مقدمة
بين الشدّ والجذْب، والمد والجزر، تتحرك العلاقات الجزائرية – الفرنسية في فضاء العلاقات الدولية، مراهِنة على تغير يقلل من حمولة ترِكة الماضي بالنسبة إلى فرنسا، ويحقق اعترافًا بجرائم العهد الاستعماري يفضي إلى عدالة، حتى لو كانت منقوصة – بالنسبة إلى الجزائريين- الأمر الذي جعل الدولتين على مدار ستة عقود خلت، تحت سيطرة – شبه مطلقة – للتاريخ، ليس فقط لكونه مَثل ذاكرة مشتركة بينهما، باعتبارها ماضيًا له ظروفه الخاصة في سياقاته التاريخية والجغرافية، وإنما لكونه يؤثر في الأجيال، ويوجه صانعي القرار داخل البلدين في مختلف المجالات.
حُمُولة الماضي المشترك بين الدولتين والشعبين، لن تحول دون الوصول إلى تعاون في الجانب العملي، كما سنرى لاحقًا، رغم الصدام الثابت من ناحية المبدأ، خاصة بالنسبة إلى الطرف الجزائري، كما هو واضح في الخطابين السياسي والإعلامي، والمقصود هنا تحديدًا، الحديث عن”المظلومية” المطروحة من طرف الجزائريين، حيث المطالبة المتواصلة بـ “اعتراف” فرنسا بجرائمها في بلادهم خلال 132 سنة من “الاستعمار”، ثم ”الاعتذار“، وصولًا إلى ”التعويض”، وتلك المطالبة لا تزال محل رفض من أطراف فرنسية فاعلة، خاصة اليمين المتطرف.
ذلك النقاش التاريخي- إن جازت التسمية- يسْحَبُ الجزائر وفرنسا معًا نحو الماضي بكل ما فيه من أوجاع وتضحيات بالنسبة إلى الجزائريين، وبكل ما فيه من خسارة مادية حسبتْها فرنسا حقها المشروع في الماضي، تحنّ، بل وتسْعى، إلى تحقيق بعض منه- حتى لو كان قليلًا في الوقت الراهن عبر الصفقات، لذلك لا يمكننا النظر إلى العلاقة بين الدولتين في حاضرهما ومستقبلهما بمعزل عن الإرث التاريخي المشترك، أو ما يسمى من الطرفين بـ”ملف الذاكرة”، حيث عمل الكاتب والمؤرخ الفرنسي”بنجامين ستوراBenjamin Stora “ على محاولة طيِّه من خلال إحداث تقارب بين البلدين، وهو كما يقول صديقه المؤرخ والمناضل الوطني الجزائري “محمد حربي“: ”ستورا يفعل الكثير من أجل التقارب بين الجزائر وفرنسا، إنه يتحدث مع عظماء هذا العالم ويظل متحفظًا”.
القضايا.. والإشكاليات:
ومع ذلك كله، فإن استحضار ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا لا يعني الركون إليه وحده عند الحديث عن المصالح المشتركة بين الدولتين، ضمن علاقة تقوم على الندِّية، وإنما سنتطرق إلى جملة من القضايا الآنية التي تشمل عدة مجالات مفتوحة على نطاق واسع، ومتأثرة بالمواقف السياسية، وبتطور الأحداث على صعيد العلاقات البيْنية من جهة، وعلى صعيد العلاقات الدولية – سلمًا أو حربًا- من جهة ثانية. وتلك القضايا التي سيرد ذكرها وتحليلها لاحقًا، تمثل إشكاليات بالنسبة لهذه الدراسة، بحثًا عن معرفة دوافع الحاضر ورهانات المستقبل لتلك العلاقة، من خلال التأسيس لها عبر التساؤلات، والكشف عنها عبر شرح عملي للقضايا المختلفة.
وعلى خلفية ما سبق، تطرح هذه الورقة البحثية العلاقات الجزائرية – الفرنسية من منظور ما تحقق من نتائج تشِي، أو تَعِد، باستمراريةٍ تحملُ اتفاقات، وتعاونًا، وشراكة، بين البلدين لأجل تحقيق مصالح آنية فرضتها دوافع المرحلة الراهنة سواء أكانت محلية أو دولية – ضمن رهانات مستقبلية- مؤسسة على دروس الماضي ونتائج الحاضر. ولتوضيح ذلك – شرحًا ووصفًا واستنتاجًا- نحاول هنا طرح جملة من الإشكاليات، تضمنتها الأسئلة الآتية:
- ما الثابت، وما المُتغير في العلاقات الجزائرية – الفرنسية؟
- ما السبيل إلى حل القضايا الشائكة بين الدولتين؟
- لماذا انتقلت العلاقات الجزائرية – الفرنسية من التوتر إلى الانتعاش هذه الأيام؟
- ما مجالات التعاون بين الدولتين في الوقت الحاضر؟
- هل تشكل الاتفاقيات الأخيرة عبورًا نحو المستقبل؟
تُعدّ الأسئلة السابقة محاور أساسية لهذه الدراسة، يمكن أن تحدد لنا الإجابة عنها مسار العلاقات الجزائرية -الفرنسية في الوقت الحاضر، ومصيرها في المستقبل المنظور في مختلف المجالات، والتي هي في الغالب مرهونة بأمرين، الأول: التعامل مع التاريخ من حيث هو إرث مشترك بين الشعبين، والثاني: التبصر في الحاضر من زاوية المصالح المشتركة ين البلدين، خاصة في المجال الاقتصادي.
وستأتي الإجابات محملة بالشرح والتحليل، في خمسة محاور رئيسة، أولها: شكل العلاقات وجوهرها، وثانيها: المشكلات التي حالت دون قيام علاقة سوية، وثالثها: التغير الحاصل آنيًا في العلاقة بين الدولتين، ورابعها: مجالات التعاون في الحاضر، وخامسها: العبور إلى المستقبل، ويمكن تفصيل ذلك على النحو الآتي:
أولًا: العلاقات الجزائرية- الفرنسية: الثابت والمتغير:
منذ استقلال الجزائر في يوليو 1962 وإلى الآن، لم تنعم في علاقتها بفرنسا باستقرار يُغلب الثوابت على المتغيرات، مع أن المفروض أن تسير الدولتان نحو حالٍ من التقارب نظرًا إلى عمق الروابط الإنسانية والتاريخية بين البلدين، ولاشك أن مسؤولية ذلك تقع على القيادات المسؤولة في الدولتين، حيث لم تستطع فرنسا أن تقدم خطابًا سياسيًا، يُنْهي الجدل الدائر حول الاعتراف بجرائم ”فرنسا الاستعمارية” في الجزائر، ومن الطرف الجزائري، لم يتم النظر إلى الماضي من حيث تأسيسه للحاضر من منطلق أن ”الانتصار والاستقلال يجُبَّان ما قبلهما“.
ومع ذلك، فهناك مراحل من التاريخ، سعت فيها قيادات سياسية فرنسية – ولم توفق في الوصول إلى سدة الحكم- إلى طرح تصور جاد للعلاقة بين البلدين عبر وعود، على النحو الذي ذهبت إليه “سيغولين رويالSégolène Royal“(4) في رسالتها التي وجهتها للرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، حين اعتبرت احتلال فرنسا الجزائر (1830 – 1962)، بأنه “نظام هيمنة ونهب وإذلال”، وقالت شارحة: “أولويتي، إذا انتخبت، أن أرسي معكم أسس علاقة متينة بين بلدينا، لأنني أشعر حقًا أن بإمكاننا التحول بحزم إلى مستوى أعلى في علاقات التعاون التي تربطنا.. وأن العلاقات بين الجزائر وفرنسا الودية يجب أن تتطور في الثقة وأن تمتنها الصداقة.. ومن الضروري أن تتوصل باريس والجزائر إلى صياغة مشتركة للتاريخ تأخذ في الاعتبار تاريخنا المشترك”
لقد كانت رويال تتطلع إلى شراكة مع الجزائر تمثل مرجعًا في العلاقات بين الشمال والجنوب، وتنهي تصور اليمين الفرنسي القائل بأن هناك” جوانب إيجابية للوجود الفرنسي ما وراء البحار خاصة في شمال أفريقيا”(7)، وبعد سنوات عمق الرئيس إيمانويل ماكرون في خطابه عند ترشحه للرئاسيات من مد علاقات سلمية مع الجزائر تُنْهي التوتر، وتُحقق نوعًا من الثبات، وذلك أثناء زيارة قام بها إلى الجزائر في فبراير 2017″، سبَّب فيها صدمة للكثيرين في فرنسا عندما قال: إن استعمار فرنسا للجزائر، الذي استمر 132 عامًا، كان جريمة ضد الإنسانية”.
تلك الزيارة، وما تبعها من تصريحات جعلت السلطات الجزائرية ترى، وخاصة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، أن انتخاب إيمانويل ماكرون رئيسًا سيغير كثيرًا في سياسة فرنسا تجاه الجزائر.
من ناحية أخرى، اعتبرت الجزائر تلك الزيارة مدخلًا للعلاقة مع فرنسا، وأعيد التذكير بها في برقية التهنئة التي بعثها بها بوتفليقة إلى ماكرون بعد فوزه، إذ جاء فيها:” إن الزيارة التي قمتم بها حديثًا إلى الجزائر، في سياق انطلاق مسيرتكم الباهرة صوب تحقيق غايتكم الوطنية السامية، أضافت إلى الرصيد المشترك بين بلديْنا، موقفكم المبدئي المتميز بالإقدام السياسي والإخلاص الإنساني المنقطع النظير حيال الاستعمار وطبيعته التي لا تغتفر..” .
وبفوز ماكرون في الانتخابات الرئاسية، عوَّلت الجزائر على تغير في العلاقة، وانتظرت مد جسور نحوها في سياق الدور الفرنسي على المستوى العالمي، ولأول مرة ترى الجزائر الرسمية على لسان رئيسها، عبد العزيز بوتفليقة، أن فرنسا يمكن لها صناعة التاريخ المشترك، كما هو في قوله:” إن توفيق ماكرون سيكون توفيق فرنسا الصديقة في الإشعاع الذي ينتظره منها المجتمع الدولي بين الأمم، التي تتطلع إلى سلم وازدهار يشملان أجيال الحاضر والمستقبل عبر العالم“ .
لم يكن الخطاب الرسمي الجزائري مجاملة فرضها سياق معين من العلاقة بين البلدين، وإنما كان رهانًا حقيقيًا على الرئيس إيمانويل ماكرون في دفعه للمصالح المشتركة بين الدولتين، وتطويره للعلاقات الجزائرية- الفرنسية في المجالات المختلفة، مع التركيز على التهدئة والتعاون والشراكة، وحسمه لقضايا تاريخية ما تزال عالقة، وسعيه إلى تقارب في القضايا الشائكة في القارة الأفريقية، والتي تمس المصالح الجزائرية بشكل مباشر، وخاصة في دول الجوار- ليبيا ومالي- ومساعدته على تحسين علاقة الجزائر مع باقي دول الاتحاد الأوروبي.
تلك الأماني، أو التوقعات، الجزائرية لم تتحقق لثلاثة أسباب:
أولها: وجود الجزائر وفرنسا في زمنين مختلفين من ناحية السلطة – رغم أن عصرهما واحد- زمن جزائري أفَل صاحبه ومعه أفَل نظام الحكم وجعل الدولة في أزمة، الأمر الذي أدخل البلاد في حَراك أدى إلى إبعاد الرئيس بوتفليقة ونظامه من الحكم، وزمن فرنسي بزغَ نجم صاحبه، ومعه دخلت فرنسا في مرحلة الشباب من جديد، ورغم المشكلات التي واجهت ماكرون، والنقد الذي وُجه إليه فقد ترشح لفترة رئاسية ثانية وفاز بها.
ثانيها: عدم تعويل النظام الجزائري على جبهته الداخلية لجهة ترجيح الكفة لصالح الجزائر في علاقتها بفرنسا، مما شكك في كل الجهود المبذولة لتحقيق أي تقدم في العلاقة بين البلدين، حتى أنه أصبح” هناك شبه إجماع من الشباب، على أن السلطات الجزائرية مستمرة في تصدير الوهم للشعب، وأنها تُشهِد دول العالم على خيبتها في التسيير وفي الممارسة الديمقراطية، وأنها تكرس الخوف من احتمال عودة الإرهاب وتتغذى من وجوده على المستوى العالمي، وكلما دعا الشعب للتغيير قايضته بالأمن“.
ثالثها: رهان النظام الجزائري على الرئيس إيمانويل ماكرون، بناءً على تصريحاته أثناء حملته الانتخابية وما بعدها، ولم تكن تتوقع تراجعه، بل ذهابه إلى أبعد من ذلك، حين أدلى بتصريحات أحدثت أزمة بين فرنسا والجزائر، قال فيها على الخصوص:” إن الجزائر قامت بعد استقلالها العام 1962 على نظام “ريع الذاكرة” الذي كرسه النظام السياسي – العسكري فيها.. وإن ذلك النظام هو الذي أعاد كتابة التاريخ الاستعماري الفرنسي للبلاد، بمرجعية نابعة من الكراهية لفرنسا”، وقد اعتبر ذلك دعمًا لمواقف الأحزاب اليمينية الفرنسية، وتحضيرًا للحملة الانتخابية.
تلك التصريحات التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في أكتوبر 2021، أدت إلى توتر العلاقة بين الدولتين، وأعادت التأكيد على أن” ملف الذاكرة” بين البلدين هو” الثابت الوحيد” في العلاقة بينهما، وأن كل القضايا الأخرى تتأثر إيجابًا وسلبًا به، هذا في ظل سياستين مختلفتين حتى عندما يتم التقارب بينهما. فمن جهة أولى تسعى الجزائر لتقيم علاقة مع فرنسا على مستوى الشراكة، بحيث يمكن تغييرها عند الضرورة أو الاختلاف، ومن جهة ثانية تأمل فرنسا أن تكون الجزائر حليفةً لها في ظل التغيرات التي تجتاح العالم، وخاصة أوروبا، وهذا في إطار” رغبة فرنسا لإيجاد حليف، وليس شريكًا فقط”، كما أشارت إلى ذلك” دليلة غانم”.
ثانيًا: قضايا شائكة.. وسبيل الخروج:
اختلاف الدولتين حول العلاقة بينهما لجهة ثباتها في محطة” الشريك”- كما تريد الجزائر- أو تحولها إلى صيغة” حليف” كما تسعى لذلك فرنسا، يستند – كما سبق الذكر- إلى ملف الذاكرة، باعتباره قضية محورية لأي حوار سياسي- رسمي بين الجزائر وفرنسا- لأنه يؤثر على صانعي القرار في الدولتين. وينعكس ذلك على مختلف النخب (العسكرية، والسياسية، والثقافية)، ويحتوي على أربع ملفات تاريخية عالقة، هي محل تفاوض بين البلدين منذ سنوات، يمكن اختصارها في الآتي:
الأول: “الأرشيف الجزائري”، الذي ترفض السلطات الفرنسية تسليمه.
الثاني: “استرجاع جماجم قادة الثورات الشعبية” (موجودة بمتحف الإنسان بالعاصمة باريس).
الثالث:” تعويض ضحايا التجارب النووية”، التي أجرتها فرنسا في الصحراء الجزائرية بين عاميْ 1960 و1966.
الرابع: “استجلاء مصير المفقودين” خلال ثورة التحرير (1954-1962)، حيث طالبت الجزائر بقيادة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة”، بالكشف عن مصير 2200 جزائري تعرضوا للتصفية على يد الاستعمار، وتم إخفاء أماكن دفنهم”.
تلك الملفات، التي هي مطالب ثابتة، لم تتجاوب فرنسا إلا مع الثاني منها، حيث استعادت الجزائر رفات 24 من قادة المقاومة الشعبية ضد الاستعمار من فرنسا بعد 170 سنة، من احتجازها وعرضها في متاحف فرنسية مختلفة.
ومع هذا كله، فإن هذا الملف هو الأقرب إلى الحل مقارنة بغيره من ملفات أخرى تمثل قضايا شائكة، لأنها تتعلق بحاضر العلاقة ومستقبلها، منها ذات الصلة المباشرة بالشعبين، من مثل: مسألة التأشيرات الفرنسية للجزائريين، والهجرة غير الشرعية، والوجود العسكري الفرنسي في الساحل والصحراء، والدور الفرنسي في ليبيا.. إلخ.
ولهذه القضايا وغيرها تأثير بيِّن على العلاقات بين الدولتين، فمثلًا حين خفضت السلطات الفرنسية التأشيرات الممنوحة للجزائريين بنسبة 50%، بذريعة عدم تعاون الجزائر في إعادة مهاجريها غير النظاميين في سبتمبر 2021، وأتبعت بتصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون حول” ريع الذاكرة”، حدثت أزمة في العلاقات بين باريس والجزائر، أدت بهذه الأخيرة إلى اتخاذ إجراءات مضادة للرد على السلوك الفرنسي، منها سحب سفيرها من باريس، ومنع الطائرات العسكرية الفرنسية في 3 أكتوبر2021، من عبور أجوائها نحو مالي، وتقليص شحنات القمح المستوردة من فرنسا، إضافة إلى إنهاء التعامل باللغة الفرنسية في عدة قطاعات حكومية.
وهناك قضية أخرى تتعلق بإيواء فرنسا للمُعارض فرحات مهني، زعيم الحركة الانفصالية (ماك MAC) ، المطلوب دوليًا من طرف القضاء الجزائري لاتهامه في قضايا إرهاب، والذي شدد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون على وجوب تسليم فرنسا له، لأنه كما يقول:” هو إرهابي، والتهم الموجهة إليه تتصل بأفعال إجرامية، وحقائق تمس الوحدة الوطنية.. ولدينا أدلة حول جمعه الأموال من أجل اقتناء الأسلحة، وهذا بمباركة الدول التي وجد فيها ملاذًا وأصداء إعلامية.. وأن أوامر القبض عليه يتعين معها على سلطات دولة إقامته تطبيقها على أرض الواقع، وحتى الآن لم يقولوا شيئًا، يقصد المسؤولين الفرنسيين، وهو ما يعني بالنسبة إلينا الرفض“.
هذه القضية تحديدًا، مرشحة لأن تكون فتيل معركة جديدة بين البلدين يصعب تهدئتها في المستقبل المنظور، ومن شأنها رفع درجة الخصام إلى مستويات خطرة، وهنا يطرح السؤال الآتي: هل من سبيل للخروج من الأزمات بين الجزائر وفرنسا؟
ونظرًا لتغير الظروف على المستوى العالمي، فإن الجزائر وفرنسا مجبرتان على التقارب، أو على الأقل حل المشكلات العالقة بينهما، خاصة في المجال الاقتصادي، لكن لا ينتظر الوصول إلى حل قريب في “ملف الذاكرة”، ولا في ملفات المعارضين الجزائريين المقيمين في فرنسا لأسباب تتعلق بالاتفاقيات المبرمة بين البلدين، منها: اتفاقية صُودِقَ عليها في العام 2021، تستثني من التسليم المتابعين بالجرائم التي قد تكيف على أنها “سياسية”، كما هي الحال بالنسبة إلى” فرحات مهني”، إضافة إلى حقوق الإنسان، وحق اللجوء السياسي.
رغم هذا، فإن الدولتين تسعيان لإنعاش العلاقة بينهما على النحو الذي شهدناه خلال الشهور الماضية، وبلغ ذروته في أكتوبر الجاري، حين عقدتَا عددًا من الاتفاقيات تشي بتطور العلاقة بينهما نحو الأحسن، انطلاقًا من بحثهما لصيغ تعاون تفضي إلى تذليل العقبات، كما نص عليها إعلان “الشراكة المتجددة” الذي وقعته الجزائر وفرنسا في أغسطس الماضي، في إطار زيارة أجراها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر استمرت لثلاثة أيام.
وقد تضمن الإعلان المشترك جملة من القرارات على المستوى السياسي، والاستراتيجي، والاقتصادي، والعلمي، ولصالح الشباب، نوردها على النحو الآتي:
أولًا: تعزيز الحوار السياسي، بإنشاء “مجلس أعلى للتعاون” على مستوى الرئاستين مهمته “تقديم التوجيهات الكبرى حول المحاور الأساسية للتعاون” يجتمع كل عامين في باريس وفي الجزائر بالتناوب.
ثانيًا: قيام تعاون استراتيجي، وذلك لمواجهة التوتر في منطقة الساحل وفي ليبيا.
ثالثًا: دراسة الأرشيف، حيث ستعمل لجنة مشتركة من المؤرخين الفرنسيين والجزائريين “على كل أرشيف الفترة الاستعمارية وحرب الاستقلال”، في فرنسا كما في الجزائر.
رابعًا: التعاون في مجال الطاقة، لا سيما في مجالات الغاز والهيدروجين، وإطلاق برنامج بحث وابتكار تكنولوجي لاستعادة الغازات المحترقة، ومعالجتها.
خامسًا: إنشاء فضاء للإبداع، إذْ اتفق الطرفان على إنشاء فضاءات في فرنسا والجزائر، لتكوين متاحف ومساحة للإبداع والحوار والتبادل بين الشباب الفرنسي والجزائري.
سادسًا: تدريب الشباب من خلال التعاون بين الجامعات، مع إعطاء الأولوية للاقتصاد الرقمي والانتقال إلى الطاقة النظيفة والصناعات الثقافية والصحة.
سابعًا: التعاون العلمي، حيث سيعمل معهدَا “باستور” في فرنسا ونظيره في الجزائر على زيادة تبادل الباحثين عبر مختبر أبحاث مشترك.
ثامنًا: تعزيز التعاون في الحفريات الأثرية، لا سيما في تيباز، وكذلك تعزيز تدريب علماء الآثار.
تاسعًا: صيانة المقابر الأوروبية في الجزائر، والحفاظ على تراثها المتميز.
ثالثًا: ضرورات آنية.. وأهداف مرجوة:
فرض الوضع الدولي المتقلب، وتغير التحالفات، وتشابك المصالح على كل من الجزائر وباريس، إعادة ترتيب علاقاتهما، فطوعت الأولى -الجزائر- سياستها في إطار الحسابات الدولية الراهنة لإخراج العلاقة مع فرنسا من التوتر إلى الانتعاش، دون أن تتخلى عن مطالبها التاريخية كونها تعتبرها واجبًا وطنيًا مقدسًا، وعملت الثانية -فرنسا- على تطويع سياساتها لصالح ديبلوماسية تقربها من الجزائر.
لقد نظرت الدولتان إلى علاقتهما المشتركة ضمن السياق العالمي بما فيه من ضرورات آنية، منها: تصاعد الأزمة الجزائرية-الإسبانية، عقب إعلان الجزائر، في 8 يونيو الماضي، تعليق معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون مع إسبانيا، ووقف عمليات التصدير والاستيراد بين الدولتين، وتمايز الموقف الفرنسي عن الأوروبي في هذه القضية، مما أظهر حرص فرنسا على علاقتها مع الجزائر، إضافة إلى ذلك الحرب الروسية في أوكرانيا، وما تبعها من أزمة في إمدادات الطاقة.
وعلى خلفية تلك الضرورات، حصل تقارب استراتيجي بين الدولتين، تأملان من خلاله إلى تحقيق أهدافهما، منفردة أو مشتركة، ضمن مصالحهما الوطنية، منها على سبيل المثال:
1 ــ تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية لفرنسا، حيث تعد الجزائر الوجهة الأولى للصادرات الفرنسية، وقد سبق للاقتصاد الفرنسي أن تكبد خسائر مالية، خلال فترات الأزمة المرتبطة بتغير الأوضاع في الجزائر، إذ “تكشف الأرقام الرسمية، خصوصًا في الجزائر، أن النفوذ الاقتصادي الفرنسي بالجزائر تراجع بشكل كبير جدًا في الأعوام الـ 4 الأخيرة، ما كبد باريس خسائر سنوية تفوق قيمتها 18 مليار دولار في عدة قطاعات، أبرزها النقل والخدمات وحتى النفط“، كما تراجعت فرنسا إلى المرتبة الثانية بعد الصين كشريك اقتصادي للجزائر.
2 ــ تأمين إمدادات الطاقة: تحاول فرنسا من خلال تقاربها الحالي مع الجزائر إلى تأمين احتياجاتها من الطاقة في المستقبل المنظور، وذلك لضمان الحصول على الغاز الطبيعي، مُقتدية بإيطاليا، التي نجحت في إبرام اتفاق مع الجزائر على زيادة إمداداتها من الغاز الطبيعي خلال السنوات المقبلة.
3 – الهجرة غير الشرعية: تحرص فرنسا على تعزيز تعاونها الأمني والسياسي مع السلطات الجزائرية، بغرض الحدّ من تدفقات المهاجرين غير الشرعيين من الجزائر إلى فرنسا، في محاولة منها لإعادة تنشيط التنسيق السابق مع الجزائر، والاتفاق معها على ترحيل المهاجرين غير الشرعيين من فرنسا، وإن كان هذا الموضوع ما يزال محل خلاف بين الطرفين، ويتم توظيفه سياسيًا من الجانب الفرنسي.
4 ــ استعادة التعاون الإقليمي: تسعى كل من الجزائر وفرنسا إلى تعزيز الاتصالات، والتنسيق المشترك بينهما بغرض المساهمة في تسوية عدد من القضايا المثارة على المستوى الإقليمي ذات الاهتمام المشترك، وعلى رأسها الأزمتين الليبية، والمَالِية، خاصة أن البلدين يتبنيان مواقف مختلفة في الملفين.
5 ــ تطوير العلاقات في المجال العسكري: حيث تحرص الدولتان على تطوير العلاقات الثنائية بينهما على المستويين العسكري والأمني، وذلك في مجال تعزيز القدرات العسكرية الجزائرية وتوظيفها في مجال مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، التي تنشط فيها تنظيمات القاعدة وداعش الإرهابية.
سعي الجزائر وفرنسا إلى علاقة مُثمِرة مؤسَّسة على تعاون بينهما في مجالات مختلفة، بدأ منذ السنوات الأولى للاستقلال، وتعمق أكثر خلال الفترة الرئاسية الأولى من حكم الرئيس إيمانويل ماكرون، منذ زيارته الأولى في السادس من ديسمبر 2017، صحيح أن تلك العلاقة واجهت عدة صعوبات ومآزق بين الحين والآخر، تحوّل بعضها إلى أزمة، لكن لم تحدث قطيعة دائمة بين البلدين، وقد عادت العلاقة من جديد بعد الزيارة التي قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون في أغسطس الماضي، وعلى خلفيتها أبرمت اتفاقات بينهما – أكتوبر الماضي – في مجالات متعددة.
رابعًا: الجزائر وفرنسا.. مجالات التعاون:
العلاقة بين الجزائر وفرنسا بدوافعها الراهنة، وأهدافها ورهاناتها المستقبلية، تحكمها رؤيتان: الأولى: جزائرية قائمة على فكرة حسم قضايا الماضي المتعلقة بالتاريخ الاستعماري، لأجل التقارب والتعاون في الحاضر والاتجاه نحو المستقبل، وتلك سياسة سار على نهجها كل رؤساء الجزائر منذ الاستقلال إلى الآن.
والرؤية الثانية: فرنسية، تقوم على التداخل بين الأزمنة والملفات، يحكمها الحاضر أكثر من الماضي، كما هي في الرسائل الثلاث التي وجهها الرئيس إيمانويل ماكرون، حين زار الجزائر عندما انتخب في الفترة الأولى، وهي: “الإرادة المشتركة على المضي قدُمًا يدًا واحدة في قضية الذاكرة، والدعوة إلى فتح الاقتصاد الجزائري بالتزامن مع دعم الاستثمارات المتبادلة، والرغبة في إقامة علاقة تلبي تطلعات جيل الشباب”.
رسائل ماكرون السابقة، الهدف منها التركيز على الاقتصاد، بحيث تتمكن فرنسا من المحافظة على استثماراتها في الجزائر وتطويرها، خوفًا من التداعيات الراهنة التي أثرت سلبًا على الاقتصاد العالمي، علمًا بأن الجزائر تحتل المرتبة الثانية في قائمة البلدان الأفريقية الشريكة في مجال التجارة مع فرنسا، إذ ”بلغت قيمة المبادلات بين الجزائر وفرنسا 8 مليار يورو في عام 2021، في حين سجلت الصادرات الفرنسية إلى الجزائر انخفاضًا لتبلغ قيمة 3.7 مليار يورو في العام نفسه بينما ارتفعت الواردات الفرنسية من السلع الجزائرية، التي تمثل فيها المحروقات نسبة 91% “.
من ناحية أخرى تحتل فرنسا المرتبة الثانية في قائمة الموردين إلى الجزائر بعد الصين، والمرتبة الثانية في قائمة عملاء الجزائر بعد إيطاليا، كما تتصدر أيضًا قائمة المستثمرين باستثناء المحروقات، ”وللمؤسسات الفرنسية حضور ميداني في الجزائر، إذ توفر زهاء 40 ألف وظيفة مباشرة و100 ألف وظيفة غير مباشرة، عبر 500 منشأة مستقرة في الجزائر، وهناك العديد من المجالات الأخرى التي تسهم فيها، مثل: الخدمات المالية، والمجال البحري، والطاقة الكهربائية، والأغذية والصناعة الدوائية، وصناعة السيارات، والفنادق والمطاعم“.
يركز التعاون بين الجزائر وفرنسا أيضًا على المجال الثقافي – التعليمي، وإن كان يتم باتجاه واحد، على النحو الذي يكشف عنه الحضور الفرنسي في الجزائر، حيث يستند التعاون في هذا المجال على ”شبكة ثقافية فرنسية قائمة منذ عام 2000 تشمل خمسة معاهد فرنسية في الجزائر العاصمة، وعنابة، ووهران، وقسنطينة، وتلمسان، بالإضافة إلى مدارس، منها: مدرسة ألكسندر دوما الثانوية – الإعدادية الدولية”.
كما يشمل التعاون بين البلدين، العديد من المجالات الأخرى، منها: العلوم، والتقنية، والقضاء، والإدارة، والنقل، والأشغال العامة، والتخطيط العمراني، والحماية المدنية، والزراعة، وغيرها.
وهذا التنوع في مجالات التعاون وتعدد الجهات الفاعلة فيه يكشفان عن عمق العلاقة بين البلدين على مستوى تبادل المنافع، مع أن الخطاب السياسي الجزائري – الرسمي يشير إلى خلاف ذلك، خاصة عند حدوث أزمة أو توتر في العلاقات بين الدولتين.
خامسًا: شراكة متجددة.. وعبور نحو المستقبل:
لم ينقطع التعاون بين الجزائر وفرنسا حتى عند حدوث أزمات – حقيقية أو مفتعلة – لكنه سيأخذ شكلًا مختلفًا بعد زيارة الوفد الفرنسي الذي قادته رئيسة الحكومة “إليزابيث بورن” إلى الجزائر في التاسع من أكتوبر الجاري، وذلك في إطار سعي الدولتين إلى انطلاقة جديدة في العلاقة بينهما، كما جاء واضحًا في تصريح بورن حين قالت:” إن الجزائر وفرنسا تتقدمان باتجاه شراكة متجددة دائمة.. أشعر أننا حققنا تقدمًا معًا، وأن اللجنة الحكومية رفيعة المستوى وضعت أسس شراكة متجددة ودائمة ستكون في صالح شبابنا “.
حديث بورن عن” الشراكة المتجددة“، هو إعادة تأكيد عن “إعلان الجزائر.. من أجل شراكة متجددة”، الذي وقعه الرئيس الفرنسي في أغسطس الماضي عند زيارته إلى الجزائر مع الرئيس عبد المجيد تبون، وهذا يعني، بالأساس، وجود شراكة دائمة بين الدولتين مهما كان التوتر القائم بينهما، وبالتوقيع على 11 نصًا اتفاقيًا، في مجالات الصناعة والتكنولوجيا، والمؤسسات الناشئة والابتكار، والفلاحة، والتعليم العالي والبحث العلمي، والعمل والتشغيل، والسياحة والصناعة التقليدية، ومحضر نقل ملكية 51 قطعة نقدية أثرية من فرنسا إلى الجزائر، تكون الدولتان قد عمقتا الشراكة بينهما في الإطار التنظيمي والقانوني، ما يعني عبورهما نحو المستقبل، إذا تمكنتَا من تنفيذ تلك الاتفاقيات على المستوى العملي.
لاشك أن لكل من الجزائر وفرنسا حساباتها الخاصة في سعيها إلى تعميق العلاقة وتجاوز الخلافات، وإنهاء التوتر، فبالنسبة إلى الجزائر فإنها تحاول استثمار الاندفاعة الفرنسية صوبها من أجل التسويق لعودة قوية إلى الساحة الدولية، ناهيك عن تقوية اقتصادها، وجعله في خدمة مبادئها وتوجهاتها ومواقفها، أما فرنسا، فإنها تأمل – من خلال تقاربها مع الجزائر وبناء شراكة قوية – إلى حل أزمة الطاقة في المقام الأول، واستعادة نفوذها المتراجع في أفريقيا لصالح قوى منافسة، خاصة روسيا، كما تراهن على التعاون مع الجزائر في عدد من الملفات الأخرى، مثل مواجهة الجماعات الإرهابية في الساحل، ومكافحة الهجرة غير المشروعة، وتحقيق مصالحها في ليبيا ومالي.
بناءً على ذلك، فإن العلاقة بين الدولتين، تجمع بين ما هو مرحلي آني، وبين ما هو بعيد المدى، ويحاول الرئيسان – ماكرون وتبون – أن يجعلاَ منها علاقة ذات طابع استراتيجي، ضمن ما سمياه بـ ” بالشراكة المتجددة”، انطلاقًا من التنظير السياسي للمسألة، وما صاحبه من اتفاقيات، لكن كل هذا لا يجعل الأمر مسلّمًا به، إنما يمكن النظر إليه من خلال تصور مستقبلي للعلاقة، قد تبرزه السيناريوهات الثلاثة الآتية:
السيناريو الأول: تطور العلاقة باتجاه المستقبل، بحيث تكون ذات طابع استراتيجي في حال الوصول إلى اتفاق حول ملف الذاكرة.
السيناريو الثاني: أن تكون العلاقة بين البلدين، قائمة على التكتيك المرحلي، أكثر منها استراتيجية، ما يعني ديمومتها بوجود ماكرون وتبون في السلطة، وإذا كان الأول – ماكرون – قد ضمن وجوده لفترة ثانية في الرئاسة بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة، فإن الثاني – تبون – لا يزال في مرحلة الشك من ترشحه لفترة ثانية، أو فوزه في حال ترشحه، رغم النجاحات التي حققها على الصعيدين الداخلي والخارجي.
السناريو الثالث: استمرار التوتر في العلاقة بين البلدين، بل قد يتحول إلى أزمة، في حال أصرت فرنسا على التدخل في شؤون الدول الأفريقية، خاصة ليبيا ومالي، وأيضًا في حال زيادة دعم الجزائر للوجود الروسي في أفريقيا أمنيًا وعسكريًا واقتصاديًا.
وبغض النظر عن طبيعة العلاقة من جهة نوعيتها ونتائجها، فإنها ستظل بين المد والجزر، كما أن العبور نحو المستقبل سيكون مصحوبًا دائمًا ” بالماضي المشترك، الذي لا يزال مهيمنًا على الحاضر، وسيبقى لأجيال قادمة، ما دام الطرفان يصران على عدم حسم القضايا المصيرية، مع أن النشاط المؤسساتي للعلاقة بين الدولتين يشي كل مرة بالوصول إلى حل للمشكلات العالقة منذ عقود، وعادة ما يرفق بتصريحات في الجزائر أو باريس مطمئنة للشعبين، ليتفاجأ كل منهما بعد مدة بموقف مختلف.
من ناحية أخرى، فإن الرهان الفرنسي على نسيان الشباب الجزائري لن يتحقق، ليس فقط لأن أجيال الشباب داخل الجزائر مشبعة بالتاريخ الوطني، وإنما لأن شباب الجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا يعاني من الظلم والتمييز بدرجة جعلت ملف الذاكرة حاضرًا، ولم يُطْوَ بعدُ كما تريد فرنسا، وكل هذا كان وما يزال وسيبقى مؤثرًا على العلاقة بين الدولتين.