تمثِّل السياسة الخارجية أحد أهم معالم الاستقطاب والاختلاف بين المتنافسين في الانتخابات التركية المقبلة، وخصوصاً التحالفَيْن الرئيسيَّين: الجمهور الحاكم والشعب المعارض.
وعلى الرغم من أن السياسة الخارجية ليست في مقدمة المعايير التي تصوغ آراء الناخبين في العادة، إلا أنها ستكون عاملاً مؤثراً في الانتخابات القادمة. ومع أن مختلف الأحزاب والتيارات السياسية التركية تتفق على الاهتمام بالقضية الفلسطينية، إلا أن هناك فروقاً في زاوية الاهتمام والتعاطي وأسلوب الخطاب وسبل الدعم.
تبحث الورقة في مدى حضور القضية الفلسطينية في برامج الأحزاب المتنافسة في الانتخابات التركية المقبلة ومرشحيها للرئاسة، ومدى تأثيرها في الحملات الانتخابية التي بدأت، ومدى الافتراق بينها بخصوص التعاطي مع تطورات القضية الفلسطينية كترجمة عملية للبرامج الانتخابية. وتخلص الورقة إلى أن حضور السياسة الخارجية في الانتخابات المقبلة ضعيف، وحضور القضية الفلسطينية فيها أضعف، إلا أن الأمر لا يتوقف فقط على البرامج الانتخابية والتصريحات، بل ثمة عوامل أخرى أكثر تأثيراً منهما.
مقدمة:
لا تشكل السياسة الخارجية في العادة معياراً رئيسياً في توجهات الناخب التركي، إذ تتقدم عليها عوامل داخلية أكثر أهمية وإلحاحاً في نظر الشارع، مثل الاقتصاد، والأيديولوجيا، وشخصيات المرشحين، وخلفياتهم. وفي الانتخابات المقبلة، تحضر هذه العوامل بشكل لافت، ويضاف لها عوامل مستجدة مثل ملف اللاجئين، والأجانب المقيمين على الأراضي التركية وفي مقدمتهم السوريون، والزلزال المدمر الذي ضرب جنوب البلاد متسبباً بموت عشرات الآلاف، ونزوح الملايين، وخسائر اقتصادية فادحة قُدِّرت بأكثر من 100 مليار دولار، وتأثر به زهاء 15 مليون إنسان في العموم.
ثمة رابط أيديولوجي بين الإسلاميين والمحافظين في تركيا والقضية الفلسطينية، ولذلك فهي تحضر عادة في برامجهم الانتخابية؛ كقضية يتبنونها بغض النظر عن تأثيرها في سير العملية الانتخابية، لكن ذلك لا يعني عدم اهتمام الآخرين بها. ولذلك تحضر القضية الفلسطينية في الحملات الانتخابية وبرامج الأحزاب المتنافسة بهذه الدرجة أو تلك، لا سيّما في حال وجود تطورات مهمة في القضية الفلسطينية نفسها. كما أن تزامن الانتخابات المقبلة بعد عودة العلاقات الديبلوماسية بين تركيا ودولة الاحتلال يلقي مزيداً من الضوء على موضوع البحث لمزيد أهميته.
تركيا والقضية الفلسطينية:
تبدل الموقف التركي الرسمي خلال سنوات حكم الرئيس رجب طيب أردوغان Recep Tayyip Erdoğan والعدالة والتنمية عدة مرات من دولة الاحتلال وفقاً للتطورات، لكن الموقف الرسمي المعلن بخصوص حلّ القضية الفلسطينية بقي مستقراً إلى حدّ كبير.
تصوغ أنقرة موقفها التقليدي من القضية الفلسطينية بناء على عدة اعتبارات دينية وتاريخية وثقافية وسياسية، في مقدمتها المشتركات الدينية مع الفلسطينيين والإرث العثماني في الأراضي الفلسطينية من جهة، والعلاقات الممتدة مع دولة الاحتلال التي كانت أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بها من جهة ثانية.
ثمة تعاطف سياسي وحزبي وشعبي تركي مع القضية الفلسطينية، متجاوز للعرقيات والخلفيات السياسية والأيديولوجية، ويقاربه كل طرف من زاويته الخاصة، وشعور بالمظلومية الفلسطينية في مواجهة السياسات التعسفية للاحتلال. لكن أيضاً في المقابل، ثمة تقييدات تتعلق بعضوية أنقرة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) North Atlantic Treaty Organization (NATO)، وعلاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد.
وإذا كانت تركيا تدرك أهمية القضية الفلسطينية لأي قوة إقليمية صاعدة وطموحة للعب أدوار مهمة في المنطقة، فإن بعض التطورات الإقليمية تدفعها أحياناً لفكرة التعاون مع “إسرائيل” لا سيّما حين تتقاطع المصالح ولو ظاهرياً، وهو ما كان حاصلاً بشكل معمق في تسعينيات القرن العشرين.
لكل ما سبق وغيره من الأسباب والعوامل، يبدو الموقف التركي من القضية الفلسطينية مركباً وأحياناً مستشكلاً على الفهم. فهي على علاقات جيدة مع دولة الاحتلال والسلطة الفلسطينية وبعض فصائل المقاومة في آنٍ معاً، وهي ملتزمة بحل الدولتين وتدعم “المبادرة العربية للسلام، لكنها تصف “إسرائيل” أحياناً بدولة الإرهاب. وهي حريصة على تطوير علاقاتها مع “إسرائيل” لكن ذلك لا يمنعها من انتقادها بحدة، كما أن علاقاتها مع الاحتلال كانت في حالة مدّ وجزر خلال الـ 15 عاماً الأخيرة، ولها اهتمام بعموم القضية الفلسطينية، مع عناية خاصة بالوضع الديني في القدس والإنساني في غزة.
مرت العلاقات التركية – الإسرائيلية في عهد العدالة والتنمية في حالات مدّ وجزر ضمن عدة محطات أهمها: قطع العلاقات الديبلوماسية في 2010 إثر الاعتداء على سفينة مافي مرمرة (مرمرة الأزرق) Mavi Marmara، وسقوط 10 شهداء من النشطاء الأتراك، وعودة العلاقات باتفاق تطبيع العلاقات في 2016، ثم تراجع العلاقات الديبلوماسية في 2018 إثر الاعتداء على مسيرات العودة وقرار الإدارة الأمريكية بنقل السفارة للقدس، ثم عودة العلاقات في 2023.بيد أن المحطة الأخيرة من عودة العلاقات تختلف عن سابقتها من عدة زوايا، أهمها:
أولاً، أن تطوير العلاقات مع الاحتلال لا يأتي هذه المرة بشكل منفرد كما في السابق، وإنما في إطار مسار متكامل لتحسين علاقات أنقرة مع عدد من الأطراف الإقليمية، مثل مصر والسعودية والإمارات والبحرين وحتى اليونان وأرمينيا، ولأسباب تتخطى العلاقات المباشرة مع الاحتلال أو حيثيات القضية الفلسطينية وتطوراتها.
ثانياً، أن عودة العلاقات الديبلوماسية وتبادل السفراء أتت في ظلّ حالة عدم استقرار لدى الاحتلال الذي يخوض انتخابات مبكرة جديدة، كانت الخامسة خلال السنوات الثلاث الأخيرة. الأمر الذي يوحي بأن تركيا غير مهتمة كثيراً بشكل الحكومة الإسرائيلية الجديدة وتوجهاتها، أو أنها تحاول أن تستبق أي تغير في الحكومة، أو الأمرَين معاً.
ثالثاً، أن مسار عودة العلاقات أتى في مدة زمنية شهدت اعتداءات متكررة على الفلسطينيين، وتحديداً في قطاع غزة، وفي مقدمتها ما أسماه الاحتلال عملية “الفجر الصادق” (قابلته حركة الجهاد بمعركة “وحدة الساحات”) التي بدأها الاحتلال في غزة ضدّ حركة الجهاد الإسلامي في آب/ أغسطس 2022، وقبلها ما أسماه الاحتلال معركة “حارس الأسوار” في 2021 (قابلته المقاومة الفلسطينية بمعركة “سيف القدس”)، وهو أمر له دلالته من حيث مدى ارتباط علاقات تركيا مع الاحتلال بسياساتها تجاه الفلسطينيين.
رابعاً، كما أن عودة العلاقات بين تركيا والاحتلال أتت بعد ما سمي بـ”اتفاقات أبراهام Abraham Accords” بين الأخير وعدد من الدول العربية، وهي الاتفاقات التي شجبتها أنقرة في حينه وقالت إنها “خيانة للشعب الفلسطيني من أجل مصالح ضيقة”.
خامساً، عادت العلاقات بين أنقرة والاحتلال هذه المرة بدون أن يستجيب الأخير للشروط التركية الخمسة التي كان أعلنها وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو Mevlüt Çavuşoğlu، وفي مقدمتها؛ وقف الاعتداءات على الفلسطينيين، والعودة لمباحثات “السلام”، ووقف الإجراءات التي تستهدف تغيير الوضع القائم في القدس، على عكس اتفاق تطبيع العلاقات في 2016 والذي استجاب للشروط التركية الثلاثة في حينها وإن بدرجات متفاوتة. كما أن أنقرة لم تستجب للشروط أو المطالب الإٍسرائيلية المرتبطة بعلاقاتها مع حركة حماس تحديداً.
وفي الخلاصة، فإن مسار التقارب الأخير بين تركيا ودولة الاحتلال مختلف كثيراً عن السابق، ولا يواجه بمعارضة كبيرة داخلياً، ولذلك فهو مرشح لأن يكون أطول مدى وأكثر استقراراً هذه المرة، خصوصاً وأن أنقرة تتحدث عن الفصل بين العلاقات مع “إسرائيل” وسياساتها تجاه الفلسطينيين، وإن كان ذلك لا يعني تغيراً جوهرياً في موقفها من القضية الفلسطينية.
الانتخابات والقضية الفلسطينية:
في هذا السياق وبعد مسار تطبيع العلاقات مع الاحتلال تأتي الانتخابات التركية، ما يدفع لإيلاء أهمية إضافية على البحث في مواقف مختلف الأطراف المشاركة بها من القضية الفلسطينية، إن كان على مستوى البرامج الانتخابية أو على صعيد الخطاب والتصريحات. لكنها ليست المرة الأولى التي تحضر فيها القضية الفلسطينية في مسار الانتخابات التركية.
في سنة 2018 على سبيل المثال، تزامنت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية مع قرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب Donald Trump نقل سفارة بلاده لدى دولة الاحتلال إلى القدس، والتعامل الأمني الفظ لقوات الاحتلال مع مسيرات العودة في غزة في أيار/ مايو 2018 وسقوط عدد كبير من الشهداء الفلسطينيين. وقد كان الموقف التركي حينها عالي السقف تمثَّل بسحب السفير التركي لدى الاحتلال، وإعلان السفير الإسرائيلي شخصاً غير مرغوب فيه على الأراضي التركية، وتعمّد إهانته في المطار. ولذلك فقد حضرت القضية الفلسطينية في الحملات الانتخابية حينها بشكل لافت وبارز ومن مختلف الأطراف.
أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن “القدس، ولا سيّما القدس الشرقية” عاصمة فلسطين بالنسبة للعالم الإسلامي، وأصدر بياناً انتقد فيه القرار الأمريكي بنقل السفارة للقدس، مؤكداً أنه انتهاك لقرارات الأمم المتحدة، وأنه أفقد الولايات المتحدة دور الوساطة الذي كانت تلعبه في القضية الفلسطينية.
وانتقد أردوغان العالم الإسلامي على ردة فعله غير الكافية بخصوص القرار الأمريكي والسياسات الإسرائيلية، ورأى أن الأمم المتحدة “انتهت، واضمحلت وانهارت أمام الأحداث الأخيرة” بصمتها عما يحصل في فلسطين. وقد نظَّم حزب العدالة والتنمية لقاءات جماهيرية واسعة في عدة مدن من بينها إسطنبول ودياربكر لدعم القدس والتنديد بالقرار الأمريكي، بالإضافة إلى أن القضية الفلسطينية كانت ضمن بيانه الانتخابي بصيغة “سنستمر في بذل الجهود حتى يرى الشعب الفلسطيني وطنه حراً، وتنعم قبلتنا الأولى القدس بالسلام والاستقرار”.
من جهته، ندَّد رئيس حزب الشعب الجمهوري وزعيم المعارضة كمال كليجدارأوغلو Kemal Kılıçdaroğlu بالقرار الأمريكي، وعدَّه محاولة من ترامب للتغطية على مشاكله الداخلية في خطاب له أمام كتلة حزبه البرلمانية، ارتدى خلاله الحطة الفلسطينية. وانتقد كليجدارأوغلو الدول العربية لعدم وحدتها في دعم الفلسطينيين، وقال إنها لا تدعم القضية الفلسطينية بقدر تركيا.كما أصدر الحزب تعميماً لفروعه في عموم تركيا للتفاعل مع قضية القدس، ونظَّم رؤساء فروع الحزب الـ 81 مؤتمراً صحافياً “لعنوا فيه الاعتداء على الفلسطينيين الذي ذهب ضحيته 60 شخصاً”، ونظَّم فرع الحزب في إسطنبول مظاهرة احتجاجية أمام القنصلية الإسرائيلية في إسطنبول هتفوا خلالها ضدّ الولايات المتحدة و”إسرائيل”.وأصدرت باقي الأحزاب السياسية والمرشحين الرئاسيين مواقف مشابهة، ونظَّم بعضها مظاهرات بهذا الخصوص. كما أصدرت الأحزاب السياسية الممثلة في مجلس الأمة التركي الكبير (البرلمان) بياناً مشتركاً ندَّدت فيه بإجراءات الاحتلال، وجاء في البيان أن الأحزاب “تدين وتلعن بشدة الإدارة الإسرائيلية باسم الإنسانية جمعاء”.
وفي الانتخابات الحالية، تزامنت الحملات الانتخابية مع الاعتداءات الإسرائيلية على المعتكفين في المسجد الأقصى، ما استدعى ردات فعل وتنديداً من مختلف أطراف الطيف السياسي التركي. وقال بيان للرئاسة التركية إن أردوغان أكد في اتصال هاتفي مع نظيره الإسرائيلي إسحق هيرتزوج Isaac Herzog أن بلاده “لا يسعها الصمت إزاء الاستفزازات والتهديدات للمسجد الأقصى”، وإن ذلك “يجرح ضمير الإنسانية جمعاء”. كما كان الرئيس التركي افتتح حملته الانتخابية بالدعاء لفلسطين واليمن. وشجب رئيس البرلمان التركي مصطفى شنتوب Mustafa Şentop “الفظائع التي ارتكبتها قوات الأمن الإسرائيلية” في المسجد الأقصى. وأكد وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو في معرض تنديده بالاعتداءات الإسرائيلية على أن القدس خط أحمر لبلاده. كما أكد زعيم المعارضة والمرشح الرئاسي كمال كليجدارأوغلو على استمرار دعم بلاده للفلسطينيين “لاعناً بشدة الاعتداءات التي تعرضوا لها”. كما جاءت ردات فعل مشابهة من شخصيات وأحزاب سياسية عديدة.
البرامج الانتخابية:
يخوض الانتخابات البرلمانية القادمة في تركيا 22 حزباً سياسياً ينتظم معظمهم في خمسة تحالفات رئيسية، هي تحالف الجمهور الحاكم؛ ويضم أحزاب العدالة والتنمية، والحركة القومية، والاتحاد الكبير، والرفاه مجدداً؛ وتحالف الشعب المعارض ويضم أحزاب الشعب الجمهوري، والجيد، والسعادة، والديمقراطية، والتقدم، والمستقبل، والديمقراطي؛ وتحالف العمل والحرية بقيادة حزب الشعوب الديمقراطي (“الكردي”)؛ وتحالف “أتا” أو الأجداد اليميني بقيادة حزب النصر المعادي للاجئين؛ وتحالف اتحاد القوى الاشتراكية الذي يضم أحزاباً يسارية واشتراكية.
ويخوض الانتخابات الرئاسية أربعة مرشحين هم: الرئيس التركي ومرشح تحالف الجمهور رجب طيب أردوغان، ورئيس حزب الشعب الجمهوري ومرشح تحالف الشعب كمال كليجدارأوغلو، ورئيس حزب البلد ومرشحه محرم إينجة Muharrem Ince، ومرشح تحالف “أتا” غير المنضم لأي حزب سينان أوغان Sinan Oğan.
وعلى الرغم من أهمية الانتخابات البرلمانية، إلا أن الانتخابات الرئاسية هي الأهم لأن البلاد تحكم وفق النظام الرئاسي، ولذلك سيكون تركيزنا على البرامج الانتخابية للمرشحين الرئاسيين، وعلى وجه التحديد للمرشحَيْن الأوفر حظاً وفق معظم المتابعين، مرشحَيْ التحالفَيْن الأبرز أردوغان وكليجدارأوغلو.
يقع البيان (البرنامج) الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، والرئيس أردوغان، في 486 صفحة، تحت شعار “الخطوات الصحيحة نحو قرن تركيا”، ويتكوَّن من مقدمة وستة فصول رئيسية. خامس هذه الفصول هو المتعلق بالسياسة الخارجية، ويحمل عنوان “سياسة خارجية فاعلة”، ويشمل 17 مادة تتحدث عن عموم توجهات السياسة الخارجية التي يعد بها الرئيس وحزبه، مثل الفعالية، والعدالة، والبعد الإنساني، والأولويات، وتعدد الأبعاد والمحاور، بالإضافة إلى أمن الطاقة ومكافحة الإرهاب.
وقد تكرر ذكر فلسطين والقضية الفلسطينية في البيان الانتخابي للحزب الحاكم 15 مرة، أولها في المقدمة والباقية موزعة على ثلاث مواد.
تتضمن المقدمة تأكيداً على أن انخراط تركيا “في مشاكل المظلومين” في ميانمار وفلسطين دليل على أن تركيا تتبنى القضايا العادلة وتدفع باتجاه عالم أكثر عدلاً.
وفي المادة المعنونة “سياسة خارجية ملائمة للتغيرات الدولية”؛ إشارة إلى أن “عدم حلّ القضية الفلسطينية من بين العوائق الرئيسية لتأسيس نظام إقليمي مستقر”
وفي المادة المعنونة “تركيا فاعلة لتأمين سلام واستقرار مستدامَيْن”، تذكير بتنسيق تركيا في عهد العدالة والتنمية مساراً للمصالحة في الانقسام الفلسطيني الداخلي. وفيها كذلك أن تركيا كانت الدولة التي “أظهرت ردة الفعل الأقوى في وجه المبادرات أحادية الجانب المنتهكة للقانون الدولي التي سعت لإلغاء رؤية حلّ الدولتين، وتصفية القضية الفلسطينية”، وأنها قادت خلال رئاستها الدورية لمنظمة التعاون الإسلامي الجهد لاستصدار قرارات حماية وضع القدس، وتأمين الحماية للمدنيين الفلسطينيين.
وفي المادة نفسها، ذكر لقيادة تركيا ودعمها لقبول فلسطين “دولة مراقب غير عضو” في الأمم المتحدة في 2012، ورفع العلم الفلسطيني في مقرات الأمم المتحدة، والدفاع عن القضية الفلسطينية في أروقة المنظمة الدولية. وفيها تذكير باستضافة تركيا للقاءات مصالحة بين حركتَي فتح وحماس. وكذلك زيادة إسهام تركيا الطوعي في وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees in the Near East (UNRWA). وفيها كذلك إشارة لمشاريع المساعدات التي نفَّذتها الوكالة التركية للتعاون والتنسيق Turkish Cooperation and Coordination Agency (TİKA) في غزة والضفة وشرقي القدس ودعم اتحاد الغرف والبورصات التركية للاقتصاد الفلسطيني.
وفي المادة المعنونة “تأسيس حزام سلام واستقرار ورفاهية في جوار تركيا”، تأكيد على موقف تركيا الداعي لانسحاب “إسرائيل” من الأراضي التي احتلتها على أرضية حلّ الدولتين، واستمرار تركيا في دعم القضية الفلسطينية.
في المقابل، أعلنت الطاولة السداسية المعارِضة في تركيا، والتي تحوَّل اسمها لاحقاً لتحالف الشعب، في كانون الثاني/ يناير 2023، “نص اتفاق السياسات المشتركة” الذي وقَّعته الأحزاب الستة المشاركة في الطاولة، وقدَّمته كنص ملزم لمرشحها الرئاسي التوافقي، والذي اختارت له لاحقاً كليجدارأوغلو.
يقع النص في 244 صفحة، ويتكون من مقدمة وتسعة فصول، التاسع والأخير منها يتعلق بالسياسة الخارجية تحت عنوان “السياسة الخارجية، الدفاع، الأمن وسياسات الهجرة”.
في نصّ اتفاق السياسات المشتركة، يرد ذكر فلسطين مرتين في مادة واحدة تتكرر في ملخص الفصول ثم في تفصيلها اللاحق. وتنص المادة على أن تحالف المعارضة إن فاز في الانتخابات سيلتقي مع جميع الأطراف ذات العلاقة لإيجاد حلّ مستدام “للمشكلة الفلسطينية – الإسرائيلية”، على أساس حلّ الدولتين في إطار قرارات الأمم المتحدة، و”تأمين مشاركة تركيا كطرف مساعد وموثوق في الموضوع الفلسطيني”.
استدراكات:
مع الإشارة إلى مدى حضور القضية الفلسطينية في البرامج الانتخابية للأحزاب والتحالفات الانتخابية وتحديداً المرشحين الرئاسيين، ينبغي ذكر الاستدراكات المهمة التالية:
الأول: أن البرامج الانتخابية لا تعطي تصوراً واضحاً وكاملاً عن رؤية مختلف الأطراف للقضية الفلسطينية، ومدى حضورها في سياستهم الخارجية، حال الفوز في الانتخابات. فالبرامج أو البيانات الانتخابية أقرب لوثائق رسمية مقدمة للهيئة العليا للانتخابات، وليست بالضرورة ملزمة أو دقيقة.
الثاني: أن السياسة الخارجية أقل حضوراً في البرامج الانتخابية من الملفات الداخلية، كما في كل استحقاق انتخابي، وحضورها في الانتخابات المقبلة أقل من المعتاد بسبب ضغوط الأوضاع الاقتصادية والزلزال المدمر وغيرها من العوامل، كما أن حضور القضية الفلسطينية في فصل السياسة الخارجية ليس كبيراً لدى أي من الطرفين.
الثالث: غالب الظن أن المسار الانتخابي كان سبباً رئيسياً في تعدد ردات الفعل الرسمية والحزبية على الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، وهو مؤشر على أهمية القضية الفلسطينية في وجدان الشارع التركي من النواحي الدينية والأخلاقية والتاريخية، حتى وإن لم تكن عاملاً محدداً في توجهات التصويت لدى الناخبين.
الرابع: لا مؤشر في البرامج الانتخابية على تغير موقف تركيا بعد الانتخابات من القضية الفلسطينية أو العلاقة مع دولة الاحتلال.
الخامس: وردت القضية الفلسطينية في برنامج التحالف المعارض الانتخابي تحت اسم “المشكلة الفلسطينية – الإسرائيلية”، بينما وردت في برنامج حزب العدالة والتنمية الحاكم باسم “القضية الفلسطينية”. ولم ترد العلاقة مع دولة الاحتلال بأي شكل في أي من البرنامجين الانتخابيين. كما أن ورود معاناة الفلسطينيين ومظلوميتهم في برنامج الحزب الحاكم تجنب ذكر “إسرائيل” كطرف مسؤول عن ذلك.
السادس: معظم المواد التي تحدثت عن القضية الفلسطينية في برنامج العدالة والتنمية الانتخابي تشير إلى مواقف وقرارات وسياقات سابقة من الدعم والإسناد ضمن تعداد إنجازات الحزب السابقة، وإن حملت ضمناً إيحاءً باستمرارها، باستثناء الحديث عن موقف تركيا من حلّ الدولتين والذي يحمل أبعاداً مستقبلية في الوقت ذاته. في المقابل، حضرت القضية الفلسطينية في برنامج تحالف الشعب المعارض مرة واحدة في إطار الحديث عن دعم حلّ الدولتين واستمرار الدعم للفلسطينيين.
خاتمة:
في الخلاصة، تحتل السياسة الخارجية موقعاً متراجعاً في قائمة الملفات المهمة للناخب التركي والمؤثرة في تصويته في الانتخابات، إذ تتقدم عليها عوامل مثل الأيديولوجيا والاقتصاد والزلزال واللاجئون والحملات الانتخابية. ولذلك، فإن مساحة السياسة الخارجية في البيانات الانتخابية للأحزاب والمرشحين الرئاسيين، بالإضافة إلى حضورها في الخطابات الانتخابية، قليلة مقارنة بالملفات الداخلية المتنوعة.
كما أن القضية الفلسطينية ليست في سلم أولويات السياسة الخارجية التي تتصدرها ملفات مثل غاز شرق المتوسط، والتنافس مع اليونان، والملف الليبي، وسورية، وغيرها. وعلى الرغم من ذلك تبقى القضية الفلسطينية حاضرة في الحملات والبرامج الانتخابية لارتباط الوجدان التركي بها لا سيّما في محطات التصعيد والاعتداءات من الاحتلال.
بيد أن البرامج الانتخابية لا تكفي لوحدها للحكم على مدى حضور القضية الفلسطينية في السياسة الخارجية التركية بعد الانتخابات، ولا على إمكانية تغيّر موقف تركيا أو خطابها بخصوصها، فذلك يعتمد على عدة عوامل في مقدمتها تطورات القضية الفلسطينية نفسها بالإضافة إلى علاقات أنقرة مع مختلف الأطراف، بما يجعل البرنامج الانتخابي قليل الثقل وغيرَ كافٍ في ميزان التقييم. ولعل التصريحات التي صدرت على ألسنة الساسة الأتراك في الأسابيع القليلة الماضية تشير إلى شيء من هذا القبيل.
وكما أنه ليس من المقطوع به أن يستمر الرئيس التركي في سياساته نفسها بعد الانتخابات، إذ ثمة تشكيك من بعض الأطراف بأن متغيرات سياساته الخارجية تكتيكية وتهدف لتجاوز محطة الانتخابات وحسب، فإنه ليس من المتوقع أن تنقلب المعارضة في حال فوزها على السياسات الخارجية الحالية 180 درجة، ولا سيّما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي لتركيا فيها موقف تقليدي شبه مستقر وعابر للأحزاب في عمومه كما سلف تفصيله.
إلا أن ذلك قد لا ينسحب على بعض مسارات وتفاصيل القضية الفلسطينية، مثل العلاقات مع مختلف الفصائل الفلسطينية، والانخراط في مسار المصالحة الداخلية، والمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وصفقة تبادل أسرى محتملة، وغير ذلك. وهي مسارات سيكون من الممكن الحديث عنها تفصيلاً بعد إعلان نتائج الانتخابات.