات 2023 النيجيرية
لم تمنع الإخفاقات إشادة البعض بنيجيريا بسبب استمرار الحكم المدني الديمقراطي وتعاقب الحكومات عبر الانتخابات الوطنية منذ أن سلَّم الجيش السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة في عام 1999؛ الأمر الذي مهد الطريق أمام أطول حكم مدني غير منقطع منذ استقلال نيجيريا في عام 1960.
وقد كان الاعتقاد السائد أن نجاح الديمقراطية في نيجيريا قد يلهم تبني عمليات الدمقرطة في الدول المجاورة لها وعبر القارة نظرًا للتأثير الذي تحظى به نيجيريا في إفريقيا والعالم؛ حيث تحتاج البلاد نظام حكم قويًّا من أجل دعم احتياجات سكانها مما يعزز التقدم في جميع أنحاء القارة، وخاصة أن هناك توقعات بأن تصبح ثالث أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان بحلول عام 2050.
وقد أجرت نيجيريا انتخاباتها العامة في يوم 25 فبراير/شباط الماضي (2023)؛ حيث أدلى ملايين النيجيريين بأصواتهم لانتخاب رئيسهم الجديد ونائبه وأعضاء مجلسي الشيوخ والنواب. واحتدمت المنافسة في هذه الانتخابات التي لم يشارك فيها الرئيس الحالي "محمد بخاري" الذي تنتهي مدة ولايته الدستورية المحددة بفترتي ولاية رئاسية مدة كل منهما أربع سنوات. وفي يوم 1 مارس/آذار 2023، أعلن "محمود يعقوبو" رئيس المفوضية الانتخابية فوز "بولا تينوبو" من حزب "مؤتمر الجميع التقدميين" (All Progressives Congress) الحاكم بالرئاسة النيجيرية بحوالي 36.61% من الأصوات (أو 8.794.726 صوتًا)، وحصل منافسه الرئيسي "أتيكو أبو بكر" من "حزب الشعب الديمقراطي" (Peoples Democratic Party) على 29.07% من الأصوات (أو 6.984.520 صوتًا)، و25.40% لـ"بيتر أوبي" من "حزب العمل" (Labour Party) (أو 6.101.533 صوتًا).
ومع ذلك، زعم المرشحان المعارضان -"بيتر أوبي" و"أتيكو أبو بكر"- أن هذه الانتخابات مزورة لصالح "تينوبو" -مرشح الحزب الحاكم- متجهَيْن إلى المحكمة للطعن في نتائجها. واتهما المفوضية الانتخابية بالقصور عن تحقيق الأهداف السامية التي حددتها لنفسها بشأن استخدام التكنولوجيا الجديدة المعروفة بـ"نظام اعتماد الناخبين ثنائي الوضع" (Bimodal Voter Accreditation System) وتخلفها عن رفع النتائج مباشرة من مراكز الاقتراع إلى المنصة الإلكترونية العامة التابعة للمفوضية الانتخابية والمعروفة اختصارًا باسم " INEC Result Viewing" أو "IReV".
ويدعم مزاعم المعارضين بيان عدد من المراقبين المحليين والدوليين الذي ذكر أن الانتخابات "لم ترْقَ إلى مستوى التوقعات المعقولة للمواطنين النيجيريين" الذين أبدوا استياءهم من عملية التصويت وإجراءات إعلان النتائج. كما كانت نسبة المشاركة منخفضة لأسباب شملت تأخر فتح العديد من مراكز الاقتراع والهجوم على أنصار الأحزاب السياسية لمنعهم من التصويت لمرشحيهم ونقص المواد اللازمة التي يحتاجها مسؤولو الانتخابات وفشل أجهزة التكنولوجيا الجديدة. وكل هذه التطورات تلقي بظلالها على حفل تنصيب "تينوبو" المتوقع في 29 مايو/أيار القادم.
وقد أتت هذه الانتخابات بتغييرات جديدة؛ إذ المرشحان الرئاسيان الأولان –"بولا تينوبو" و"أتيكو أبو بكر"– معروفان في السياسة النيجيرية. وفازا بأغلبية الأصوات في 12 ولاية لكل منهما مع خسارة حزبيهما لبعض مناطق قوتهما لصالح حزب ثالث وقوة سياسية جديدة، بل خسر الحزب الحاكم ولاية لاغوس (موطن تينوبو مرشح الحزب الحاكم) ومنطقة العاصمة الاتحادية لنيجيريا (أبوجا) لصالح "بيتر أوبي" من "حزب العمل المعارض"، كما خسر الحزب الحاكم أيضًا ولاية كتسينا (مسقط رأس الرئيس بخاري) لصالح "أتيكو أبو بكر" من الحزب المعارض الرئيس.
أما المرشح الثالث "بيتر أوبي"؛ فهو رجل الأعمال والحاكم السابق لولاية أنامبرا جنوب شرقي نيجيريا، وقد انضم إلى "حزب العمل"، في مايو/أيار 2022، بعدما تأكد من صعوبة حصوله على التذكرة الرئاسية تحت حزبه السابق -"حزب الشعب الديمقراطي"- المعارض الرئيس. وتمكن تحت حزبه الجديد -"حزب العمل"- من حشد أصوات الشباب والسيطرة على المشهد السياسي في وقت قصير وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، مع خطابات جذب من خلالها الشباب والمجتمعات الفقيرة، بالإضافة إلى الدعم من شخصيات وطنية ومجتمعات الأعمال التي تهيمن عليها إثنية إيبو التي ينتمي إليها "بيتر أوبي". وساعده أيضا التصور العام بأنه لا ينتمي إلى الشبكات السياسية التقليدية في نيجيريا مع حفاظه على سمعته بالكفاءة والشفافية وعدم الخضوع لنفوذ العرَّابين السياسيين النيجيريين.
انتخابات 2022 العامة في دول إفريقية أخرى
كان أمل الكثيرين في انتخابات عدد من الدول الإفريقية في عام 2022 أن نجاح هذه العملية ونزاهتها وسلميتها سيعزز التراجع الديمقراطي في عدة مناطق في القارة. ومن بين هذه الانتخابات المهمة ما وقعت في أنغولا وكينيا اللتين أجرتا الانتخابات العامة بما في ذلك الرئاسية، بالإضافة إلى السنغال التي جرت فيها الانتخابات المحلية والوطنية.
ففي السنغال التي طالما تعتبر منارة للديمقراطية في غرب إفريقيا؛ توجه الناخبون، في يوليو/تموز 2022، إلى مراكز الاقتراع لانتخاب 165 عضوًا في البرلمان. ورغم مشاركة ثماني تحالفات سياسية رئيسية فيها إلا أن تحالفين فقط تمكنا من البروز والفوز بعدد مقاعد ملحوظة، وهما: التحالف الحاكم "بينو بوك ياكار" (Benno Bokk Yaakaar) بقيادة حزب الرئيس الحالي "ماكي سال"، و"حزب التحالف من أجل الجمهورية". وقد خسر "بينو بوك ياكار" المدن الكبرى في الانتخابات البلدية والإقليمية والعمدة قبل ستة أشهر من انتخابات يوليو/تموز 2022. والتحالف الثاني هو "يوي أسكان وي" (Yewwi Askan Wi) الذي يقوده "عثمان سونكو" والمكون من مجموعتين معارضة. وقد فاز هذا الائتلاف بأغلبية ساحقة في الانتخابات.
وقد اتسمت فترة الحملة الانتخابية السنغالية بالتوتر وانخفاض نسبة التصويت إلى حوالي 46%، بالإضافة إلى دعوات المعارضة لتأمين الأصوات في مناطق إستراتيجية معينة. كما أن ضعف أداء التحالف الحاكم في الانتخابات يعني تلقائيًّا تراجع الدعم الذي كان يحظى به الرئيس "ماكي سال" المتهم بمحاولة الترشح لولاية رئاسية ثالثة في عام 2024 وقمعه للمعارضة وفشله الملحوظ في تحسين سبل العيش الاقتصادية للنسبة الكبرى من المواطنين.
وعلى عكس السنغال، غالبًا ما توصف أنغولا بأنها دولة "استبدادية" ذات حزب واحد، وقد أجريت فيها الانتخابات العامة في 24 أغسطس/آب 2022 لانتخاب الرئيس والجمعية الوطنية. وكانت "الحركة الشعبية لتحرير أنغولا" (Movimento Popular de Libertação de Angola) هي الحزب الوحيد الذي يحكم البلاد منذ حصولها على استقلالها عن البرتغال في عام 1975. وجاء مرشح الحزب -الرئيس المنتهية ولايته "جواو لورنسو"- إلى السلطة في عام 2017 وسط ضجة كبيرة وتوقعات بشأن فرض إصلاحات سياسية بعد عقود من سيطرة سلفه "خوسيه دوس سانتوس".
ومثل الانتخابات في نيجيريا والسنغال؛ واجه حزب "الحركة الشعبية لتحرير أنغولا" الحاكم تحالف معارضة تشكل حديثًا باسم "الجبهة الوطنية المتحدة" (Frente Patriótica Unida) بقيادة "كوستا جونيور" من "الاتحاد الوطني للاستقلال التام لأنغولا" (União Nacional para a Independência Total de Angola)؛ الأمر الذي جعلها أكثر الانتخابات احتدامًا في تاريخ أنغولا بالرغم من أن الحزب الحاكم فاز فيها مما منح الرئيس "جواو لورنسو" ولاية ثانية. وبحسب النتائج الرسمية فاز الحزب الحاكم بنسبة 51.17% من الأصوات، بينما فاز "الاتحاد الوطني للاستقلال التام لأنغولا" -حزب المعارضة الرئيسي- بـ 43.95% من الأصوات.
وفي 9 أغسطس/آب 2022، أجرت كينيا ثالث انتخاباتها العامة ورابع انتخاباتها الرئاسية منذ إصدار دستور 2010. وأعلنت المفوضية الانتخابية فوز نائب الرئيس "وليام روتو" بالرئاسيات بحصوله على حوالي 50.5% من الأصوات، بينما حصل رئيس الوزراء السابق وزعيم المعارضة المخضرم "رايلا أودينغا"، الذي أيده الرئيس المنتهية ولايته "أوهورو كينياتا"، على 48.8% من الأصوات، مع انخفاض نسبة الإقبال على التصويت إلى حوالي 65% بينما كان 80% في الانتخابات الرئاسية السابقة. وقد طعن مؤيدو "رايلا أودينغا" وبعض أفراد مفوضي الانتخابات في هذه النتيجة التي جاءت أيضًا خلاف توقعات الذين رأوا صعوبة فوز "روتو" بسبب خلافه مع رئيسه، "أوهورو كينياتا". بالإضافة إلى أن الفائز -"روتو"- لم يكن من إثنية كيكويو ذات الأغلبية في كينيا من حيث العدد والتي ينتمي إليها الرئيس السابق، "أوهورو كينياتا".
أما الانتخابات العامة، التي أُجريت في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، في غينيا الاستوائية؛ فهي لم تأتِ بجديد حيث خالفت نتائجها الاتجاهات في الدول الإفريقية سابقة الذكر؛ إذ حصل الرئيس "تيودورو أوبيانغ نغيما مباسوغو" على دعم ائتلاف من 15 حزبًا، بما في ذلك "الحزب الديمقراطي لغينيا الاستوائية" (Partido Democrático de Guinea Ecuatorial) الحاكم الذي كان الحركة السياسية الشرعية الوحيدة في البلاد حتى عام 1991، وفاز بجميع المقاعد في الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ في الانتخابات الأخيرة. وبحسب النتائج الرسمية، أعيد انتخاب "أوبيانغ" لولاية سادسة رئيسًا للبلاد بنسبة 94.9% من الأصوات، وبلغت نسبة المشاركة 98%، وهو ما يعني أن الرئيس "تيودورو" سيقضي سبع سنوات أخرى في المنصب الرئاسي الذي يشغله منذ استيلائه على السلطة في انقلاب عام 1979.
ماذا علَّمتنا هذه الانتخابات؟
هناك دروس كثيرة ونقاط مثيرة من الأمثلة والنماذج السابقة للانتخابات الإفريقية بين عامي 2022 و2023، ويمكن استخلاصها في التالي:
أ- أنظمة الحكم السياسية: يمكن وصف أنظمة الحكم الحالية في إفريقيا بأنها "هجينة" بسبب السمات العامة التي تتميز بها، مثل: السياسة الشعبوية وعمليات صنع القرار المبهمة والقيادة القوية غير الخاضعة للمساءلة والهياكل الديمقراطية الهشة وارتفاع مستوى الفساد والمحسوبية وضعف قدرة الدولة وعدم الاستقرار الذي يكون في بعض الوقت نتيجة الاحتجاجات أو الضغوط الديمقراطية. وقد أدى وجود هذه السمات في دول إفريقية تتبنى نظام حكم ديمقراطيًّا إلى اعتبار بعض المنظِّرين السياسيين الديمقراطيةَ الإفريقية "زائفة"؛ لأن الأحزاب السياسية الحاكمة تحافظ من خلال هذه الديمقراطية المزعومة على سيطرة صارمة على السياسة الوطنية من خلال التلاعب بالدساتير والمؤسسات الحكومية الأخرى لاستغلال تدهور الأوضاع ومضايقة المعارضين وتطويق المجتمعات المدنية.
ومن خلال التطورات السياسية الأخيرة في إفريقيا يتضح أن ما يحدد أفضلية أنظمة الحكم لدى الأفارقة هو ما تقدمه هذه الأنظمة من إنجازات اقتصادية ومعيشية واستقرار سياسي واجتماعي وأمني والخضوع العادل للمساءلة القانونية. وقد يؤشر أيضًا نجاح العمليات الانتخابية في الآونة الأخيرة واستمرار المشاركة الوطنية في التصويت إلى أن عددًا من الأفارقة يفضلون أنظمة الحكم الديمقراطية على أشكال الحكم الأخرى وأنهم أصبحوا يعتبرون الانتخابات آلية لا غنى عنها لتحديد مسارهم المستقبلي، وهو ما يجعل الأنشطة الانتخابية أهم حدث في إفريقيا اليوم رغم فشل معظم هذه الانتخابات في دفع عجلة التغيير المأمول منذ قرابة 32 عامًا من عصر الانتخابات متعددة الأحزاب في القارة.
ب- تغير المشاهد السياسية: بناء على نتائج الانتخابات في العامين الماضيين بمختلف الدول الإفريقية؛ يمكن القول: إن المشاهد السياسية تتغير، وخاصة في دول مثل أنغولا والسنغال ونيجيريا؛ إذ في أنغولا وقع زلزال سياسي عبر انتخاباتها الأخيرة حيث شهد الحزب الحاكم الحالي -"الحركة الشعبية لتحرير أنغولا"- انخفاضًا في حصته التصويتية من 61% في انتخابات 2017 إلى 51.17%، وهو أفقر أداء للحزب منذ عام 2008 عندما كان أعلى مستوياته عند 81.6 %.
وفي رئاسيات نيجيريا الأخيرة شهد حزب "مؤتمر الجميع التقدميين" الحاكم أسوأ أدائه؛ حيث فاز الحزب بـ 37% فقط من إجمالي الأصوات العامة، بعدما حصل على 56% في رئاسيات 2019 و53% في عام 2015. بل وتمكن "حزب العمل" المعارض -الذي لم يكن له أثر حقيقي في السياسة النيجيرية قبل 2022- من الفوز بأغلبية الأصوات في لاغوس -العاصمة الاقتصادية لنيجيريا وموطن قوة الحزب الحاكم- وفي أبوجا -منطقة العاصمة الفيدرالية التي فاز فيها الحزب الحاكم في 2019 و2015، وهو تطور مشابه بنتائج انتخابات أنغولا في عام 2022 عندما أطاح الناخبون الشباب بالحزب الحاكم في مقاطعة لواندا (التي تشمل لواندا عاصمة أنغولا) بعد قرابة خمسة عقود في السلطة.
من جانب آخر؛ تمثل نتائج الانتخابات بين 2022 و2023 في دول إفريقية مختلفة صدمة لمعظم الأحزاب المهيمنة والنخب الحاكمة؛ ففي نيجيريا -مثل أنغولا تمامًا- دخل الحزب الحاكم الانتخابات الأخيرة بيقين من الفوز رغم الانقسام الداخلي والنزاع بين بعض أعضاء الحزب بشأن بعض القضايا الوطنية، مثل الخلاف حول تذكرة مسلم-مسلم في نيجيريا (أي إن المرشح الرئاسي ونائبه مسلمان مما يخالف صفقة عام 1998/1999)، وقضية موت الرئيس "دوس سانتوس" ودفنه في أنغولا.
ج- دور القضايا الوطنية الحساسة: يُظهر حصاد الحملات الانتخابية والنتائج أن القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية بدأت تؤدي دورًا بارزًا في تقرير نتيجة الانتخابات وتفضيلات الناخبين وخاصة الشباب. وعلى سبيل المثال، لم تحمِ مكانة نيجيريا كأكبر اقتصاد في القارة الإفريقية من الأزمات الأمنية والسياسية الخطيرة، بالإضافة إلى التحديات الاقتصادية، مثل التضخم وأزمة غلاء تكاليف المعيشة التي أجبرت الأطباء وغيرهم من المهنيين الشباب على مغادرة البلاد بحثًا عن فرص أفضل في دول أجنبية.
وكان الانطباع السائد في نيجيريا أن معظم الأزمات التي تواجه البلاد يمكن تفاديها. وخير مثال على هذا ما حدث في فبراير/شباط 2023 عندما ألغى البنك المركزي التعامل بالأوراق النقدية القديمة من فئة 1000 و500 و200 نايرا (العملة الوطنية) دون توزيع النسبة الكافية من الأوراق النقدية الجديدة على مستوى جميع البلاد؛ مما تسبب في نقص نقدي حاد في دولة تعتمد النسبة الكبرى من مواطنيها على التعاملات النقدية الورقية. وزادت هذه الخطوة من الإحباط والغضب والاحتجاج من جانب النيجيريين العاديين الذين لم يعد بإمكانهم دفع فواتيرهم الطبية وشراء المستلزمات الغذائية، بينما كان موقف الحكومة من هذه الخطوة هو أن تغيير الأوراق النقدية سيخفض من شراء الأصوات في الانتخابات الأخيرة وسيقلِّل التزوير واكتناز النقود في البيوت من قبل السياسيين.
د- عنف ما بعد الانتخابات: شهدت معظم الانتخابات الأخيرة أعمال عنف أثناء عملية التصويت في مراكز مختلفة ضد الناخبين وبين وكلاء الأحزاب وضد مسؤولي المفوضية الانتخابية. ومع ذلك يُلاحَظ قلة العنف ما بعد الانتخابات -ولو نسبيًّا- مقارنة بالانتخابات السابقة. وقد يعود السبب إلى تزايد الاعتماد على المحكمة لمعالجة المظالم والخلافات المرتبطة بالعملية الانتخابية. وهذا يعني ضرورة عدم انحياز المحاكم وبذل الجهود في تفادي كل ما يجعل المواطنين ينظرون إلى الوكالات الوطنية والمؤسسات الديمقراطية كأداة في يد الأحزاب الحاكمة. ويعزز هذا توجه معظم الأحزاب السياسية المعارضة في كينيا ونيجيريا وأنغولا وغيرها إلى المحكمة أثناء فرز الأصوات وفور إعلان النتائج لإبداء امتعاضها من سيرورة العملية الانتخابية أو لتقديم حجج على عدم نزاهتها وتزويرها.
جدير بالذكر أنه رغم التوجه نحو المحاكم لا يزال بعض مواطني الدول الإفريقية يعتبرون المفوضية الانتخابية في بلادهم متحيزة لصالح الحزب الحاكم وأن مرشحيهم لم يُعطَوا حقهم من الأصوات؛ الأمر الذي أدى في انتخابات كينيا لعام 2022 إلى امتناع بعض الكينيين عن الخروج للتصويت لأنهم في المرات السابقة صوَّتوا للزعيم المعارض "رايلا أودينغا" وأتت النتائج خلاف توجهات الحركات الوطنية الداعمة له في ظل وجود مزاعم عن التزوير.
هـ- تزايد قوة الحركات المعارضة الجديدة: مما يبدو في الانتخابات الإفريقية الأخيرة أن الحركات المعارضة الجديدة تزداد قوة وإستراتيجية في أنشطتها بخلاف المعارضة التقليدية؛ إذ في نيجيريا مثلًا يعتبر "حزب الشعب الديمقراطي" المعارض الرئيس ذا خبرات ونفوذ سياسي بموجب حكمه لنيجيريا بين 1999 و2015 واحتلال أعضائه مقاعد كثيرة في الجمعية الوطنية. ومع ذلك، فشل الحزب منذ خسارته رئاسة 2015 في أداء دوره كمعارض حقيقي قادر للضغط على الحزب الحاكم أو ترسيخ قاعدة دعمه عبر المبادئ ودعم القضايا الوطنية. وفي المقابل، استفاد "حزب العمل" خلال شهور قليلة فقط من فشل إدارة الرئيس "بخاري" وإخفاقاته، كما استثمر قضية احتجاجات "Endsars" ضد وحشية الشرطة في عام 2020 في كسب دعم الشباب النيجيريين.
ويمكن القول أيضًا: إنه في حين أن انتخابات 2022 في كينيا أحدثت تغييرًا سياسيًّا في شكل فوز "وليام روتو" رغم كل الصعاب؛ فإن حالتي الانتخابات العامة، في أغسطس/آب 2022، بأنغولا، وفبراير/شباط 2023، في نيجيريا، مختلفتان حيث لم تُحدثا تغييرًا سياسيًّا ولكنهما أثارتا التفاؤل بشأن احتمالات المنافسة السياسية في المستقبل. بل في حالة نيجيريا أصبح "حزب العمل" المعارض قوة ثالثة تنافس الحزبين السياسيين المهيمنين في السياسة النيجيرية منذ العودة إلى الحكم المدني والديمقراطي في عام 1999.
و- تراجع نسبة المشاركة الانتخابية: كشفت هذه الانتخابات الأخيرة اتجاهًا خطيرًا متمثلًا في تراجع نسبة المشاركة الانتخابية والإقبال على التصويت، وهي حالة استفادت منها جميع الأحزاب السياسية المهيمنة والنخب الحاكمة. ففي انتخابات كينيا، كانت نسبة الإقبال حوالي 65% من 22.12 مليون ناخب مسجل للإدلاء بأصواتهم، وهو انخفاض من انتخابات 2017 التي سجلت 79.51%. وفي أنغولا ارتفع معدل الامتناع عن التصويت إلى 55.17% إلى جانب الانخفاض في إقبال معظم المغتربين على الرغم من السماح لهم بالتصويت للمرة الأولى في انتخابات البلاد.
بل الوضع أسوأ في نيجيريا؛ إذ سجلت المفوضية الانتخابية إضافة ما يقرب من 10 ملايين ناخب جديد إلى القوائم الانتخابية مما جعل إجمالي الناخبين المسجلين ما يقرب من 94 مليون شخص، كما حصل 87.2 مليون شخص على بطاقة الناخبين الدائمين للمشاركة في انتخابات 2023. ومع ذلك، كان العدد الإجمالي للناخبين الفعليين في يوم الانتخابات 24.9 مليونًا فقط. هذا رغم التفاؤل الذي رافق الإصلاحات الانتخابية الجديدة في البلاد والمستويات العالية من حماس الناخبين، وخاصة الشباب الذين ارتفعت معدلات تسجيلهم ويعتبرون الفئة الديمغرافية الرئيسية في نيجيريا باعتبار أن متوسط العمر فيها هو 18 عامًا فقط.
ز- تنافسية الانتخابات: إذا كانت الانتخابات العامة في دول إفريقية مختلفة بين عامي 2022 و2023 هي الأكثر تنافسية من الانتخابات التي سبقتها؛ فإن هذه الانتخابات أظهرت أيضًا أن هناك بداية لتوافر الخيارات المتعددة بين مواطني هذه الدول مقابل الحالة السابقة حيث لم يكن لدى الناخبين الكثير من الخيارات أثناء الانتخابات. وعلى سبيل المثال، عكست الانتخابات التشريعية لعام 2022 في السنغال قدرة المعارضة والناخبين على دعم الديمقراطية وتضييق الخناق على الرئيس "ماكي سال" بسبب طموحاته لتمديد فترة بقائه في السلطة والترشح لولاية رئاسية ثالثة.
وفي نيجيريا، ورغم أوجه القصور في الانتخابات الأخيرة إلا أنها أسفرت عن بعض النتائج الإيجابية؛ إذ للمرة الأولى في تاريخ البلاد قدم مرشح رئاسي من حزب ثالث أداء جادًّا، كما أنه لم يشارك أي جنرال عسكري سابق في التنافس على الرئاسة بخلاف الانتخابات السابقة منذ عام 1999. إضافة إلى أن معظم المرشحين الرئاسيين فازوا في بعض الولايات النيجيرية التي لا تحكمها أحزابهم، وهو تطور جديد قد يعني للانتخابات القادمة أن لا ضمانات لشاغلي الوظائف أو المقاعد القديمة.
ح- الانتماء الإثني والسياسة الهوياتية: من الواضح أيضًا أن قضية الإثنية والسياسة القائمة على الهوية لا تزال بارزة في السياسة الإفريقية، كما انعكست في خطوط الدعم والتصويت في الانتخابات الأخيرة في كينيا ونيجيريا. وفي حالة نيجيريا كان لإثنية الرئيس ونائبه أهمية بسبب بعض الفاعلين السياسيين الذين يستولون على سلطة الدولة ويستخدمونها لتعزيز أجندة إثنياتهم أو رفاهية المنتمين إلى دينهم. وقد كان الانتماء الإثني والديني من بين الوسائل الفعالة لتأمين الدعم والأصوات من مختلف الأقاليم والجماعات.
وقد حاولت النخبة السياسية النيجيرية في عامي 1998/1999 معالجة هذه القضية من خلال تبني صفقة تناوب السلطة كل ثماني سنوات بين الأقاليم والأديان المختلفة لتحسين شمولية مجموعات الأقليات وتفادي الصراعات. ولكن السياسيين تخلوا مؤخرًا عن هذه الصفقة بعدما قرر "حزب الشعب الديمقراطي" ترك تذكرته مفتوحة لجميع أعضائه رغم أن الدور الرئاسي للجنوب. وكانت النتيجة أن انتزع مسلم شمالي آخر -أتيكو أبو بكر- تذكرة الحزب الرئاسية بعد ثماني سنوات من رئاسة مسلم شمالي -محمد بخاري- لنيجيريا. هذا إلى جانب خطوة حزب "مؤتمر الجميع التقدميين" الحاكم الذي رشح مسلمَين -بولا تينوبو ونائبه كاشم شيتيما- متجاهلا الصفقة التي تنص على أن يكون الرئيس ونائبه من ديانتين مختلفتين.
ط- تضاؤل دور المؤسسات الديمقراطية: يعتمد العديد من الأنظمة السياسية في عدة دول إفريقية -وخاصة تلك التي يستشري فيها الفساد وتتركز معظم السلطة في يد الحاكم- على عملية الانتخابات وإرادة الفائز في مواصلة الإصلاحات الديمقراطية. وإذا كان من العوامل التي تحدد عملية التحول الديمقراطي: دخل الفرد والتعليم ووجود مؤسسات الدولة المناسبة وازدهار المجتمعات المدنية المستقلة -مثل النقابات العمالية والإعلام الحر وغيره- فإن دور معظم هذه العوامل يشهد تراجعًا ملحوظًا في دول مختلفة، بما في ذلك غينيا الاستوائية التي كانت نتيجة انتخاباتها لعام 2022 متوقعة لضعف المعارضة السياسية واختفاء أثرها في سياسة البلاد.
بل كان المعتاد في الانتخابات بغينيا الاستوائية أن يفوز الرئيس "أوبيانغ" البالغ من العمر 80 عامًا ويعاد انتخابه رسميًّا بما لا يقل عن 93% من الأصوات؛ إذ فاز في عام 2016 بنسبة 93.7% من الأصوات، وفي عام 2009 بنسبة 95.8% من الأصوات، وفي عام 2002 بنسبة 97.1%. وتؤشر مساعيه للقضاء على أي منافس سياسي إلى أنه يمهِّد الطريق أمام خلافة ابنه "تيودورين"، نائب الرئيس الحالي، وخاصة أنه في عام 2018 حلَّت المحاكم حزب المعارضة الرئيسي -"مواطنون من أجل الابتكار" (Citizens for Innovation)- بتهمة "تقويض أمن الدولة" وحكمت على 21 من مؤيدي الحزب بدعوى "التمرد" بالسجن لأكثر من 30 عامًا.
خاتمة
مما سبق اتضح أن إجراء الانتخابات واستمرارها معيار مهم في التطور الديمقراطي، ولكن العمل الحقيقي لبناء المؤسسات الديمقراطية يحدث بين الانتخابات وبعد الأسابيع والأشهر المقبلة بعدها. وفي حالة نيجيريا تُمكِّن الانتخابات الناجحة من التصحيح الذاتي السياسي، وتسمح للحكومة بالاستجابة لاحتياجات المواطنين، وتعزز قدرتها على النمو والمرونة في مواجهة التغيير عبر الدولة والإقليم القارة والعالم.
وأخيرًا، لا يمكن تجاهل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تنتظر الحكومات الجديدة في مختلف الدول الإفريقية وكيف ستعالج الجوانب التي فشلت فيها سابقتها أو المجالات لم تتمكن من إحداث تغيير حقيقي فيها، مثل تقليل الاعتماد على واردات المنتجات الأساسية ومعالجة قضايا ارتفاع معدلات البطالة والتضخم وضعف الخدمات الاجتماعية والانقطاع المتكرر للطاقة الكهربائية وأزمة الأمن والإسكان والفساد وارتفاع نسبة الفقر.