• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42
news-details
أبحاث

اتفاق السلام بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والحكومة الفيدرالية.. الحسابات والمآلات


مقدمة

تعتبر إثيوبيا دولة محورية في أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي تحديدًا، ولطالما اعتُبِرتْ بلدًا مهمًا للقوى الإقليمية والدولية؛ بفضل موقعها الاستراتيجي في شرق القارة، ومساحتها الكبيرة، وثقلها التاريخي الناجم عن كونها أقدم الأنظمة السياسية المعروفة في القارة، والدولة الوحيدة في أفريقيا السمراء التي لم تتعرض لتجربة الاستعمار الأوروبي التقليدية، بالإضافة إلى الموارد التي تزخر بها إثيوبيا. ونظرًا لما سبق، فإنه من المهم قراءة الأحداث الإثيوبـيـة نظرًا لتأثيرها المباشر وغير المباشر على كثير من توازنات القوى إقليميًا ودوليًا.

أشعلت أزمة دستورية فتيل حرب شرسة في بلد قائم على فوهة بركان نشط من الأزمات السياسية والعرقية المستفحلة، على أثر قرار رئيس المحكمة الفيدرالية العليا بإلغاء انتخابات 2020 تحت ذريعة وباء كوفيد 19 والذي تمَّ بثُّه على الهواء مباشرة وشاهده ملايين الإثيوبيين، الأمر الذي رفضته أحزاب المعارضة الرئيسية. وأدى قرار المحكمة العليا إلى سلسلة من الحملات القمعية في منطقة أوروميا، بعد ما يزيد قليلًا على أسبوعين، وبدأت حرب تيغراي بعد خمسة أشهر من قرار المحكمة.

وقد قّعت الحكومة الفيدرالية الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، في 12 نوفمبر 2022 بالعاصمة الكينية نيروبي، اتفاقًا يرسم خريطة طريق لتنفيذ اتفاقية السلام التي توصل إليها الجانبان في الثاني من الشهر نفسه في بريتوريا بجنوب أفريقيا. واتفقا على وقف الأعمال العدائية، ونزع سلاح جبهة تيغراي، وعودة سلطة الحكومة الاتحادية إلى إقليم تيغراي، والسماح بإيصال المساعدات إلى الإقليم، وحماية المدنيين. ووقّع الهدنة غيتاشيو رضا عن الجبهة، ورضوان حسين مستشار الأمن القومي للحكومة الفيدرالية الإثيوبية برعاية الاتحاد الأفريقي. ووافق تاريخ توقيع الاتفاق الذكرى الثانية لاندلاع الحرب في نوفمبر2020.

وفي هذا الإطار، تتناول هذه الورقة بإيجاز اتفاق السلام المعقود بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والحكومة الفيدرالية الإثيوبية، الذي أنهى حربًا ضارية استمرت عامين (نوفمبر 2020 – نوفمبر 2022)، وتسلط الضوء على الظروف العامة التي وُلِد فيها الاتفاق، وحسابات الأطراف المختلفة المشاركة في الحرب، وموقف الأطراف الإقليمية والدولية من الاتفاق، بالإضافة إلى مستقبل الاتفاق ومآلاته.

أولًا: مِن الحرب إلى المفاوضات

اندلعت الحرب في تيغراي في نوفمبر 2020، بعد تفجّر نزاع سياسي بين الحكومة الاتحادية لإثيوبيا برئاسة رئيس الوزراء آبي أحمد، والحكومة الإقليمية لتيغراي بقيادة جبهة تيغراي. وبرّرت الحكومة شنّ الحرب وقتها على الإقليم “بهجوم الجبهة على قاعدة عسكرية تابعة للجيش الفيدرالي”، وانخرطت إريتريا في الصراع منذ أيامه الأولى؛ نظرًا للعداء التاريخي بين الرئيس الإريتري أسياس أفورقي وجبهة تيغراي. ودمرت الحرب على مدى عامين اقتصاد إقليم تيغراي ودفعت السكان إلى حافة المجاعة.

وبسبب توسع رقعة الحرب إلى المناطق الإثيوبية الأخرى، غرقت البلاد في أزمات اقتصادية وانقسامات عميقة، ولقي الآلاف حتفهم في منطقتَي أمهرة وعفر المجاورتين، كما تراجعت التنمية الوطنية. ولم تكن الحسابات الديمغرافية في صالح مقاومة إقليم تيغراي، الذي يبلغ عدد سكانه 6% فقط من سكان إثيوبيا؛ إذ لم تستطع جبهة تيغراي تحمُّل الخسائر البشرية التي لحقتها، وتعرضت حاضنتها الشعبية للتجويع والحصار والقصف والتهجير القسري.

من جانبها؛ واجهت الحكومة الاتحادية تحديات اقتصادية هائلة حتى أوشكت على الإفلاس، واقتربت مؤسسة الجيش الوطني من الانهيار. لكن الحكومة الفيدرالية بدت أكثر قدرة على مواصلة الحرب مقارنة بجبهة تيغراي، فلديها احتياطيات أكبر من الموارد البشرية للتجنيد في جيشها وقدرات مالية أكثر. وبالرغم من ذلك فقد ظَلَّ الجيش النقطة الأضعف لدى الحكومة الاتحادية؛ ففي عامَي 2020 و2021 تقلصت قدرات الجيش الوطني إلى حدّ بعيد، بسبب استبعاد جنود وضباط ينتمون إلى عرقية التيغراي، إضافة إلى الخسائر التي تكبدها في الحرب خلال مايو ويونيو 2021 في إقليم تيغراي، وجرى تفكيك هيكل قيادة الجيش خلال عمليات القتال من أغسطس إلى نوفمبر 2022، لكن الجيش كان قادرًا على التعويض من خلال المجندين الجدد والميليشيات التي سميت بـ “قوات الدفاع الوطنية”.

ومنذ الأشهر الأولى لاندلاع الحرب، انطلقت مساعي الوساطة بين الطرفين؛ فقد عيّن الاتحاد الأوروبي في فبراير 2021 وزير خارجية فنلندا بيكا هافيستو مبعوثًا خاصًّا لحلّ النزاع، وعيّنت الإدارة الأمريكية في أبريل 2021 السفير جيفري فيلتمان مبعوثًا خاصًّا للقرن الأفريقي، وعيّن الاتحاد الأفريقي الرئيس النيجيري السابق أولوسيغون أوباسانجو ممثلًا ساميًا للاتحاد في منطقة القرن الأفريقي، وسافر أوباسانجو بين أديس أبابا وميكيلي عاصمة إقليم تيغراي ست مرات. نجح أوباسانجو في إقناع قادة جبهة تيغراي بالإفراج عن 4500 أسير حرب لبناء الثقة بين الطرفين، على أن يقابل ذلك رئيس الوزراء الإثيوبي بالإفراج عن عدد مساوٍ من سجناء تيغراي المدنيين. ولكن آبي أحمد لم يلتزم بتنفيذ الاتفاق.

ساير مبعوث الاتحاد الأفريقي أوباسانجو ومنذ تعيينه رواية الحكومة الفيدرالية القائلة إن الصراع شأن داخلي إثيوبي، وما تقوم به الحكومة هو “عملية لإنفاذ القانون” وليس مسألة من اختصاص مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي (PSC) ولا مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وكان هذا التناغم الوثيق بين الحكومة الفيدرالية والاتحاد الأفريقي واضحًا منذ الأيام الأولى للحرب، حيث امتنعت الهيئة الحكومية الدولية للتنمية (IGAD) عن اتخاذ أي إجراء ضد الحكومة الإثيوبية. وقد صرح رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي – موسى فكي – في كلمته الافتتاحية في القمة الاستثنائية للاتحاد في 5 ديسمبر 2020 بأن “الحكومة الفيدرالية الإثيوبية اتخذت خطوات جريئة للحفاظ على الوحدة والاستقرار واحترام النظام الدستوري للبلاد؛ وهو أمر شرعي لجميع الدول”. ويتضح ذلك أيضًا من مقال قصير نشره أوباسانجو في 19 نوفمبر 2021 شكك خلاله في صحة مزاعم جبهة تيغراي بارتكاب الحكومة انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في الإقليم.

وافقت مفوضية الاتحاد الأفريقي في أكتوبر 2022 على مطلب تيغراي بتوسيع الوساطة إلى لجنة من ثلاثة أشخاص هم الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا، ونائب رئيس جنوب أفريقيا السابق فومزيل ملامبو نجوكا، إضافة إلى أوباسانجو. وجاءت تلك الموافقة تحت ضغط دولي، ولكن لم يجرِ التحضير لمحادثات جوهرية. واتسم جدول الأعمال بالغموض، فلم يكن هناك تشاور مسبق مع عضوَي اللجنة المعيّنين ولا مع حكومة جنوب أفريقيا.

ثانيًا: اتفاق بريتوريا

توصلت وفود الحكومة الفيدرالية وممثلو جبهة تيغراي – تحت رعاية اللجنة الثلاثية للاتحاد الأفريقي – إلى اتفاق في بريتوريا عُقد بتاريخ 2 نوفمبر 2022، وجرى استكمال بعض بنود هذا الاتفاق في نيروبي. حددت الوثيقة مخرجات رئيسية؛ أبرزها نزع سلاح مقاتلي جبهة تيغراي، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى إقليم تيغراي، وإصلاح الخدمات الأساسية في المنطقة، وتوفير إطار للمساءلة والعدالة، واستعادة مظاهر الاستقرار في البلاد.

ونص الاتفاق – بحسب “وثيقة نهائية” نُشرت بعض تفاصيلها وأقرَّها مسؤولان شاركا في محادثات السلام – على نزع سلاح قوات تيغراي بدءًا بـ “الأسلحة الخفيفة” في غضون 30 يومًا من التوقيع، أما الأسلحة الثقيلة – وهي الأولوية – فسيجتمع قياديون عسكريون كبار من كلا الطرفين خلال خمسة أيام من توقيع الاتفاق للتباحث في شأنها. وستتولى قوات الأمن الفيدرالية الإثيوبية السيطرة الكاملة على جميع المرافق والمنشآت الفيدرالية والبنية التحتية الرئيسية؛ مثل المطارات والطرق السريعة داخل إقليم تيغراي؛ على أن تُنشأ "إدارة إقليمية انتقالية بعد الحوار بين الطرفين".

ثالثًا: حسابات أطراف الصراع

يبدو أن الدافع الذي يفسر التوصل إلى الاتفاق هو أن الحرب في إثيوبيا دمرت شعب تيغراي وهددت بقاء الدولة الإثيوبية وتماسكها. ولذلك تراجعت قيادة تيغراي ووافقت على تقديم تنازلات كبيرة، كما اشتدت أيضًا الضغوط الدولية على الحكومة الفيدرالية بسبب إطالة أمد الحرب. علاوة على ذلك؛ فإن أقاليم أخرى في البلاد كانت تغرق في التداعيات الوخيمة للحرب على تيغراي، مثل إقليم أمهرة الذي أصبح طرفًا أساسيًا في الصراع. وبإمكاننا أن نُجْمِل مكاسب أطراف الصراع وحساباتها بما يلي:

1. الحكومة الفيدرالية

يُعد الاتفاق بالنسبة إلى رئيس الوزراء آبي أحمد جزءًا مهمًّا من حساباته السياسية الداخلية، كون الاتفاق يضع حدًّا للمواجهة في تيغراي، وهو ما سيتيح له التركيز على الملفات الداخلية الأخرى، فحكومته تواجه أزمة اقتصادية حادة، وسيسعى في الفترة المقبلة للاستفادة من الاتفاق للحصول على قروض من صندوق النقد الدولي ومنح مالية أخرى جُمِّدت بسبب الحرب، وسيحاول الحصول على وعود دولية بتأمين 20 مليار دولار أمريكي لإعادة إعمار تيغراي والمناطق المجاورة المتضررة من الحرب.

2. جبهة تيغراي

بقدر ما تعتبر جبهة تيغراي الاتفاق مكسبًا لها، فإنها تراه مثيرًا لانقسامات داخلية عميقة في الآن ذاته؛ فمن جهة يُعَدُّ الوضع الإنساني المتفاقم في الإقليم أحد مبررات الجبهة لعقد هذه التسوية في هذا التوقيت بالتحديد، وبالفعل وعدت الحكومة الاتحادية بإعادة “الخدمات الأساسية” إلى منطقة تيغراي التي ظلت معزولة خلال الحرب عن الكهرباء والمياه والاتصالات والخدمات البنكية. ووافقت الحكومة على “تسهيل عملية رفع التصنيف الإرهابي” عن جبهة تيغراي والقيادة السياسية للإقليم وقواتها المقاتلة. ومن جهة أخرى، أخفقت الجبهة في التوصل إلى إجماع على الاتفاق، ومن المرجح أن تبقى القيادة العسكرية في تيغراي متماسكة رغم شكوكها في آفاق السلام. أما بالنسبة إلى شعب تيغراي، فإن الأولوية هي الحصول على المساعدات الإنسانية، والحماية من انتهاكات حقوق الإنسان، والعودة إلى ديارهم ومزاولة حياتهم بصورة طبيعية.

3. الأمهرة

تشعر دوائر الأمهرة بالقلق بسبب التنازلات الإقليمية والدستورية التي تضمنها الاتفاق. كما عانى المدنيون والمقاتلون الأمهرة في الحرب، ويشعر بعض قادتهم داخل تحالف “الازدهار” الحاكم بالاستياء؛ لعدم تمثيلهم بصفة مباشرة في المحادثات، وعدم أخذ مصالحهم في الاعتبار. ويشير البند المتعلق بسحب القوات “غير التابعة لقوات الجيش الوطني” من إقليم تيغراي، بوضوح، إلى القوات الخاصة والميليشيات الأمهرية، ولذا تبدو القيادات الأمهرية قلقة من قطع إمداداتها وتواصلها مع إريتريا. كما تنخرط مجموعات الأمهرة أيضًا في صراعات أخرى، حيث تطالب بملكية أراضٍ في مناطق أورومو وبني شنقول، وفي الوقت نفسه تواجه مجتمعات الأمهرة خارج منطقتها التمييز والعنف. وبالإضافة إلى ما سبق؛ فإن منطقة أمهرة متورطة في الخلاف الحدودي بين إثيوبيا والسودان حول منطقة الفشقة، وستكون هذه الخلافات الاختبار المقبل لقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد، حيث سيكون عليه تسويتها بالوسائل الدستورية.

4. إريتريا

لم يشمل الاتفاق وضع قوات إريتريا المجاورة التي قاتلت قواتها إلى جانب الحكومة الاتحادية في الحرب، واتُّهمت بارتكاب أعمال وحشية بما في ذلك المذابح العرقية والعنف الجنسي. ولم يعلق رئيس إريتريا، أفورقي ولا ممثلوه على توقيع اتفاق بريتوريا، الذي يشير إلى أن قوات الدفاع الإثيوبية ستعمل على تعيين الحدود الدولية للحماية من أي “استفزاز أو توغل من كلا جانبي الحدود”، وقد بذل وفد الحكومة الفيدرالية جهودًا مضنية لتجنب ذكر اسم إريتريا في مسودة الاتفاق، وانسجم أوباسانجو مع رواية الحكومة الفيدرالية في هذا الصدد إلى حد المساواة العلنية بين موقف إريتريا وموقف السودان، وتجاهل تمامًا دور إريتريا في تلك الحرب.

رابعًا: عقبات تعترض تنفيذ الاتفاق

يعترض تنفيذ الاتفاق عدد من العقبات، أبرزها مسألة وضع القوات الإريترية في إقليم تيغراي التي لم يتطرق إليها نص الاتفاق على الرغم من دورها المحوري في الصراع. ومع أن الاتفاق ينص على أن الجيش الإثيوبي سينتشر على طول حدود البلاد، فإنه لا يحدد ما إذا كان الجيش الإثيوبي سيضمن انسحاب القوات الإريترية من الإقليم أم لا. ومن المؤكد أنه لا يمكن أن تتحقق أي عملية سلام فعَّالة ما دامت القوات الإريترية منتشرة على أراضي إقليم تيغراي.

ومن غير الواضح أيضًا كيفية تنفيذ الاتفاق؛ فالجدول الزمني السريع الذي تصل مدته 30 يومًا لنزع السلاح الشامل وتسريح مقاتلي تيغراي يثير الشكوك حول إمكانية تنفيذه. وقد مرت تلك المدة الزمنية من دون أن ينفَّذ هذا البند، علاوة على أن الاتفاق لا يحدد القوة التي ستحل محل هؤلاء المقاتلين لتوفير ضمانات أمنية للسكان المدنيين في تيغراي، الذين عانوا انتهاكات واسعة النطاق على أيدي القوات الإثيوبية والإريترية. وينص الاتفاق أيضًا على أن تضمن الحكومة الإثيوبية “المساءلة والتأكد من الحقيقة وإنصاف الضحايا”، ولكن في الواقع تظل الكيفية التي سيتمُّ بها تحقيق هذه المساءلة مبهمة، وهذه مشكلة قد تعصف بأي حلٍّ للأزمة السياسية في إثيوبيا، إذ يتعلق الأمر بمدى إمكانية محاكمة جنرالات وأعضاء الحكومة الفيدرالية على ما ارتكبوه في حق الإقليم من انتهاكات وتجاوزات، أو العفو المشروط عنهم ضمن تسوية شاملة يتبادل فيها الطرفان تنازلات جوهرية.

لهذه الأسباب؛ عُقد اجتماع تكميلي ثانٍ في نيروبي بعد اتفاق بريتوريا للتغلب على بعض أوجه القصور في وثيقة الاتفاق الأساسية، وتمَّ وضع عملية السلام في يد لجنة مشتركة، وربط خطوات تنفيذ بنود الاتفاق بانسحاب القوات الأجنبية والقوات غير التابعة لقوة الدفاع الوطنية الإثيوبية، إلى جانب “مراعاة الوضع الأمني على الأرض”، وهو ما سيوفر خطة تنفيذ مرنة.

موقف الأطراف الدولية والإقليمية من الاتفاق:

الولايات المتحدة

ترتبط إثيوبيا ارتباطًا استراتيجيًّا بالمصالح الحيوية الأمريكية في المنطقة، ويبرز اهتمام ملحوظ بها في وقت النزاعات أو الأزمات، ولطالما واصلت أمريكا دعمها لإثيوبيا والحفاظ على علاقتها معها حتى في أصعب الظروف السياسية والعسكرية (أبرزها بعد سقوط نظام هيلاسلاسي الإمبراطوري المتحالف مع الغرب وانحياز نظام منغستو هيلا مريم للاتحاد السوفيتي في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم)؛ لأن التزام الولايات المتحدة تجاه إثيوبيا ليس التزامًا تجاه نظام حاكم بعينه، وإنما هو التزام تجاه بلد مهم للقوى الكبرى.

فيما يتعلق بالأزمة بين جبهة تيغراي والحكومة الفيدرالية؛ ثمَّة نقاش سياسي دار في دوائر صنع القرار بالخارجية الأمريكية حول ما إذا كان سيتم رفع القيود الاقتصادية المفروضة على إثيوبيا بسبب انتهاكاتها الهائلة لحقوق الإنسان خلال الحرب، وكيفية رفعها في مرحلة ما بعد توقيع الطرفين اتفاق السلام، الذي رحَّبتْ به واشنطن. وبالطبع، فقد كان لأولئك الذين لا يفضلون الإدانة اليد العليا. ويبدو جليًا أن وجهة النظر السائدة في واشنطن تؤيد عودة المياه إلى مجاريها مع إثيوبيا على أساس أن المصلحة الوطنية يجب أن تتفوق على حقوق الإنسان، وهو أمر يصبُّ في مصلحة الحكومة الإثيوبية ويتوافق تمامًا مع رغبتها الملحّة وحاجتها الماسَّة إلى استخدام مبدأ السيادة الوطنية كدرع منيع ضد المساءلة الدولية إزاء الانتهاكات التي حدثت في حرب تيغراي.

الاتحاد الأوروبي

رحَّب الاتحاد الأوروبي باتفاق السلام بين جبهة تيغراي والحكومة الفيدرالية الإثيوبية، إلا أن هناك انقسامات داخل أروقة الاتحاد الأوروبي حول الموقف الأوروبي من الحكومة الإثيوبية، بعد الزيارة التي قامت بها إلى إثيوبيا كلٌّ من وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا ووزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك خلال شهر فبراير من هذا العام، وركَّزتْ الوزيرتان على ضرورة مساءلة مرتكبي الانتهاكات والفظائع التي حدثت في إقليم تيغراي. وبالرغم من حرص أديس أبابا على إعادة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي (أحد أبرز المانحين الدوليين) إلى مسارها الطبيعي عقب قرار الاتحاد الأوروبي إيقاف الميزانية المخصصة لإثيوبيا بعد وقت قصير من اندلاع حرب تيغراي في نوفمبر 2020، فإنه من الصعب التكهن بمدى جدية الحكومة الإثيوبية في مساءلة قواتها والميليشيات التابعة لها بشأن جرائم الحرب التي حدثت.

وإذا كانت الحكومة الإثيوبية تحت ضغط الأوروبيين وغيرهم من شركائها الدوليين إزاء ما يخص موضوع العدالة الانتقالية، فإن الأوروبيين كذلك يرزحون تحت ضغط وقلق متزايد (وهو ما تتعرض له الولايات المتحدة أيضًا) بشأن مخاطر وقوع إثيوبيا بصورة كاملة في يد النفوذين الصيني والروسي في حال تمَّ إقصاؤها وتشديد العقوبات عليها؛ لذلك من المرجَّح ألا تشتدَّ الضغوطات على أديس أبابا فيما يتعلق بآليات تنفيذ المساءلة والعدالة الانتقالية.

الصين وروسيا

يتزايد النفوذ الصيني في القارة الأفريقية بصورة عامة عبر منح القروض ومشاريع التنمية، وبلغ إجمالي ديون إثيوبيا المستحقة للصين حوالي 13.7 مليار دولار. وفي شهر فبراير من هذا العام قام وزير الخارجية الصيني تشين جانغ بزيارة إثيوبيا ضمن جولة أفريقية وافتتح مركزًا طبيًا لمكافحة الأوبئة، لكن موقف الصين بخصوص أزمة تيغراي منذ بدايتها ظل على الحياد وتأكيد الحفاظ على السيادة الإثيوبية وضرورة إيجاد حلول أفريقية للأزمات الأفريقية، وهو موقف اعتبرته بعض الدوائر الغربية منحازًا بصورة ما للحكومة الفيدرالية.

وأما روسيا التي تسعى هي الأخرى جاهدة للدخول إلى الأسواق الأفريقية فتبدو في هذه الأزمة منحازة إلى الحكومة الفيدرالية والأطراف الداعمة لها (ولاسيما إريتريا التي دعمت موقف روسيا في الحرب الأوكرانية). كما سبق أن دعمت الموقف الإثيوبي بشأن بناء سد النهضة. وقد ثمَّن السفير الإثيوبي في موسكو موقف روسيا من أزمة تيغراي والذي وصفه بـ “الإيجابي”، ورحبت روسيا بالاتفاق من جهتها دون تحفظات تُذكر.

مصر

تميزت العلاقة بين مصر وإثيوبيا في السنوات الماضية بالتوتر؛ بسبب مشروع سد النهضة الذي تصرُّ إثيوبيا على بنائه، وترى مصر (ومعها السودان) أن بناءه سيعرقل وصول مياه النيل إليها. طوال الفترة التي استمرت فيها حرب تيغراي لم تتبنَّ الحكومة المصرية بصفة رسمية الانحياز لطرفي النزاع الإثيوبي، على الرغم من أن الإعلام الموالي للدولة كان يصف حرب تيغراي بـ “ربيع الحبشة” في إشارة إلى “الربيع العربي”، وقد رحَّبت القاهرة باتفاق السلام بين الطرفين. ويرى مسؤولون مصريون أن الصراع في تيغراي قد يفيد مصر من ناحيتين: فمن ناحية قد يؤخر بناء سد النهضة بكل تداعياته، ومن ناحية أخرى فإن اتفاق السلام الذي تمَّ توقيعه تحت ضغط دولي هائل قد يجبر الحكومة الإثيوبية لاحقًا على العودة إلى طاولة المفاوضات مع مصر، بشأن مشروع سد النهضة بعقلية أقلَّ عنادًا.

مستقبل الاتفاق بين الجبهة وإثيوبيا

تتميز اتفاقيات السلام في جوهرها بطابع الهشاشة لأنها عملية تهدف للمصالحة بين مجموعات متنافرة، وتلك مسألة شديدة الحساسية تتطلب التنسيق والثقة والالتزام المتبادل بشروط الاتفاق، إلا أن التفوق العسكري الواضح للقوات الحكومية والميليشيات الموالية لها مقابل تراجع قوات جبهة تحرير تيغراي والوضع الإنساني المتداعي في إقليم تيغراي، ربما يساعد على تقوية احتمالات نجاح اتفاقية السلام.

إن تركيز الحكومة الإثيوبية على قداسة السيادة والوحدة الوطنية على حساب موضوع الشراكة السياسية وحقوق الإنسان، وتعهدها بالتزامات غامضة بتحقيق العدالة الانتقالية يطرح تساؤلات حول مدى جديتها في مساءلة الجنود والأطراف المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان خلال حرب تيغراي، خصوصًا مع عدم فاعلية لجانٍ حكومية تمَّ تشكيلها في السابق للتحقيق في أعمال عنف وتجاوزات حدثت عقب انتخابات عام 2005.

وانطلاقًا من ذلك؛ فثمة نقطة مهمة قد تؤثر على مستقبل الاتفاق وتتمثل في عدم وجود إشراف حقيقي وفعَّال للتأكد من تطبيق كامل بنود الاتفاقية على أرض الواقع ومن قِبل جميع الأطراف المعنية، وذلك بالضرورة لا يشمل “فريق المراقبة والتدقيق” الذي شكَّله الاتحاد الأفريقي للإشراف على عملية تنفيذ اتفاق السلام، نظرًا لأن الاتحاد لا يملك في الواقع قدرات وصلاحيات لمحاسبة أي طرف إثيوبي في حال لم يلتزم بتعهداته في الاتفاق.

إريتريا من جهتها قد تؤثر سلبيًا على مستقبل اتفاق السلام، نظرًا لاحتمال أن تُفسِد الاتفاق لكونها لم تشارك في التوقيع، ولم يتمَّ ذكرها بوضوح في بنوده (اكتفى الاتفاق بذكر ضرورة انسحاب القوات الأجنبية دون الإشارة لإريتريا بالاسم)، وهي بالتالي ليست مُلزَمة بأي شيء محدد، مع أنها أحد أطراف النزاع الرئيسية في حرب تيغراي.

 والسؤال هنا هو: كيف ستستجيب الحكومة الإريترية لاتفاقية السلام؟ وهل ستسعى إلى تعطيلها؟

وفي حال انهار اتفاق السلام هذا، فمن المحتمل جدًا أن يجري استبدال القيادة التيغراوية الحالية التي أظهرت استعدادًا لتقديم تنازلات استراتيجية من أجل السلام، لتحل محلها قيادة أكثر راديكالية.

إن اتفاق بريتوريا / نيروبي للسلام بين جبهة تيغراي والحكومة الفيدرالية الإثيوبية هو فرصة جديدة للنظام الحاكم في أديس أبابا لرأب الصدع وتضميد الجراح والمضي قدمًا نحو محاولات إيجاد حلول واقعية وفعَّالة للأزمات السياسية المحلية؛ لكون النظام الحاكم هو الطرف الأقوى في هذه الأزمة، وعليه تقع المسؤولية الكبرى في المستقبل لتعزيز السلام والاستقرار.

خاتمة

ثمة ظروف داخلية وخارجية أجبرت الطرفين على قبول الجلوس على طاولة المفاوضات وعقد تسوية معينة. ويبدو أن الوضع الاقتصادي والإنساني والعسكري الصعب الذي واجهته الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي دفعها إلى هذا الخيار الذي وصفته بأنه “مؤلم”، أما حكومة آبي أحمد فعلاوة على المشكلات الاقتصادية المتفاقمة؛ فإنها تواجه اضطرابات في أجزاء أخرى من البلاد، ومنها موجة الهجمات القتالية العرقية التي هزت مناطق أوروميا والإقليم الصومالي في الأشهر الأخيرة؛ الأمر الذي زاد من زعزعة الاستقرار في البلاد وحدا بإدارة آبي أحمد إلى تسريع عقد تسوية مع جبهة تيغراي.

أما ديمومة هذا الاتفاق فتتوقف على التوصل إلى حل مشترك لإخراج القوات الإريترية من مناطق تيغراي وتحقيق المساءلة والعدالة الانتقالية للإقليم، ومعالجة الوضع الإنساني، وكل ذلك مرهون بجدية الحكومة الفيدرالية في إنجاح الاتفاق، ومرهون أيضًا بالدور الذي سيؤديه الاتحاد الأفريقي والأطراف الخارجية الأخرى في ممارسة الضغط على الطرفين. وعلى الرغم من المحاذير القائمة فإن دعائم عملية السلام على أرض الواقع قوية، فجبهة تيغراي والحكومة الاتحادية غير قادرتين على تحمل العودة إلى الحرب في الوقت الراهن، وقد تنهاران إذا لم يتم تنفيذ بنود اتفاق بريتوريا/نيروبي لضمان فتح أفق سياسي جديد للبلاد.