• اخر تحديث : 2024-05-02 20:55
news-details
قراءات

رغم نفي جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي “الموساد”، يوم الأحد 9 أبريل الجاري، الوثائق الأمريكية المُسربة حديثاً التي ادعت أن كبار قادة الجهاز شجَّعوا المواطنين وموظفي الجهاز على المشاركة في الاحتجاجات الأخيرة ضد الحكومة، وكذلك نفي مكتب رئيس الوزراء تلك التقارير، فإن ثمة مؤشرات مختلفة على وجود فجوة بين نتنياهو وقادة الموساد، اتسعت على نحو لافت خلال أزمة الإصلاح القضائي الأخيرة، ولم يتم حسمها إلى الآن.

ولعل هذا ما دفع وزير “التراث” الإسرائيلي عَميحاي إلياهو، من حزب “عظمة يهودية” عوتسما يهوديت، إلى اتهام مسؤولين كبار في أجهزة الأمن الإسرائيلية بالتمرد على الحكومة، وهي الاتهامات التي تتقاطع مع التسريبات الأخيرة، على نحو يضع الكثير من التساؤلات حول أسباب الخلافات بين قادة الموساد والحكومة الإسرائيلية الحالية، والسيناريوهات المحتملة لهذا “التوتر المكتوم” بين الطرفين، لا سيما أن مُجرد الاعتراف بدعم عناصر من الموساد الاحتجاجات ضد الحكومة، فضلاً عن كبار القادة السابقين والحاليين للجيش، يؤشر على عُمق التحولات التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي، وطبيعة العلاقات المدنية–العسكرية في إسرائيل خلال المرحلة القادمة.

مؤشرات مختلفة

ثمَّة مؤشرات مختلفة على مشاركة “الموساد” بطريقة أو بأخرى في دعم الاحتجاجات ضد حكومة نتنياهو؛ وذلك على النحو التالي:

1- التزام الموساد وقادته الصمت إزاء أزمة “الإصلاح القضائي”: على عكس الجيش الإسرائيلي الذي أبدى العديد من قادته، مثل وزير الدفاع، فضلاً عن قادته السابقين وضباط الاحتياط، معارضة صريحة لخطط الإصلاح القضائي التي تقودها حكومة نتنياهو؛ التزم قادة الموساد ورئيسه ديفيد بارنياع الصمت حيال الأزمة، رغم الأحاديث الكثيرة عن دعم قادة الموساد – سراً – للتظاهرات، وتشجيع موظفيه والمواطنين على المشاركة فيها.

2- اعتبار الموساد التسريبات الأمريكية “كاذبة وسخيفة”: من جهة أخرى، كان لافتاً سرعة نفي “الموساد” لـ”تسريبات ديسكورد”‏، بل نجد أن بيان الموساد وصف التسريبات بـ”الكاذبة والسخيفة”. وجاء في البيان أن “الموساد وكبار مسؤوليه لم يشجعوا ولا يشجعون موظفي الموساد على المشاركة في التظاهرات المناهضة للحكومة، ولا في أي تظاهرات وأحداث سياسية أخرى”. يأتي هذا فيما عقد نتنياهو جلسة مساءلة مع رئيس الموساد، وطلب منه شرح موقفه؛ حيث اعتبر الأخير أن التسريبات “تحليل خاطئ من قبل مسؤولي المخابرات الأمريكية”.

3- تأكيد مصادر إسرائيلية مختلفة دعم “الموساد” للاحتجاجات: رغم النفي القاطع من قبل الموساد لصحة الوثيقة المُسربة، سبق أن نشرت وسائل إعلام إسرائيلية في أواخر فبراير الماضي، ما يفيد بأن قادة الموساد سمحوا لموظفي الجهاز من الرتب المنخفضة بالمشاركة في التظاهرات، شريطة ألا يُعلنوا عن انتماءاتهم المهنية؛ حيث اعتبر تقرير للقناة الثانية عشرة الإسرائيلية وصحيفة يديعوت أحرنوت بتاريخ 24 فبراير الماضي، أن الكثير من عناصر الموساد يشعرون بأنهم لا يستطيعون الوقوف صامتين، وأنهم طلبوا من رئيس الموساد المشاركة في الاحتجاجات؛ حيث وافق الأخير بعد مشاورات مع المستشار القضائي للجهاز، وتم السماح للعاملين بالموساد من مستوى رؤساء الأقسام أو أقل بالمشاركة في التظاهرات.

4- شكوك حول وجود “توجُّه ممنهج” للموساد لدعم الاحتجاجات: رغم أن هناك اعترافاً في إسرائيل بمشاركة عناصر من الموساد في التظاهرات، فإن هناك شكوكاً قوية حول وجود “توجُّه ممنهج” من قِبل الموساد لدعم الاحتجاجات أو تقويض حكومة نتنياهو. ويؤيد هذا التوجُّهَ بعضُ الخبراء المستقلين، مثل “تمير هايمان” رئيس الاستخبارات العسكرية سابقاً والمدير في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، وكذلك ناتان ساكس – وهو باحث متخصص في الشأن الإسرائيلي بمعهد بروكينجز – حيث يرى الاثنان أن ما ورد في التسريبات يُعد “على الأرجح تفسيراً خاطئاً لما تم سماعه”، وأن الوثيقة المُسربة خلطت بين رؤساء الموساد السابقين والحاليين، ومن ثم تبدو غير دقيقة رغم أنها حقيقية.

فجوة متزايدة

رغم التشكيك في “حجم الدعم” الذي قدمه الموساد للتظاهرات، ومدى وجود توجُّه ممنهج لدعم التحركات ضد نتنياهو من عدمه، فإن مجرد سماح الموساد بمشاركة أعضائه في التظاهرات يُعد تطوراً كبيراً، بالنظر إلى تاريخ الموساد الذي ينأى بنفسه دائماً عن أي تجاذبات سياسية داخلية. وبوجه عام فإن ثمة أسباباً محتملة تدفع لتزايُد الفجوة بين جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد” والحكومة الإسرائيلية الحالية التي يُهيمن عليها اليمين المتطرف، وهو ما يُمكن تناوله على النحو التالي:

1- التماهي مع الاتجاه العام لـ”الدولة العميقة في إسرائيل”: لا ينفصل التباعُد الحالي بين جهاز الموساد وحكومة نتنياهو عن الحالة العامة في إسرائيل؛ حيث يبدو أن هناك رفضاً واسعاً من قبل جميع مؤسسات الدولة والنخب الإسرائيلية لأجندة الحكومة الحالية التي يُهيمن عليها اليمين المتطرف، وهو ما ظهر في التظاهرات العاصفة التي بدأت منذ نحو ثلاثة أشهر رفضاً لتوجهات الحكومة، لا سيما ما يتعلق بخطط الإصلاح القضائي، بل إن حالة الرفض امتدت لتشمل الجيش الإسرائيلي وكبار القادة العسكريين، مثل وزير الدفاع الذي تسببت معارضته خططَ نتنياهو في إقالته، قبل أن يتراجع نتنياهو عن الإقالة في وقت لاحق.

ومن ثم، فإن موقف “الموساد” تجاه الحكومة لا يُعبر عن حالة شاذة، بقدر ما يتماهى مع الاتجاه العام للمؤسسات الإسرائيلية، أو ما يُمكن أن يُطلق عليه مجازاً “الدولة العميقة” في إسرائيل، التي تُبدي معارضة لافته لأجندة نتنياهو وخطط اليمين المتطرف، والصلاحيات الكبيرة التي تم أو يتم التخطيط لإسنادها إلى قادة اليمين المتطرف.

2- الخشية من تعمُّق حالة الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي: ربما تأتي توجُّهات الموساد غير المتوافقة مع الحكومة الحالية نتيجةً لخشية الجهاز الاستخباراتي من تعمُّق حالة الاستقطاب والانقسام في الداخل الإسرائيلي، التي لم تُعد تقتصر على المؤسسات والنخب والنقابات الإسرائيلية، بل وصلت إلى القواعد مع خروج تظاهرات حاشدة شارك فيها عشرات الآلاف على الجانبين: المؤيد لنتنياهو والمعارض له، وهي الاحتجاجات التي تخللتها أعمال عنف، كما ساهمت الإضرابات التي قادتها النقابات الإسرائيلية في إحداث شلل في العديد من القطاعات الحيوية على نحو ساهم في هروب الكثير من الاستثمارات خلال الفترة الماضية، وتراجُع قيمة الشيكل.

3- القلق من تصاعُد المخاطر الأمنية في الداخل الإسرائيلي: لا يمكن الفصل بين موقف الموساد من الحكومة الحالية وبين قلق قادة الأجهزة الاستخباراتية في إسرائيل من تصاعُد المخاطر الأمنية التي صاحبت تشكيل الحكومة الحالية، بأجندتها المتطرفة. ويبدو أن هناك خشية لدى قادة الموساد من تصاعُد التوترات مع الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية، وهو التصعيد الذي يتم تأجيجه بشكل أساسي من قادة الأحزاب المتطرفة، مثل “إيتمار بن غفير”، و”بتسئيل سموتريتش” اللذين يتبوآن وزارتي الأمن القومي والمالية على التوالي، وهو ما قد يؤدي إلى إشعال جبهات متُعددة في وجه إسرائيل في وقت واحد، على نحو ما ظهر في التصعيد الأخير في جنوب لبنان وغزة بالتزامن مع تصعيد في القدس وعمليات فلسطينية في تل أبيب نفسها.

ولا تقتصر المخاوف الأمنية على التوترات مع الفلسطينيين، بل امتدت إلى تحذير القادة الإسرائيليين، مثل الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوج، من إمكانية انزلاق البلاد إلى مخاطر “حرب أهلية” إذا استمر نتنياهو في تنفيذ أجندته المثيرة للجدل.

4- اتساع الفجوة بين الإدارة الأمريكية وحكومة نتنياهو: لا ينفصل الفتور الحالي بين الموساد وحكومة نتنياهو عن حالة الفتور التي تمر بها العلاقات الأمريكية–الإسرائيلية، على خلفية السياسات المُثيرة للجدل، وتصرفات أقطاب الحكومة الحالية، التي تُثير الكثير من الانتقادات في واشنطن إلى الحد الذي دفع الرئيس بايدن إلى توجيه انتقادات صريحة وغير مسبوقة لحكومة نتنياهو، وهي الانتقادات التي رفضتها الأخيرة. وقد دفع هذا الفتور زعيم المعارضة يائير لابيد إلى السفر إلى واشنطن يوم 11 أبريل الجاري سعياً لإصلاح العلاقات مع الحليف الأمريكي.

اللافت أن التوتر الحالي في العلاقات بين تل أبيب وواشنطن لم يقتصر على الجانب المؤسساتي، بل امتد ليشمل العلاقة مع الجماعات اليهودية النافذة في الولايات المتحدة، ولعل هذا ما يُفسر موقف الموساد من الحكومة الحالية، بالنظر إلى حرص الأول على التنسيق المستمر ومتانة العلاقات مع الولايات المتحدة باعتبارها الحليف الأوثق لإسرائيل في العالم.

5- تعرُّض حكومة نتنياهو لمزيد من العُزلة الإقليمية: على عكس وعود نتنياهو الانتخابية، التي شدد فيها على عزل إيران وتوسيع دائرة التطبيع في المنطقة لتشمل دولاً أخرى، نجد أن هناك فرصاً ضئيلة للغاية في إمكانية تحقيق هذا الهدف في الوقت الحالي؛ حيث ساهمت سياسات الحكومة الإسرائيلية في موجات متكررة من الإدانات والانتقادات الإقليمية والدولية؛ ما أدى إلى فتور وعُزلة واضحة لحكومة نتنياهو في المنطقة، بالتزامن مع تقارب بين دول الخليج العربي وإيران، تكلَّل في مارس الماضي بتوقيع اتفاقية لإعادة العلاقات بين الرياض وطهران برعاية صينية، بالإضافة إلى وجود العديد من المؤشرات على حلحلة الملف اليمني وعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وهي كلها تطورات دفعت العديد من القادة الإسرائيليين إلى اتهام الحكومة الحالية بالفشل في إدارة الملفات الإقليمية، بما قد يُفاقم التحديات الأمنية التي تواجهها تل أبيب.

سيناريوهات محتملة

من المتوقع أن تُشكل “تسريبات ديسكورد” بشأن دعم الموساد للاحتجاجات ضغطاً إضافياً على حكومة نتنياهو، لا سيما بشأن العلاقة بين الحكومة اليمينية والجهاز خلال المرحلة القادمة، وبوجه عام فإن هناك ثلاثة سيناريوهات كالآتي:

1- قدرة نتنياهو على احتواء “الموساد” وقادته: يستند هذا السيناريو إلى إعلان نتنياهو تجميد ملف الإصلاحات القضائية، والبدء في إجراء حوار مع المعارضة، وإعادة وزير الدفاع إلى منصبه بعد الإعلان عن إقالته، ومن ثم يبدو أن نتنياهو أكثر حرصاً في الوقت الحالي على تجنُّب “استعداء” المؤسسات الكبرى في إسرائيل، ومن ثم سيعمل – وفق هذا السيناريو – على الوصول إلى حل وسط بشأن الأزمة القضائية؛ الأمر الذي يمنحه فرصةً لاحتواء أي تحركات محتملة ضده في الجيش أو الاستخبارات.

2- تصاعُد التوترات بين نتنياهو و”الموساد”: إذا خضع بنيامين نتنياهو لضغوط اليمين المتطرف المهيمن على حكومته، ومضى قدماً في تمرير الإصلاحات القضائية، فإن من المتوقع أن تعود الاحتجاجات الضخمة والإضرابات الواسعة إلى الداخل الإسرائيلي مرةً أخرى. وفي هذه الحالة فإن الموساد قد يجد نفسه مضطراً لانتقاد نتنياهو علناً بالاشتراك مع الجيش والمؤسسات السيادية الأخرى في إسرائيل.

3- استمرار حالة الترقُّب و”الحذر المتبادل” بين الطرفين: في ظل صعوبة مضي نتنياهو قدماً في تمرير الإصلاحات القضائية، وكذلك استبعاد تراجعُه عنها بالكلية، فإن من المُرجح أن يستمر هذا الملف كأنه “قُنبلة موقوتة” خلال المرحلة القادمة، وهو ما سينعكس بالتبعية على علاقة نتنياهو بالجهاز الاستخباراتي التي يبدو أنها ستكون أقرب إلى الترقُّب والحذر المتبادل، لا سيما أن الوثيقة المُسربة ربما ساهمت في زعزعة الثقة بين الطرفَين بدرجة أكبر، مع استمرار هجوم قادة اليمين المتطرف بشكل غير مباشر على الموساد، واتهامه بقيادة تمرد داخلي ضد الحكومة و”الشرعية”.

رسالة تحذير

ختاماً، ربما تمثل “تسريبات ديسكورد” رسالة تحذير إلى الحكومة والتيار اليميني في إسرائيل من خطورة السيناريوهات التي تترتَّب على المضي قُدماً في سياساتهما، وبوجه عام، لا يُمكن عزل التوترات المكتومة بين جهاز الموساد والحكومة اليمينية بقيادة نتنياهو عن التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي مع صعود التيارات اليمينية المتطرفة، والتي تسعى إلى توظيف حضورها في الكنيست وهيمنتها على الحكومة في تعزيز صلاحياتها وإعادة تشكيل السياسة والمجتمع الإسرائيلي وفق رؤيتها، ولعل هذا ما يوُاجَه بمُعارَضة قوية لا تقتصر على القضاء والجيش والإعلام فحسب، بل يبدو أن الموساد يلعب دوراً أساسياً في هذه المواجهة الداخلية، التي من المُستبعد أن تنتهي قريباً ما دامت حكومة نتنياهو تُصر على المُضي قُدماً في تنفيذ أجندتها.