مقدمة
في تحول مفاجئ ولكنه كان متوقعًا، انزلق السودان إلى دائرة المواجهات المسلحة بين قوات الجيش بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، وقوات الدعم السريع بقيادة نائبه محمد حمدان دقلو "حميدتي". وتمثل هذه المواجهة المسلحة ذروة الأزمة السياسية المركبة التي يختبرها السودان منذ قرارات الجيش في أكتوبر 2021 بإنهاء الشراكة بين العسكريين والمدنيين. وبرغم التوصل إلى اتفاق سياسي إطاري بين الطرفين في ديسمبر المنصرم، فإن الصراع الكامن والمعلن بين البرهان ونائبه، ضمن عوامل أخرى، أعاق الشروع في عملية الانتقال السياسي وتأسيس سلطة مدنية تعمل على إنهاء الأزمة السياسية في البلاد.
تعمد هذه الورقة إلى تحليل تطورات الأزمة السودانية، واستقراء العوامل الأساسية التي أفضت إلى انفجارها في صورة اشتباكات مسلحة بين قوات الجيش و"الدعم السريع" في أنحاء متفرقة من البلاد، وتوضيح المواقف الدولية والإقليمية إزاءها، ومحاولة رسم سيناريوهات تطور هذا الصراع واستشراف مستقبل الأزمة.
أولًا- تطورات الأزمة والأسباب التي أدت إلى تفجرها:
دخل السودان في أزمة سياسية منذ 25 أكتوبر 2021؛ إثر قرارات قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان إنهاء الشراكة مع تحالف الحرية والتغيير (الائتلاف الحاكم)، وتجميد كل بنود الوثيقة الدستورية لعام 2019 ذات الصلة بالشراكة بين العسكريين والمدنيين، وإعلان حالة الطوارئ، ووضع وزراء ومسؤولين قيد الاحتجاز بمن فيهم رئيس الوزراء وقتذاك عبدالله حمدوك. وكان لهذه القرارات أثرٌ مزدوج في المجتمع السوداني؛ فبعض القوى السياسية والشعبية أيّدتها كونها تصحيحًا للمسار، والبعض الآخر نعتها بالانقلاب وقام بتنظيم احتجاجات متواترة للمطالبة بإعادة السلطة للمدنيين.
وفي 21 نوفمبر 2021، وقع قائد الجيش السوداني ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك اتفاقًا سياسيًا بهدف إنهاء الأزمة التي تمر بها البلاد. وتضمن اتفاق البرهان-حمدوك عدة بنود، أبرزها إلغاء قرار سابق بإعفاء حمدوك من منصبه، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، والإسراع في تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالي، وتكوين حكومة مدنية من الكفاءات المستقلة، وإجراء تحقيق في أحداث وقعت أثناء التظاهرات من وفيات وإصابات للمدنيين والعسكريين. واعتبر الاتفاق الوثيقة الدستورية المرجعية الأساسية لاستكمال المرحلة الانتقالية، التي يُشرف عليها مجلس السيادة.
لكن رئيس الوزراء عبدالله حمدوك استقال من منصبه بعد أقل من شهرين من توقيع الاتفاق. وجاءت استقالته إثر عجزه عن تشكيل حكومة وسط خلافات مع المكون العسكري للسلطة بقيادة البرهان، وعدم قدرته على تحقيق التوافق السياسي مع استمرار الاحتجاجات الشعبية.
ثم طُرحت عدة مبادرات لتسوية الأزمة السودانية، تبنتها أحزاب وقوى سياسية (حزب الأمة القومي وتنظيم الجبهة الثورية والحركة الشعبية والحرية والتغيير) وتنظيمات مدنية (أساتذة جامعة الخرطوم ومديرو الجامعات السودانية و”نداء أهل السودان”) وبعثة الأمم المتحدة المتكاملة في السودان (يونيماس) والآلية الثلاثية المكونة من يونيماس والاتحاد الأفريقي ومنظمة “إيغاد” IGAD. ولكن لم تُكلل إحداها بالنجاح. وأخيرًا توصلت الأطراف إلى توافق في ديسمبر 2022، حيث أفضت المحادثات بين مجلس السيادة، الممثل للقوات المسلحة، والقوى السياسية المدنية، وعلى رأسها الحرية والتغيير-المجلس المركزي، إلى توقيع الاتفاق السياسي الإطاري، الذي يفتح الباب لمرحلة انتقال سياسي وتأسيس سلطة مدنية تعمل على إنهاء أزمة البلاد التي اقتربت من إكمال سنوات ثلاث عجاف. وتتمثل أهم بنود الاتفاق في أن يتولى القائد العام للجيش رئاسة الدولة، واختيار رئيس وزراء انتقالي من قبل قوى الثورة، وتنظيم انتخابات في نهاية الفترة الانتقالية المحددة بعامين.
الاشتباكات المسلحة بين الجيش و”الدعم السريع”
كان تصاعد التوتر بين الجيش وقوات الدعم السريع في الأشهر الماضية هو العامل الرئيسي لتأجيل توقيع الاتفاق النهائي التنفيذي لما تم التوصل إليه في 5 ديسمبر. وبرغم عقد لقاء بين قائد الجيش عبدالفتاح البرهان ونائبَه محمد حمدان دقلو “حميدتي”، في 12مارس لخفض التوتر وتجاوز نقاط الخلاف، أظهرت المواجهات المسلحة بين الطرفين في صباح 15 إبريل الجاري أن ثمة أسبابًا عميقة للصراع بين القائدين لم يتم تجاوزها.
وفيما ألقى كل طرف باللوم على الآخر في تفجر الصراع، تتواصل الاشتباكات المسلحة بين الجيش وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم ومناطق أخرى مختلفة في شمالي السودان وشرقه وغربه. فقد بدأت الاشتباكات العنيفة وسط وجنوب العاصمة السودانية الخرطوم، ولاسيما على تخوم القصر الرئاسي وقيادة الجيش وفي الحي العسكري، وانتشرت بسرعة عبر النيل إلى أم درمان. كما اندلعت اشتباكات مماثلة بمدينة مروي (شمالي السودان)، وقرب مطار الأبيض (غربي السودان)، وفي الفاشر ونيالا (ولاية شمال دارفور). وثمة أنباء متضاربة عن مسار الاشتباكات ومآلاتها، ولكن الشيء المؤكد أنّ الجيش السوداني لم يفقد السيطرة على مقر القيادة العامة للقوات المسلحة كما أعلنت الدعم السريع، بل له اليد العليا في القتال الدائر حولها بعد محاولة قوات الدعم السريع اقتحامها، وأنّ القصر الرئاسي والمنشآت الحيوية العسكرية عدا موقع جنوب الخرطوم مازالت تحت سيطرة الجيش. وهناك تقارير صحفية تشير إلى استعادة قوات الجيش السيطرة على مطاري الخرطوم ومروي، وسيطرته على مقر “الدعم السريع” في أرض المعسكرات بسوبا في الخرطوم أو نجحت في تطويقها على الأقل. بالمقابل، سيطرت “الدعم السريع” على قاعدتي مروي وجبل الأولياء الجويتين وقواعد عسكرية في الفاشر عاصمة ولاية دارفور.
وثمة تطور نوعي في الصراع الدائر بين الطرفين يتصل بسيطرة قوات الدعم السريع على الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، وتوظيف طائرات مقاتلة من قبل الجيش السوداني لقصف مواقع تابعة للدعم السريع، وإصدار قيادة الجيش قرارًا بحل قوات الدعم السريع وإنهاء انتداب جميع ضباط وأفراد الجيش لديها.
عوامل الصراع بين الجيش و”الدعم السريع”
يعود الصراع بين قيادة الجيش والدعم السريع إلى تاريخ تكوين هذه القوات في 2013 في عهد الرئيس السابق عمر البشير. فقد رفض الجيش وقتها إلحاق هذه القوة (التي يرجع أصلها إلى الميليشيا السابقة المعروفة باسم الجنجويد) بالجيش السوداني بسبب تكوينها الذي يعتمد على مكونات قبلية محددة. ومن ثم، تم إلحاقها بجهاز الأمن والمخابرات، وسرعان ما تحولت في 2017 إلى قوات منفصلة تخضع لإمرة رئيس الجمهورية، الذي كان يشغل أيضًا منصب القائد الأعلى والعام للجيش السوداني. وتجدّد الصراع بعد اندلاع ثورة ديسمبر 2018 خاصة عقب الإطاحة بالبشير في إبريل 2019، بسبب رفض الفريق حميدتي العمل مع رئيس المجلس العسكري الجديد الفريق عوض بن عوف؛ ما عجّل بانسحاب بن عوف سريعًا من المشهد.
وفي الأشهر الأخيرة، وجه الرجلان في خطاباتهما انتقادات مبطنة لبعضهما البعض، ونقلا تعزيزات ومركبات مدرعة إلى معسكرات عسكرية متنافسة في جميع أنحاء الخرطوم. ففي مقابلة مع محمد حمدان دقلو بثتها “بي بي سي” BBC، في 1 أغسطس 2022، اعترف دقلو الشهير بـ “حميدتي”، بفشل أهداف الإجراءات التي اتخذها الجيش السوداني في 25 أكتوبر 2021.
وبشكل عام، تتمحور الخلافات الحقيقية والتي أدت للمواجهة المسلحة بين الطرفين حول ما يلي:
- مسألة دمج قوات الدعم السريع في الجيش، إذ يُصر قادة الجيش السوداني، وعلى رأسهم الفريق عبدالفتاح البرهان، على الدمج السريع لقوات الدعم في الجيش؛ وهو الأمر الذي يرفضه حميدتي. وفي هذا الخصوص، أكد البرهان إنه وقع على الاتفاق الإطاري (5 ديسمبر 2022)؛ لأنه يحقق مبدأ الدمج، وإنْ لم يتحقق ذلك فلن يمضي في الاتفاق للأمام. والواقع أنّ عملية دمج الدعم السريع تحظى بإجماع وسط الجيش السوداني، بل وتعتبر قضية أمن قومي لها الأولوية. كما طالب الجيش أيضًا بجعل شركات قوات الدعم السريع تابعة لوزارة المالية والإجراءات الحكومية المعروفة، واشترط أن يكون هو من يحدد تحركات وانتشار القوات وفق عملية الدمج، وهو ما رفضته قيادة قوات الدعم السريع.
- الطموحات والتحالفات السياسية للفريق حميدتي والتي أقلقت قيادة الجيش. فقد أظهر حميدتي تطلعاته السياسية بالشروع في تكوين تحالف يعتمد على أعيان القبائل وزعماء الطرق الصوفية وقوى الحرية والتغيير ورسم صورة لنفسه بمناصرة الثورة وحكم المدنيين. وقد رأت قيادة الجيش، وعلى رأسهم البرهان، في هيمنة حميدتي على السلطة في المستقبل تهديدًا أمنيًا، بل رأوا في طموحه السياسي تمهيدًا للتمرد إن لم يتم دمج قواته في الجيش بشكل سريع. وتأكيدًا لذلك، أكد الجيش السوداني أن الأطماع الشخصية لقيادة الدعم السريع هي التي قادت لتفجير الصراع.
- الصراع على السلطة والنفوذ بين الجانبين، حيث أبانت تفاعلات ما بعد 25 أكتوبر 2021 عن صراع على السلطة والنفوذ بين البرهان وحميدتي. وثمة تقارير إعلامية تحدثت عن محاولات الأول تقليص نفوذ الأخير، وأن توقيع الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر المنصرم لم يكن سوى خطوة على هذا الطريق. والحقيقة أنه إذا تم وضع ذلك الاتفاق موضع التطبيق، فسوف يحتفظ البرهان بمنصب القائد العام ورئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي سيضم نحو 14 جنرالًا وممثلًا واحدًا للدعم السريع؛ الأمر الذي تصوره حميدتي عملية احتواء ناعم لنفوذه ونفوذ قواته.
وثمة من حمّل أطرافًا خارجية مسؤولية تفجر الصراع، ومن ذلك على سبيل المثال اتهام قوى الحرية والتغيير، من وصفتهم بـ “فلول” نظام البشير بتأجيج الخلاف بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، بهدف تدمير العملية السياسية.
ثانيًا- المواقف الإقليمية والدولية:
لقيت التطورات في السودان ردود أفعال واسعة عربية وإقليمية ودولية عبرت في مجملها عن القلق الشديد مما يجري والخوف من تفاقم الوضع وعدم السيطرة عليه ودعت جميعها إلى التهدئة ووقف إطلاق النار والعودة إلى الحوار والتفاوض. وفيما يلي أبرز المواقف الإقليمية والدولية:
- على المستوى العربي، غلب على المواقف التعبير عن القلق والدعوة لضبط النفس وإنهاء القتال فورًا وإبداء الاستعداد للتوسط بين الأطراف المتصارعة، ولم تبرز أي مواقف يمكن أن تحسب لصالح طرف دون الآخر. فقد أعربت جامعة الدول العربية عن عميق القلق والانزعاج إزاء الأحداث وشجب أمينها العام أحمد أبو الغيط اللجوء إلى السلاح والاقتتال، وأكد مسؤولية الأطراف المتحاربة في الحفاظ على أمن وسلامة المدنيين وطالب بوقف التصعيد وحقن الدماء بشكل فوري وأعلن استعداد الجامعة العربية للوساطة. وكانت دولة الإمارات من أوائل الدول التي عبرت عن قلقها ودعت كافة أطراف النزاع إلى التهدئة وضبط النفس وخفض التصعيد والعمل على إنهاء الأزمة بالحوار، بينما طالبت مصر كافة الأطراف بممارسة أقصى درجات ضبط النفس وإعلاءً المصالح العليا للوطن.
ولم يبتعد الموقف السعودي عن هذا الاتجاه فقد أعربت السعودية عن القلق البالغ ودعت المكون العسكري وجميع القيادات السياسية إلى تغليب لغة الحوار والحكمة، وربما تعد دعوتها إلى استكمال الاتفاق الإطاري تأييدًا غير مباشرًا لموقف الجيش. وكذلك الأمر بالنسبة لمواقف بقية الدول العربية حيث تتمحور حول نفس الاتجاه الداعي للتهدئة وإنهاء القتال.
- وعلى المستوى الأفريقي، كان الاتجاه الغالب أيضًا الحياد ولا يوجد هناك ما يشير إلى تأييد طرف على حساب آخر؛ فقد عبرت الهيئة الحكومية للتنمية “الإيغاد”، والتي تضم 8 دول من بينها السودان عن بالغ القلق، وحثت كلا الجانبين على التوقف فورًا عن القتال، وحل خلافاتهما من خلال الحوار. وكذلك فعلت معظم الدول الأفريقية الأخرى التي دعت في العموم إلى التهدئة ووقف القتال.
- وعلى المستوى الدولي، كان الاتجاه الغالب التعبير عن القلق والدعوة للتهدئة، ولكن بعض القوى الدولية وجهت انتقادات مبطنة للاتفاق الإطاري ومن بين هذه الدول الولايات المتحدة التي عبرت من خلال وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، عن القلق الشديد للغاية من الانزلاق للصراع المسلح، ودعت إلى وقف فوري لإطلاق النار وتجنب مزيد من التصعيد، وكان اللافت في تصريح بلينكن هو حديثه عن وجود مسائل عالقة يتوجب معالجتها لدعم الاتفاق الإطاري، ما قد يشير ضمنًا إلى تفهم لموقف حميدتي. وكذلك الأمر بالنسبة لموقف بريطانيا التي دعا وزير خارجيتها القيادة السودانية لبذل قصارى جهدها "لكبح جماح قواتها ووقف التصعيد لمنع سفك المزيد من الدماء".
أما الاتحاد الأوروبي فكان أكثر دبلوماسية في موقفه، حيث دعا مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد، جوزيب بوريل، جميع القوى في السودان إلى وقف العنف فورًا، بينما نددت الأمم المتحدة عبر مبعوثها الخاص في السودان فولكر بيرتس، بشدة، باندلاع القتال في البلاد. ولم تخرج روسيا عن نفس الخط الدولي، ولكنها كانت أكثر هدوءًا وتفاؤلًا، حيث دعت إلى وقف إطلاق النار ولكنها توقعت أن ينتقل الوضع من المرحلة المسلحة إلى المرحلة التفاوضية سريعًا.
ويتضح من هذه المواقف مدى القلق الإقليمي والدولي من التطورات الأخيرة في السودان، ومخاوف جدية من احتمال تفاقم الصراع والانزلاق نحو حرب أهلية جديدة، خاصة وأن البلاد تعاني من وضع سياسي معقد منذ إطاحة نظام حسن البشر عام 2019، حيث اشتدت حدة الصراع بين القوى المختلفة ولا سيما العسكرية التي يمثلها الجيش وقوات الدعم السريع، والقوى المدنية التي كان لها دور بارز في إسقاط حكم البشير. والآن يتطور الصراع ليصبح بين ما يمكن تسميته قطبي المكون العسكري نفسه.
ولا شك أن الموقف الإقليمية والدولية من الأزمة السودانية عمومًا، تبدو أعمق بكثير مما أظهرته البيانات التي غلب عليها الطابع الدبلوماسي المعهود، ويتوقع أن تتضح بشكل جلي بعد أيام، خاصة إذا ما استمر الصراع، حيث ستجد الدول نفسها أمام مصالحها، وربما تنتظر حتى تنجلي الصورة أكثر وتبرز مؤشرات أوضح فيما يتعلق بالجهة الأكثر قدرة على حسم الأمور لصالحها والتي تبدو مبدئيًا الجيش، بحكم أنه يمثل الدولة ويتمتع-فضلًا عن الشرعية الداخلية بدعم إقليمي، خاصة من الدول العربية التي تتبنى في العموم موقفًا داعما للدولة.
فإقليميًا يعد الاتحاد الأفريقي أحد الأطراف الرئيسية المنخرطة في الوضع السوداني، حيث شارك بنشاط في التوسط في الصراع ودعا المجلس العسكري الانتقالي والقادة المدنيين إلى العمل معًا لإنشاء حكومة مستقرة وديمقراطية وهو أقرب لموقف الجيش. كما تميل المواقف العربية نحو دعم المؤسسات التي تمثل الدولة والشرعية في البلاد، ومن ثم فإن دعمها سيكون أوضح للجيش السوداني اذا استمر الصراع لفترة أطول.
أما دوليًا، فإن المواقف الغربية ستذهب إلى التأكيد على ضرورة وقف الصراع المسلح في البداية، ثم التأكيد على ضرورة استكمال العملية السياسية بما يسمح بعودة الحكم المدني للبلاد. فكثيرًا ما تعرب هذه الدول، وخاصة الولايات المتحدة عن دعمها لحكومة بقيادة مدنية، وقد سبق أن ربطت رفع العقوبات وتقديم المساعدات بتشكيل حكومة انتقالية في السودان ومن ثم فإنها ستحافظ على نفس الموقف وستميل أكثر للطرف الذي يتحدث عن تحول ديمقراطي. وقد تستغل هذه القوى الغربية الوضع الحالي للضغط على الجيش من أجل تقديم تنازلات لصالح القوي المدنية.
ثالثًا- سيناريوهات الأزمة وتأثيرها على العملية السياسة في السودان:
تتخذ الأزمة في السودان أبعادًا متسارعة، الأمر الذي يجعل كل السيناريوهات مفتوحة، خاصة مع تعقد العملية السياسية، وتزايد المخاطر والتحديات التي تحيط بالسودان من كل جانب. وفي هذا الإطار، فإن هناك أربعة سيناريوهات للأزمة المشتعلة بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع، وهي كما يلي:
السيناريو الأول: التهدئة والدمج في القوات المسلحة، وهو السيناريو الأكثر تفاؤلًا والمرغوب فيه. ويتحقق هذا السيناريو في حال ما يلي: أولًا، نجاح جهود الوساطة الدولية والإقليمية بين طرفي الأزمة ووقف الصراع العسكري بين الطرفين والجلوس معًا لوضع ترتيبات تضمن عدم الانزلاق إلى حرب أهلية بين الطرفين. ثانيًا، حل العوائق التي أدت إلى تعثر الاتفاق على دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة والتي من بينها المدى الزمني الذي يعتبر أبرز نقاط الخلاف بين الجيش والدعم السريع، إذ يطالب الجيش بمدى زمني محدد لا يتجاوز فترة الانتقال السياسي، وهي خمس سنوات، في حين تطالب قوات الدعم السريع بفترة زمنية للانتقال تصل إلى عشر سنوات. وأيضًا وضعية قيادة القوات والتجنيد لقوات الدعم السريع، وتسريع عملية إعادة تأهيل وإصلاح الجيش. ثالثًا، الابتعاد عن سياسات “استقطاب المواقف”، حيث انتقلت الخلافات بين المكون المدني في السودان إلى المكون العسكري وأثرت سلبيًا على مواقفه الموحدة، إذ تسعى القوتان العسكريتان، الجيش وقوات الدعم السريع، إلى دعم بعض الأطراف في المكون المدني التي تتفق معها سياسيًا. والجدير بالذكر أن رؤساء وقادة أحزاب الحرية والتغيير قد دعوا المكون العسكري بأن يتخذوا من العملية السياسية وإنجاحها أساسًا لوحدة المكون العسكري وحل قضايا الإصلاح والدمج والتحديث في إطار بناء جيش مهني واحد. ذلك في ظل ربط الجيش التوقيع على الاتفاق السياسي بدمج قوات الدعم السريع في الجيش كجزء من الاتفاق النهائي للعملية السياسية. وفي حال حدوث هذا السيناريو فإن العملية السياسية في السودان قد تشهد تطورًا كبيرًا قد يصل بها الحال إلى الوصول إلى استحقاقات انتخابية رئاسية مبكرة تحظى بدعم المجتمع الدولي.
السيناريو الثاني: التهدئة دون الدمج، وهو سيناريو وسط، ولكنه غير مرغوب فيه لأنه يجعل العملية السياسية في السودان، والاتفاق النهائي بين المكون المدني والعسكري، قابلًا للانفجار طوال الوقت. وقد يحول في الوقت ذاته دون الوصول إلى انتخابات رئاسية، وثم استمرار العملية الانتقالية. وقد يتحقق هذا السيناريو بناء على المعطيات التالية: أولًا، نجاح الوساطة من قبل الأطراف الدولية والإقليمية في تحقيق تهدئة بين الطرفين لكن دون إنهاء المشكلات التي حالت دون إتمام عمليات دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة. ثانيًا، أن يتم الاتفاق على استكمال عملية الدمج لكن دون جدول زمني محدد. الأمر الذي يجعل كل طرف من المكون العسكري أن يتوجس خيفة من الطرف الآخر ويعمل على تقوية وتدعيم مركزه العسكري، وربما السياسي من خلال محاولة استقطاب القوى المدنية خاصة قوى الحرية والتغيير.
ومما لا شك في أن نجاح العملية السياسية في ظل هذا السيناريو ستكون صعبة للغاية. وبالرغم من ذلك قد يشهد السودان في ظل هذا السيناريو انتخابات رئاسية بدعم من قوى إقليمية ودولية، وتحت إشراف من الأمم المتحدة، ولكن دون تحقيق استقرار دائم وكلي في البلاد، وسوف يخضع الرئيس الجديد إلى ضغوطات كبيرة من الجيش وقوات الدعم السريع معًا.
السيناريو الثالث: احتمال حسم الوضع لصالح الجيش: من المحتمل أن يتمكن الجيش من بسط السيطرة خاصة في ظل الحديث عن حل قوات الدعم السريع، حيث يتوقع أن يلتحق الكثير من ضباط وعناصر هذه القوات بالجيش. وهذا يعني أن الأمور قد تستتب نسبيًا وتدريجيًا لصالح القوات المسلحة، خاصة إذا تلقت دعمًا ماليًا وعسكريًا كبيرًا من قبل الدول التي تؤيد مؤسسات الدولة. ومع ذلك، فإن قرار الحل الذي اتخذه الفريق البرهان أيضًا محفوف بالمخاطر، وقد يعني استمرار الصراع المسلح، حيث سيغلق أبوب التفاوض، بانتظار الحسم العسكري، وقد تطول الحرب خاصة إذا تلقى الطرفان دعمًا خارجيًا، ومن ثم قد يتطور الصراع باتجاه حرب استنزاف، ولاسيما أن قوات الدعم السريع لازالت تتمتع بشعبية في مناطق متعددة من البلاد وتحظى بدعم قوى وأحزاب سياسية.
السيناريو الرابع، اندلاع حرب أهلية، وهو السيناريو الأكثر تشاؤمًا، وغير المرغوب فيه على الإطلاق من القوى الداخلية أو الدولية. وقد يتحقق هذا السيناريو في حال: أولًا، تطور الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع ولجوء كلا الطرفين إلى أطراف خارجية للحصول على الدعم المادي والعسكري. ثانيًا، فشل جهود الوساطة الدولية والإقليمية والوصول إلى طريق مسدود بين الطرفين. ثالثًا محاولات لاغتيال الفريق عبدالفتاح البرهان أو قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان “حميدتي” في هذا التوقيت سوف تكون بمثابة صب الزيت على النار، لأنها سوف تعقد محاولات الوصول إلى التهدئة وقد تشعل حربًا أهلية في البلاد، خاصة مع ما يشهده إقليم دارفور مؤخرًا من هجمات على ضباط في الجيش وقوات أمنية، الأمر الذي قد يؤدى إلى إعادة حالة “اللا أمن” في الإقليم مرة أخرى، التي قد تمتد إلى ولايات أخرى في السودان.
إن حدوث هذا السيناريو، غير المرغوب فيه، قد يؤدي إلى اشتعال المعارك بين طرفي الأزمة، الأمر الذي يؤدي إلى إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وربما إنهاء العملية السياسية الجارية الآن برمتها، ودخول البلاد في فوضى قد تمتد إلى سنوات.
وفي النهاية، يمكننا القول إن حدوث أحد هذه السيناريوهات قد لا يعني عدم المرور بالسيناريوهات الأخرى. كما أن الأمر يتطلب الآن سرعة التدخل من قبل المجتمع الدولي، والقوى الإقليمية، التي تحظي بقبول واسع من كلا الطرفين لتجنب انزلاق السودان إلى ما لا يحمد عقباه.