• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42

شكلت ظاهرة تغير المناخ خلال العقود الأخيرة- ولا تزال – تحديًا هائلًا دفع المجتمع الدولي بمنظماته الحكومية وغير الحكومية إلى التحرك من أجل مواجهته، فاتجهت الأمم المتحدة على سبيل المثال إلى عقد مؤتمر سنوي متخصص فيما عرف بـ “مؤتمر الأمم المتحدة السنوي المعني بتغير المناخ” بهدف توحيد جهود دول العالم والتقريب فيما بينها من أجل وضع استراتيجيات شاملة قادرة على مواجهة هذا التحدي.

وقد جاء هذا التحرك الدولي الذي انطلق منذ عقود وما زال ينتظره الكثير من الجهود، إدراكًا لخطورة ذلك التحدي الصعب الذي يتسم بتعدد أبعاده وتشعبها، والتي  برز من بينها تأثيره في تنامي ظاهرة الإرهاب، فقد حذر  أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، في كلمة له خلال اجتماع لمجلس الأمن عقد في ديسمبر عام 2021، من أن التغير المناخي يمكن أن يشكل “أحد العوامل التي تفاقم” احتمالات وقوع الأعمال الإرهابية، وأن التدهور البيئي الذي يشهده العالم يعرض أي منطقة غير مستقرة أو تشهد نزاعات لمخاطر وتهديدات أمنية كبيرة، وذكر أن البُلدان الأكثر عرضة للتأثر بأزمة المناخ هي نفسها التي "تعاني من غياب الأمن والفقر وضعف الحوكمة وآفة الإرهاب".

وتسعى هذه الورقة إلى استيضاح طبيعة العلاقة بين تغير المناخ والإرهاب، ومعرفة إلى أي مدى تستطيع الجماعات والتنظيمات الإرهابية استغلال تغير المناخ، وبالتحديد التداعيات التي تترتب عليه، لتحقيق أغراضها وأهدافها خاصة في بعض المناطق التي تعاني من وضع أمني هش، وحالة من عدم الاستقرار السياسي.

1. طبيعة العلاقة بين تغير المناخ والإرهاب:

أولت بعض الدراسات اهتمامًا بإمكانية وجود علاقة بين ظاهرتي تغير المناخ والإرهاب، وذهب بعضها إلى أن تغير المناخ قد يكون دافعًا وراء ما اعتبرته موجة خامسة من الإرهاب. وأفادت تقارير أصدرتها الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ بأن “تغير المناخ بفعل الإنسان” يؤدي إلى “زيادة تواتر الظواهر المتطرفة وشدتها” وأن الاحترار العالمي بمقدار 1.5 درجة مئوية أو أكثر من شأنه أن يتسبب في "زيادات لا مفر منها في مخاطر مناخية متعددة".

وبالرغم من ذلك، فإن الثابت أنه لا توجد علاقة مباشرة بين الظاهرتين، فلئن حاول بعض الباحثين تتبع إمكانية أن يؤدي ارتفاع درجة الحرارة في بعض الدول (نيجيريا على سبيل المثال) إلى تنامي عدد الهجمات التي تشنها الجماعات والتنظيمات الإرهابية، فإنهم وجدوا في الوقت ذاته أنه ليس بالضرورة أن تنطبق هذه النتيجة على كل الحالات، بل إنها قد لا تنطبق أيضًا على الحالة التي تمت دراستها في جميع الأوقات.

واقع الأمر أنه لا يمكن تأكيد وجود علاقة ارتباط لازمة بين تغير المناخ والإرهاب، فليس من الممكن القول على سبيل المثال -حتى الآن على الأقل- إنه كلما ازدادت درجات الحرارة أو تنامت قوة الأعاصير وغيرها من كوارث طبيعية ناتجة عن تغير المناخ، ازداد عدد العمليات الإرهابية أو العكس، إذ قد تتعرض بعض الدول أو المناطق إلى مثل هذه الكوارث من دون أن يؤدي ذلك إلى ظهور جماعات إرهابية، بالإضافة إلى أنه ليس بالضرورة أن تحتاج تلك الجماعات إلى هذه الكوارث كي تظهر في دولة أو منطقة، وذلك في ضوء أن هناك عوامل عديدة أخرى تقف وراء الظاهرة الإرهابية منها العامل الأيديولوجي على سبيل المثال.

إن  الأمر الذي حظي بالإجماع بين الباحثين هو أنه لا توجد علاقة مباشرة بين  تغير المناخ  والإرهاب، لكن المؤكد أن  تغير المناخ يسهم في خلق الظروف التي يمكن من خلالها للجماعات الإرهابية ترسيخ وجودها وتمديد انتشارها، بمعنى آخر، قد لا يكون تغير المناخ “سببًا جذريًا مباشرًا للإرهاب”، إلا أنه يُعدُّ قوةً مزعزِعةً للاستقرار تعزز بيئة مواتية لجماعات التطرف والإرهاب، فالتداعيات السلبية لتغير المناخ (الفيضانات- الأعاصير- الجفاف) على الموارد الطبيعية تخلق اضطرابات تؤدي، في مرحلة من المراحل، إلى توافر بيئة صالحة لظهور هذه الحركات ونموها.

وعلى هذا النحو، ثمة اعتراف متزايد داخل مجتمعات البحث والسياسة بأن تغير المناخ يعدُّ بمنزلة “عامل مضاعف للتهديد” “threat multiplier”، فيما يعدُّه مخططو الأمن والاستخبارات الأمريكيون، “عاملًا مسرعًا لعدم الاستقرار” “accelerant of instability”، فالمناخ في حد ذاته لا يسبب عدم الاستقرار، ولكنه يسهم في توفير العوامل التي تتسبب في حدوث حالة عدم الاستقرار، ومن ثم فقد ذهبت الولايات المتحدة ومعها فرنسا واليابان وكوريا الجنوبية وحلف الناتو إلى اعتبار تغير المناخ يشكل تهديدًا للأمن القومي.

على ضوء ما سبق، فإن العلاقة بين تغير المناخ والإرهاب، ليست مباشرة ولا هي قائمة على ارتباط لازم، وإنما يمكن القول إنها علاقة غير مباشرة، فثمة متغيرات أخرى لابد من الانتباه إليها ودراستها، ذلك أن التداعيات السلبية التي تترتب على تغير المناخ هي التي تسهم في توفر بيئة تتيح لجماعاتِ التطرفِ والإرهابِ النموَّ والتمدُّدَ أيضًا.

2. جماعات الإرهاب والاستفادة من تغير المناخ

تتم دراسة الكيفية التي يمكن من خلالها للجماعات الإرهابية الاستفادة من تغير المناخ في تحقيق النمو والانتشار، من خلال تسليط الضوء على ثلاثة مجالات رئيسية هي: تحقيق النمو والتمدد، وتجنيد الأتباع الجدد، واكتساب شرعية الوجود في مقابل ضرب شرعية الدولة. وهو ما سيتم تناوله بالتفصيل فيما يلي.

أ- تحقيق النمو والتمدد

تؤدي التداعيات السلبية لتغير المناخ إلى توفير بيئة تستطيع الجماعات الإرهابية النمو والتمدد فيها، وذلك من خلال أوجه رئيسية عدة، فقد تستغل هذه الجماعات التداعيات المترتبة على تغير المناخ (تراجع مصادر المياه – الجفاف – العواصف.. وغيرها) وسيلةً لممارسة التأثير سواء على الحكومات أو السكان، من خلال ممارسة تكتيكات من قبيل الاستيلاء و/ أو التخريب و/ أو النهب، أو قد تسعى إلى السيطرة على هذه الموارد، بما يساعد في تنامي قوتها ونفوذها.

وعلى صعيد آخر، يمكن أن تكون السيطرة على المساعدات الدولية في حالات الكوارث الناتجة عن تغير المناخ مصدر قوة  لتلك الجماعات، سواء من خلال محاولة نهب هذه المساعدات والتحكم فيها، أو من خلال التحكم في دخولها البلاد ووصولها إلى الفئات المستهدفة، وأبرز الأمثلة على ذلك، هو الجفاف الذي أدى إلى حدوث مجاعة في الصومال عام 2011، حيث سيطرت حركة الشباب على جنوب البلاد في أثناء المجاعة، وقررت آنذاك، حظر وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة التي أسمتها “الوجه المدني لقوات الكفار” وهو ما جعل المجاعة أكثر فتكًا.

بالإضافة إلى ذلك، تستطيع الجماعات الإرهابية استغلال التوترات والصراعات التي تشهدها المجتمعات بسبب التداعيات التي تترتب على تغير المناخ، إذ قد تستفيد من هذه الظروف في النمو والتمدد، والمثال الأبرز في هذا الصدد هو بحيرة تشاد التي تضررت بشدة بفعل التغير المناخي، مما أدى إلى حصول تداعيات خطيرة على المجتمعات المحلية في الدول التي تطل على تلك البحيرة.

ويوضح بعض الباحثين أن البحيرة التي بلغت مساحتها في الستينيات، أكثر من 26000 كيلومتر مربع، فقدت أكثر من 90 % من حجمها لتبلغ نحو 1350 كيلومتر مربع بحلول عام 2014، فيما  انخفض متوسط هطول الأمطار السنوي عليها من 320 ملم إلى 210 ملم، وتضاءلت بشكل كبير كمية المياه التي كان يوفرها نهرا شاري وكومادوغو – يوبي، للبحيرة، وقد تسبب هذا النضوب الحادث بفعل التغير المناخي في تدهور المستوى المعيشي للمجتمعات المحلية في الدول التي تطل على البحيرة (الكاميرون وتشاد والنيجر ونيجيريا)، إذ كانت هذه المجتمعات تعتمد بشكل كبير  على البحيرة سبيلًا وحيدةً للعيش سواء من خلال أنشطة الصيد البحري، أو أنشطة الرعي والزراعة، وقد تسبب تدهور المستوى المعيشي في نشوب صراعات عرقية ونزاعات شديدة بين المزارعين والرعاة في هذه المجتمعات، صاحبها ارتفاع في معلات البطالة وخصوصًا بين الشباب والنساء، وقد استغلت بعض الجماعات، مثل بوكو حرام، هذه الظروف لزيادة عملياتها والانقضاض على المجتمعات في جميع أنحاء حوض البحيرة.

وينطبق الأمر ذاته على منطقة الساحل برمتها، التي تعاني على مدى العقود الماضية من نقص في هطول الأمطار ومن الجفاف الشديد إلى جانب العواصف الرعدية العنيفة، بالإضافة إلى ارتفاع درجات الجرارة بمعدل 1.5 مرة أسرع من بقية العالم، ونتيجة ما تشهده المنطقة من توترات وصراعات، تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من 13 مليون شخص فيها بحاجة إلى المساعدة الإنسانية، فضلًا عن تضاعف عدد الأشخاص الذين يواجهون الجوع الحاد ثلاث مرات خلال عام 2021 ليصل إلى 7.4 مليون شخص بينما نزح 1.5 مليون شخص داخليًا، بزيادة قدرها عشرون ضعفًا على مدى عامين، ومع تفاقُم الصراع  في ظل نزوح الملايين وإجبارهم على الهجرة، ينتشر العنف  وتستغل جماعات مثل القاعدة وداعش هذه التوترات، في ظل ضعف الحكومات المركزية عن نشر نفوذها وتمديد انتشارها، لتفرض تلك الجماعات أسلوبها وتسيطر على المناطق، وفي هذا الصدد يقول حمادون سيسي الذي يرأس لجنة مصالحة تشارك في وساطة لتسوية النزاعات بين المجتمعات المحلية "يأتون كحماة للمجتمعات ثم يحاولون فرض أسلوب معيشتهم علينا".

ب- تجنيد الأتباع الجدد

الوجه الآخر لاستفادة الجماعات الإرهابية من تغير المناخ، يتمثل في تنامي قدرة هذه الجماعات على استقطاب عناصر جديدة وتجنيدها، ذلك أن تراجع مستوى المعيشة في المجتمعات التي تعاني من تداعيات تغير المناخ وانتشار البطالة بين الشباب قد يدفعهم إلى الانضمام إلى تلك الجماعات التي تقوم بالترويج لمقولات تخلي الحكومات والدول عن مسؤوليتها في تقديم المساعدات اللازمة، بالإضافة إلى تقديم نفسها باعتبارها قادرة على توفير مصدر للعيش للشباب حين يوافقون على الانضمام إليها.

وتشير بعض النظريات إلى أن الأفراد قد يتخذون قرارات بالتمرد أو بالانضمام إلى جماعة متمردة، عندما يتوقعون أن تتجاوز الفائدةُ التي سيجنونها من هذا الانضمام التكاليفَ التي يتحملونها، وفي هذا الصدد وجد استطلاع أجراه البنك الدولي في عام 2011 لدول في أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط أن النقص المستمر في فرص الحصول على الدخل كان الدافع الأكثر شيوعًا للانضمام إلى الحركات المتمردة وعصابات الشوارع.

وتنطبق الحال ذاتها على انضمام الأفراد إلى الجماعات الإرهابية، فبخلاف الأسباب الدينية، تعتمد جماعة بوكو حرام على الشعور المتجذر منذ فترة طويلة بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة وما يترتب على ذلك من شعور بالظلم، وتقنع المجندين المحتملين بأن الجماعة تحارب مثل هذه المظالم، وأنها توفر أيضًا فرص العمل، ومن ثم فهي تقدم حلولًا عملية للفقر والجوع.

وبصفة عامة، تركز جماعة بوكو حرام على الشباب بشكل كبير في عملية التجنيد، وذلك بالنظر إلى أن هذه الشريحة هي أكثر الشرائح العاطلة عن العمل داخل المجتمعات المحلية، مثلما هي الحال في الدول التي تطل على بحيرة تشاد. وقد أوضحت دراسة مبنية على تحليل 144 حالةً من أعضاء بوكو حرام الموقوفين، أن متوسط عمر أعضاء الجماعة هو ثلاثون عامًا، وأن الشباب هم الفئة الرئيسية التي تمارس العنف الديني لأنها الأكثر تضررًا من الفقر والبطالة، إذ حدد العديد من المبحوثين هذه المشكلات على أنها ثاني أهم العوامل المحفزة لهم بعد الأيديولوجيات الدينية. في السياق ذاته، ذكرت مقالة نشرت عام 2012 في مجلة Africa Review أن العديد من جنود بوكو حرام المشاة هم أشخاص نزحوا بسبب الجفاف الشديد ونقص الغذاء في النيجر وتشاد المجاورتين، وهو أمر كان مستغربًا آنذاكـ، لأن العديد من مقاتلي الجماعة يُنظر إليهم على أنهم متطرفون، لكن السلطات التي اعتقلت هؤلاء الأعضاء أشارت إلى أنهم لا يستطيعون تلاوة آية واحدة من القرآن، وهو ما يعني أنه تم تجنيدهم أو أنهم قد انضموا إلى الجماعة بحثًا عن العيش وهربًا من الجوع.

وقد أوضحت إحدى الدراسات التي أجرت مقابلات مع مزارعين من شمال نيجيريا وجنوبها، أن الشباب يفضلون الانضمام إلى الجماعات الإرهابية عندما يعتقدون أن الحكومة قد خذلتهم، وأن هذه الجماعات قادرة على توفير العيش لهم وإنقاذهم من الجوع، إذ يوضح مزارع من شمال البلاد أن ندرة الغذاء أجبرت القرويين على الهجرة والسفر إلى قرية أخرى، حيث لا يتم الترحيب بهم بسبب التنافس على الموارد، وينشب القتال بين الفريقين، معلّلًا توجّه الناس نحو الجماعات المتطرفة بأنه “يشرفنا الموت في الحرب أكثر من الموت من الجوع…. ونظرًا إلى أن الناس ليس لديهم أي شيء يأكلونه ولا يتوفر علف لحيواناتهم، فإنهم يذهبون إلى الغابة للتعرف على المتطرفين”، فالناس يعتقدون أن الحكومة قد خذلتهم. والأمر مشابه في جنوب نيجيريا حيث تؤدي مخلفات نشاطات شركات النفط (من احتراق للغاز وانسكاب للنفط وما تنبعث منه من غازات ضارة…) إلى تدمير الأرض والهواء، مما يجعل من الصعب للغاية إنتاج الغذاء والمحاصيل، وخصوصًا في ظل عدم قدرة الحكومة على فرض قيود على تلك الشركات، ويؤدي التلوث الناتج عن حرق الغاز إلى ما يعرف بـ”المطر الأسود” الذي يدمر المحاصيل ويؤدي إلى مشكلات صحية مثل الربو، وعندما يُفقَد الطعام، يغادر العديد من الشباب للانضمام إلى الجماعات المسلحة.

ج- اكتساب الشرعية وضرب شرعية الدولة

تستغل الجماعات الإرهابية التداعيات التي تترتب على تغير المناخ في اكتساب شرعية وجودها وفي ضرب شرعية الدولة في الوقت ذاته، وهو ما أشار إليه الأمين العام للأمم المتحدة في كلمته المشار إليها، حين قال: “عندما يؤدي تأثير التغير المناخي إلى فقدان سبل العيش ويخلف حالة من اليأس بين أفراد المجتمع، تصبح وعود توفير الحماية والدخل وتحقيق العدالة – التي يستغلها الإرهابيون أحيانًا لتنفيذ مخططاتهم الحقيقية – أكثر جاذبية”، إذ يسعى هؤلاء الإرهابيون إلى تقديم الوعود لتوفير الحماية والدخل مما يدعم شرعية وجودهم، ويضرب في الوقت ذاته شرعية الدولة، حيث تؤدي  التقلبات المناخية إلى إعاقة قدرة المؤسسات الحكومية على تقديم الخدمات العامة، “مما يؤجج مشاعر السخط ويفاقم عدم الثقة بالسلطات”، مثلما ذكر غوتيريش.

ويشير البعض إلى أن عملية توفير ما يعرف بـ “مكاسب الرفاهية” “welfare gains” تعد عاملًا رئيسيًا  محددًا لشرعية الدولة، ومن شأن تغير المناخ والتداعيات السلبية المترتبة عليه، أن تؤدي إلى تراجع هذه الشرعية، ذلك أن تفاقم الظواهر الجوية القاسية والمدمرة يحدُّ من قدرة الدولة على تحسين رفاهية مواطنيها أو تهيئة الظروف الأمنية اللازمة لحماية رفاهيتهم وممتلكاتهم القائمة، وهو ما يُضعف شرعيتها في هذه الحالة، وبالرغم من أن هذا الأمر لا يمثل سوى بُعد واحد للشرعية فإنه بُعد مهم، إذ عندما يُنظر إلى الدول على أنها غير شرعية لأنها تفشل في توفير الأمن والازدهار للمواطنين، فإن حركات التطرف والإرهاب يمكن أن تنتعش. وبالمقارنة مع الدولة المتعثرة التي لا تستطيع تقديم الخدمات الأساسية، يمكن أن تبدو تلك الحركات أكثر شرعية نسبيًّا حين تنجح في توفير هذه الخدمات للناس، مما يسهل عليها تبرير كسر احتكار الدولة للعنف.

ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى أنه عندما ضربت الفيضانات المدمرة باكستان في يوليو 2010، شعر بعض الضحايا أن الحكومة لا تفعل ما يكفي من أجلهم، وقتذاك تدخلت جماعات إسلامية، مثل طالبان وعسكر طيبة، لتقديم وجبات الطعام والمياه والرعاية الطبية، وهو الأمر الذي استغلته هذه الجماعات لتبرير وجودها وتعزيز شرعيتها.  والمثال الآخر الذي يمكن الإشارة إليه في هذا الصدد، هو محاولة تنظيم ولاية غرب أفريقيا الداعشي تحسين صورته في  منطقة الساحل الأفريقي في محاولة لاكتساب قدر من الشرعية لدى السكان، إذ سعى التنظيم إلى القيام ببعض الأدوار التي تخلت عنها الدولة، حيث استغل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية في تحسين صورته، عبر حفر الآبار وتوزيع البذور والأسمدة وتوفير المراعي الآمنة للرعاة لإطعام ماشيتهم، بالإضافة إلى أنه عمل على تأسيس اقتصاد بديل كان من أركانه تأجير أماكن للمراعي وذبح الماشية مقابل أجزاء من الذبيحة، ونتيجةً لذلك لجأ إليه الصيادون والرعاة لتأمين حياتهم، فيما استغل التنظيم ذلك الأمر لفرض تعاليمه الدينية في المنطقة، وإرسال الوفود إلى مخيمات النازحين لحث الناس على العودة والزراعة.

خاتمة:

تخلص هذه الورقة إلى تأكيد عدم وجود علاقة مباشرة أو ارتباط لازم بين ظاهرتي تغير المناخ والإرهاب، وإنما هناك علاقة غير مباشرة بين الظاهرتين، ذلك أنه لا يمكن القول إن ارتفاع درجات الحرارة أو الجفاف أو العواصف تؤدي مباشرة إلى ارتفاع عدد الهجمات الإرهابية، وإنما يمكن تأكيد أن التداعيات التي تترتب على تغير المناخ توفر بيئة تنمو فيها الجماعات والتنظيمات الإرهابية، وخصوصًا أن هذه التداعيات من شأنها أن تضعف من قوة الدولة وقدرتها سواء على مواجهة هذه الجماعات أو على القيام بدورها في توفير الخدمات للسكان، وهو ما تستغله تلك التنظيمات لمصلحتها.

وقد تمكنت الجماعات والتنظيمات الإرهابية من الاستفادة من ظاهرة تغير المناخ، أو بالأحرى من التداعيات التي ترتبت على تغير المناخ، في تحقيق مجموعة من الأهداف، أبرزها النمو والانتشار، وتجنيد الأتباع الجدد، واكتساب شرعية الوجود في مقابل ضرب شرعية الدولة، وهو ما يشير بدرجة أو بأخرى إلى أن آليات مواجهة الإرهاب التي تعتمد على الجانب الأمني باتت غير كافية وأن هذه الطرائق ينبغي أن تكون في إطار استراتيجية تنموية شاملة. فالثابت أن الجماعات والتنظيمات الإرهابية تنمو وتتمدد في المناطق الهشة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. وقد أضحت ظاهرة تغير المناخ مُسهمةً بدرجة كبيرة في وضع الهشاشة الذي تصل إليه هذه المناطق، بل إنها تزيده سوءًا في بعض الأحيان، وهو ما يعني أن مواجهة الإرهاب لابد أن تتم ضمن استراتيجيات شاملة تستهدف تحقيق النمو المستدام الذي يساعد الدول في الاستقرار وامتلاك القوة بمفهومها الشامل.