بدأ العد التنازلي لانعقاد القمة العربية في العاصمة السعودية الرياض. ففي 16 مايو 2023، اجتمع المندوبون الدائمون في جامعة الدول العربية. وفي اليوم الموالي اجتمع وزراء الخارجية العرب، لتبدأ اجتماعات القمة يوم الجمعة 19 مايو؛ حيث يلتئم شمل قادة الدول العربية في قمتهم رقم 32، بعد انعقاد القمة رقم 31 في الجزائر في أول نوفمبر 2022. وفي هذا الإطار، من الضروري التوقف أمام هذا الرقم، فعدد اجتماعات القادة العرب يفوق هذا العدد، لذا ينبغي التمييز بين نوعين من مؤتمرات القمة العربية:
الأول، مؤتمرات القمة الطارئة أو غير العادية التي انعقدت لبحث موضوعات عاجلة كانت تواجه المنطقة وعددها ست: قمة أنشاص بمصر في مايو 1946 لدعم القضية الفلسطينية، وقمة بيروت في نوفمبر 1956 لدعم مصر في مواجهة العدوان الثلاثي، وقمة القاهرة في سبتمبر 1970 لبحث الموقف المتفجر في الأردن بين الجيش ومنظمات المقاومة الفلسطينية، وقمة الدار البيضاء في أغسطس 1985 الذي أكد على ميثاق التضامن العربي وضرورة تنقية الأجواء العربية، وقمة عمّان في نوفمبر 1987 لدعم العراق وإدانة العدوان الإيراني عليه، وقمة القاهرة في أكتوبر 2000 التي سيرد ذكرها لاحقًا.
والثاني، مؤتمرات القمة العادية التي يعدُّ لها جدول أعمال يتناول العديد من الموضوعات التي تهمُّ الدول العربية، وقد انعقدت بشكل غير منتظم حتى إقرار ملحق ميثاق جامعة الدول العربية الخاص بالانعقاد الدوري لمؤتمرات القمة، الذي أقره مؤتمر القمة غير العادية المنعقد في القاهرة خلال أكتوبر 2000 على أن تتولى كل الدول أعضاء الجامعة استضافة المؤتمر وفقًا للترتيب الهجائي. وبحسب هذا الملحق، انتظم انعقاد مؤتمرات القمة سنويًّا وإن كان شهر الانعقاد قد اختلف من مؤتمر لآخر، فيما عدا سنة 2011 بسبب مناخ الانتفاضات وعدم الاستقرار الذي ساد المنطقة، وأعوام 2020-2022 بسبب جائحة كورونا والخلافات العربية.
واشتهرت بعض مؤتمرات القمة بالموضوعات التي ناقشتها، مثل قمة الخرطوم في أغسطس 1967 وهي قمة “اللاءات” الثلاثة التي دعمت الجهود العربية من أجل إزالة آثار العدوان الإسرائيلي. وقمة الرباط في أكتوبر 1974 التي اعتمدت منظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا شرعيًّا وحيدًا للشعب الفلسطيني، وقمة الرياض المصغرة في أكتوبر 1976 لإنهاء الحرب في لبنان التي تلتها قمة أخرى خلال الشهر ذاته في القاهرة لإقرار ما تم التوصل إليه من قرارات، ومؤتمر القمة في الأردن في نوفمبر1980 الذي صادق على ميثاق العمل الاقتصادي القومي، وقمة فاس في نوفمبر 1981 التي أقرت مشروع الملك فهد للسلام ليكون مشروعًا للسلام العربي، وقمة بيروت في 2002 التي أكدت مبادرة السلام العربية، وقمة تونس في عام 2004 التي أسميت بقمة “الإصلاح العربي”، وقمة الجزائر في مارس 2005 التي أكدت الالتزام بمبادرة السلام العربي، وقمة الكويت في مارس 2014 التي أصدرت إعلان الكويت بشأن معالجة الأوضاع الدقيقة والحرجة التي يمرُّ بها الوطن العربي.
واستطرادًا لذلك يمكن تسمية قمة الرياض 2023 بأنها قمة “الوفاق العربي” أو قمة إحياء مؤسسات النظام العربي، إذ تنعقد هذه القمة بعد سلسلة متصلة من التفاعلات المُكثفة التي قادتها مجموعة من الدول العربية لتخفيف حدة التوترات في المنطقة، وجرت على مستويات ثنائية وثلاثية وجماعية. سوف تتناول هذه الورقة أولًا أهم معالم مسيرة التفاعُلات وجهود التنسيق بين الدول العربية، وتتناول ثانيًا دور هذه التفاعُلات في حالة الأزمة السورية حتى صدور القرار بعودتها إلى الجامعة في 7 مايو 2023 وشغل مقعدها فيها بعد ثلاثة عشر عامًا من الغياب. وتبحثُ ثالثًا في السياق السياسي لهذه المسيرة ودوافع أطرافها، ثُم تدرس رابعًا مؤتمر قمة الرياض من حيثُ التوقعات والتحديات.
أولًا: مسيرة التنسيق العربي
شهدت المرحلة التي بدأت بالانتفاضة الشعبية في تونس، ديسمبر 2010، وما تلاها من تطورات متلاحقة في مصر وسوريا وليبيا واليمن، نشوء حالة من الانقسام العربي. فأيدت بعض الدول العربية هذه الانتفاضات وقدّمت لها الدعم السياسي والمساندة المالية والدعم العسكري بينما اتخذت دول أخرى موقف تأييد نُظم الحكم القائمة أو على الأقل تبنّت سياسة الترقُّب وعدم الانخراط في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وانعكس ذلك على حالة العلاقات بين الحكومات التي اتسمت بالريبة والشك. وأوجد الفرصة للتدخلات الإقليمية والدولية.
في النصف الثاني من هذه الحقبة -ولعوامل سوف نعرض لها فيما بعد- أدرك قادة كثير من الدول العربية خُطورة التداعيات المُترتبة على دعم التنظيمات السياسية وميليشياتها العسكرية، وضرورة إنهاء هذه المرحلة والعمل على التسوية السلمية لهذه الصراعات لتحقيق مناخ الاستقرار الإقليمي. وظهر هذا التغيُّر أساسًا على مستويين: مستوى العلاقات الثلاثية بين مصر والعراق والأردن، ومستوى جماعي بين دول مجلس التعاون الخليجي وهذه الدول الثلاث وذلك على النحو الآتي:
تبلور التعاون الثلاثي عندما دعا الرئيس المصري ملكَ الأردن ورئيسَ وزراء العراق لاجتماع في القاهرة في مارس 2019، وانعقد الاجتماع الثاني في بغداد في يونيو 2021، وأعقبه الاجتماع الثالث في الأردن في ديسمبر 2022. وأرسى البيان الصادر عن اجتماع القاهرة أسس هذا التجمع التي ركزت على تعزيز مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة، وتعزيز التكامل والتعاون الاقتصادي في مجالات الطاقة والبنية التحتية والاستثمار وإعادة الإعمار، ومكافحة الإرهاب. وفي هذا السياق، انعقد عدد من الاجتماعات على مستوى الوزراء وكبار المسؤولين في هذه الدول. جرت الدعوة إليها تحديدًا أو عُقدت على هامش اجتماعات أخرى، مثل لقاء وزراء الخارجية الثلاث على هامش القمة العربية في الجزائر 2022. وخلال الفترة ذاتِها تطورت علاقة كلٍّ من هذه الدول بدول مجلس التعاون الخليجي.
جاءت نقطة التحول في العلاقات العربية مع انعقاد مؤتمر قمة العُلا في يناير 2021 الذي أنهى حالة القطيعة بين الرباعي: السعودية ومصر والإمارات والبحرين من ناحية، وقطر من ناحية أخرى. فتحت القمة الباب لصفحة جديدة من علاقات المصالحة والوفاق، فأُعلنَ عن عودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين السعودية وقطر في يوم انعقاد المؤتمر وهو 5 يناير، ومع مصر في العشرين من الشهر ذاتِه. بينما استغرقت هذه العودة مدة أطول في حالة البحرين ولم تتم إلَّا في إبريل 2023، كما جرى الإعلان رسميًّا عن عودة العلاقات الإماراتية القطرية.
أوجدت قمة العُلا البيئة الحاضنة لعدد من مظاهر التقارب والتعاون والتنسيق على المستوى العربي الشامل، منها على المستوى الرسمي المؤتمرات الدورية لمجلس جامعة الدول العربية التي أفصحت عن درجة أعلى من التفاهم العربي، ومؤتمر القمة العربي الذي عُقد في الجزائر في نوفمبر 2022، حيث أكد بيان وزارة خارجيتها أن الجزائر تعتزم “مواصلة مساعيها لبلورة مخرجات على نحو توافقي، الأولوية بالنسبة إليها تنصبُّ على تعزيز العلاقات العربية-العربية وتوحيد الصف العربي”. ومنها أيضًا اجتماعَا قمة جدة مع الرئيس الأمريكي بايدن في يوليو 2022 التي شارك فيها قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن، وقمة الرياض مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في ديسمبر من العام ذاتِه التي شاركت فيها الدول ذاتُها إضافة إلى تونس ولبنان وموريتانيا والسودان.
انعقدت أيضًا لقاءات تشاورية لتبادل وجهات النظر بين عدد من القادة العرب، وسميت تشاورية لتأكيد طابع تبادل الآراء والأفكار والمعلومات بينهم بشكل مباشر ودون مشاركة وفود رسمية أو معاونين لهم، مثل لقاء مدينة العَلمين المصرية في أغسطس 2022 الذي حضره قادة الإمارات والبحرين ومصر والأردن والعراق، والاجتماع التشاوري بين القادة العرب قبل بدء الجلسة الرسمية لمؤتمر قمة الجزائر في نوفمبر 2022، ولقاء أبوظبي في يناير 2023 بحضور رؤساء دول الإمارات وقطر والبحرين وسلطنة عُمان ومصر والأردن.
تزامنت مع هذه الاجتماعات واللقاءات سلسلة من التفاعلات الثنائية على مستوى رؤساء الدول. وفي عامي 2022-2023، زار الرئيس المصري كلًّا من الجزائر والسعودية والإمارات وقطر والأردن وسلطنة عُمان والبحرين والكويت، وزار ولي العهد السعودي مصر والأردن وقطر، وزار رئيس دولة الإمارات مصر والسعودية وقطر وسلطنة عُمان والبحرين، وأدّى نائبه الشيخ محمد بن راشد زيارة إلى الجزائر، وزار ملك الأردن الإمارات والسعودية وقطر والبحرين وسلطنة عُمان والجزائر، وزار رئيس وزراء العراق مصر والإمارات والسعودية والأردن والجزائر وقطر والكويت.
تسارعت الأحداث على أكثر من مسار يتعلق بالبؤَر الساخنة في المنطقة. فبالنسبة للعراق، انعقد مؤتمر بغداد 1 في أغسطس 2021 بهدف تنسيق جهود إعمار العراق بمشاركة عربية ضمّت السعودية والإمارات ومصر والكويت وقطر والأردن، وإقليمية ضمّت تركيا وإيران، ودولية ضمّت الرئيس الفرنسي ماكرون وعددًا من ممثلي منظمات التنمية والتمويل الدولية. ثم مؤتمر بغداد 2 في الأردن في ديسمبر2022، بالمشاركين ذواتهم مع انضمام البحرين وسلطنة عُمان.
وامتد مناخ المصالحات إلى القضية الفلسطينية، فبعد انقطاع في العلاقات بين السعودية وحركة حماس استمر 8 سنوات، استقبلت الرياض في إبريل 2023 وفدًا من حركة حماس قاده رئيس المكتب السياسي للحركة في الداخل إسماعيل هنية ورئيس الحركة في الخارج خالد مشعل، في الوقت ذاتِه الذي كان فيه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يزور السعودية برفقة عدد من قيادات السلطة. ولكن لا تتوفر معلومات عمّا إذا كان قد عُقد لقاء بين الطرفين أم لا.
ومن معالم مسيرة المصالحة، الاتفاق بين السعودية وإيران الذي جرى بوساطة صينية وأُعلن عنه في بكين خلال مارس 2023، متضمّنًا عودة العلاقات الدبلوماسية وإحياء معاهدة الأمن بين البلدين. ومن الراجح أن هذا الاتفاق سيزيل مُسببات التوتر في عدد من صراعات المنطقة ويساعد على تسويتها. يضاف إلى ذلك، التقاربات التركية العربية التي حصلت خلال العامين الأخيرين.
ثانيًا: الأزمة السورية كبؤرة للتفاعلات العربية
مع اضطراب الأوضاع السياسية والعسكرية في سوريا وانقسام مواقف الدول العربية بين مؤيد لهذا الطرف أو ذاك، صدر قرار بتجميد عضوية سوريا في الجامعة عام 2011، وقامت الحكومة القطرية، باعتبارها الدولة التي استضافت القمة العربية عام 2013، بخطوة غير مسبوقة بدعوة ممثل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة لشغل مقعد سوريا في المؤتمر، وهو ما لم يتكرر في مؤتمرات القمة اللاحقة.
منذ ذلك الوقت، أصبحت العلاقات مع سوريا على المستويين الثنائي والجماعي، أحد الموضوعات المهمة في العلاقات العربية-العربية. على المستوى الثنائي، كانت الإمارات سباقة، فأعلنت عن إعادة فتح سفارتها في دمشق في ديسمبر 2018. وطرح الأردن أكثر من مبادرة لحل الأزمة السورية، فقد عانى من الأعباء المترتبة على الأعداد الكبيرة للاجئين السوريين لديه، ومن الانفلات الأمني على حدوده، وتزايد نشاط شبكات تهريب المخدرات من سوريا إلى بلاده، فدعا الملك عبد الله الثاني عشية انعقاد مؤتمر القمة في الجزائر عام 2022، إلى حشد الجهود الإقليمية والدولية للوصل إلى توافق دولي لحل الأزمة.
في هذا السياق، سعت الجزائر إلى دعوة الرئيس السوري بشار الأسد لحضور القمة، وزار وزير خارجيتها عددًا من الدول العربية غير أنها لم تتفق بشأن هذا الموضوع، فقررت سوريا عدم الحضور حتى لا تكون مشاركتها سببًا في عدم انعقاد المؤتمر.
في عامي 2022 و2023، ازدادت التفاعلات العربية بشأن عودة سوريا إلى البيت العربي، فزار وزير الخارجية السوري مصر والسعودية والجزائر وتونس والإمارات، واستقبلت دمشق وزراء خارجية الإمارات ومصر والسعودية والأردن وسلطنة عُمان والجزائر، وحرص الرئيس السوري بشار الأسد على الالتقاء بهم. وفي فبراير 2023 زار وفد من الاتحاد البرلماني العربي ضم 8 من رؤساء البرلمانات سوريا للتعبير عن التضامن العربي مع الشعب السوري بعد كارثة الزلزال التي دمرت جزءًا من أرضه، وأعلنت تونس عن عودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة وتعيين سفير جديد لها في دمشق خلال إبريل 2023.
واجتمع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي والدول الثلاث مصر والعراق والأردن في جدة في الرابع عشر من الشهر ذاتِه للتشاور حول الموضوع السوري، وبحث إجراءات عودتها للجامعة والمعوقات التي تحول دون ذلك. وتلاه اجتماع آخر في الأردن في أول مايو، ثم اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب في القاهرة الذي أصدر القرار رقم 8914 في 7 مايو ونصَّ على “استئناف مشاركة وفود حكومة الجمهورية العربية السورية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية، وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها، ابتداءً من يوم 7 مايو 2023”. وربط القرار العودة السورية بتنفيذ التوافقات والالتزامات التي جرى التوصل إليها مع الحكومة السورية في اجتماع عمّان، واتخاذ خطوات تدرجية لتسوية الأزمة وفقًا لمنهج “خطوة بخطوة” لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254. وتضمّن قرار مجلس وزراء الخارجية العرب تشكيل لجنة وزارية من الأردن والسعودية والعراق ولبنان ومصر والأمين العام للجامعة لمتابعة التنفيذ.
وبعد يومين، أعلنت وزارة الخارجية السعودية “استئناف عمل بعثتها الدبلوماسية في سوريا”، ثم أرسل الملك سلمان في 10 مايو دعوة إلى الرئيس السوري للاشتراك في المؤتمر. وجدير بالذكر أن آخر قمة عربية حضرها الرئيس السوري هي قمة سرت في ليبيا عام 2010.
ثالثًا: السياق السياسي لمسيرة المصالحة
لا شكّ في أن هناك اتجاهًا عامًّا نحو التهدئة والمصالحة بين قطاع كبير من الدول العربية. ويُمكن تفسير دوافع بعض الدول في تبنّي هذا الاتجاه لأسباب خاصة تتعلق بهذه الدولة أو تلك، ولكن ما يهمُّنا هنا هو العوامل الإقليمية والدولية العامة التي أوجدت البيئة المحفزة للتوافق، ويمكن تحديدها في العوامل الثلاثة الآتية:
تراجع دوافع الاستثمار في الصراع
كما ذكرنا سلفًا، شهدت الفترة التالية لنشوب الانتفاضات الشعبية في عامي 2010 و2011، انقسامات في مواقف الدول العربية بشأنها، ما بين مؤيد ومعارض ومترقب. وعلى سبيل المثال، أيدت بعض الدول التنظيمات السياسية والمليشيات العسكرية المناهضة لنظام الحكم في سوريا، وتكرر المشهد ذاتُه في ليبيا والعراق واليمن بدرجات وأشكال وأطراف عربية مختلفة.
وبدا لفترة أن الاستثمار في الصراع ودعم أحد أطرافه ضد طرف آخر يفيد المصلحة الوطنية لهذه الدولة أو تلك، ولكن منذ عام 2015 تقريبًا تراجع هذا الاعتقاد. ففي سوريا مثلًا، اتضحت هيمنة قوى الإسلام السياسي على التنظيمات والمليشيات المعادية للنظام الحاكم، وظهر أن كل طرف في الصراع له من يؤيده من القوى الإقليمية والدولية وهو ما يجعل الصراع لا نهاية له، وأن الدعم المالي والعسكري الذي تتلقاه هذه التنظيمات والميليشيات أوجد طبقة من أمراء الحرب المستفيدين من الصراع والحريصين على استمراره وتأجيجه بين فترة وأخرى حتى لا تنضب المكاسب التي يحصلون عليها. أدى هذا كله إلى إدراك النخب السياسية العربية أن تكلفة الاستثمار في الصراع باهظة، وأنها باتت تفوق بكثير أي مكاسب متوقعة منه، وأن الأولوية هي العمل على تحقيق الاستقرار الإقليمي الذي يكفل البيئة المناسبة للتحديث والتنمية في كل دولة.
تراجع موثوقية الحليف أو الشريك الأمريكي
اتسم سلوك السياسة الخارجية الأمريكية على مدى سنوات بعدم التشاور مع الدول العربية أو عدم الاكتراث لسماع وجهة نظرها في القضايا التي تتعلق بالمنطقة. ظهر ذلك جليًّا في إبرام الاتفاق النووي الإيراني عام 2015 في عهد إدارة الرئيس أوباما، دون أن تأخذ أمريكا في الاعتبار مخاوف الدول العربية بشأن سياسة إيران في المنطقة. وظهر أيضًا في قرار سحب منظومة الدفاع الجوي الصاروخي “باتريوت” عام 2021 من السعودية، وقرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في العام ذاتِه.
وكرر المسؤولون الأمريكيون وتقارير مراكز البحوث الأمريكية الحديث عن تراجع أهمية المنطقة العربية والشرق الأوسط من منظور الاستراتيجية الأمريكية، وأن الأولوية أصبحت للاتجاه شرقًا لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد في منطقة الإندو-باسفيك، وهو ما زاد شعور الحكام العرب بـأن الغطاء الاستراتيجي والأمني الأمريكي لم يعد قائمًا.
وزاد الأمر سوءًا، استخفاف إدارة ترامب بالمشاعر العربية تجاه القضية الفلسطينية، فاعترفت بالقدس عاصمةً لإسرائيل واعترفت بقانونية ضمها للجولان السورية المحتلة. وكان من شأن ذلك، إعادة ترتيب النخب الحاكمة العربية أولوياتها وعلاقاتها مع الدول الكبرى، خصوصًا مع ازدياد تطلُّع روسيا والصين لتطوير العلاقات مع دول المنطقة على أسس من الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. واستطاعت أن تحدث هذا التغيير دون قطيعة أو مواجهة حادة مع الولايات المتحدة.
ازدياد الإدراك بالتحولات العالمية
كان سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكُّكه في عام 1991 بداية لمرحلة من الأحادية القطبية، وسعي الولايات المتحدة لفرض وجهة نظرها في المؤسسات الدولية وفي علاقاتها مع الدول الأخرى. ولكن هذا الوضع لم يستمر طويلًا. ومع نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، استعادت روسيا عافيتها الاستراتيجية، وبزغ نجم الصين كمزاحم على قمة اقتصاد العالم، وبدا أن العالم يتغير تدريجيًّا من حالة الأحادية إلى حالة التعددية على مستوى القوى الكبرى. وتبيّن للقادة العرب أنهم يستطيعون تحقيق مصالح بلادهم بشكل أكثر جدوى وأقل تكلفة عبر اتباع سياسات أكثر استقلالية بتطوير العلاقات مع روسيا والصين.
كما اتضح لهم أن المصلحة الوطنية تقتضي عدم الارتباط الدائم بسياسات إحدى القوى الكُبرى أو التماهي مع مواقها في بعض القضايا بمعزل عن الموقف الأمريكي، وظهر ذلك بجلاء في المواقف المستقلة لأغلب الدول العربية تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا، وعدم تأييدها المطلق لأي من الأطراف المتحاربة. وظهر أيضًا في امتناع أغلب الدول العربية عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار تجميد عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وعدم تبني العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على موسكو، وفي مواقف الدول النفطية العربية الأعضاء في مجموعة أوبك بلس، وفي كلمات الرؤساء العرب خلال الاجتماع مع بايدن في جدة 2022، وفي مناخ الدفء الذي ساد اجتماعهم مع الرئيس الصيني في الرياض في العام ذاتِه.
أدرك القادة العرب التغيرات على مستوى قمة العالم، والمرحلة الانتقالية التي يمر بها النظام الدولي، وأنها تتيح الفرصة للقوى الإقليمية لأداء دور أكبر ليس فقط في ترتيب شؤون الإقليم وهو ما يشار إليه بتعبير “الإقليمية الجديدة”، ولكن أيضًا في التأثير على مسار هذه التغيرات الدولية والإسراع بها. وإذا كان هدف مفهوم “الإقليمية الجديدة” هو زيادة التعاون والتكامل السياسي والاقتصادي والأمني الإقليمي بين دول إقليم مّا، فإن نقطة البدء هي إنهاء بؤر التوتر والصراع وبناء الثقة وتحقيق المصالحات بينها. ودعم مسيرة التعاون العربي ازدياد التحديات العابرة للحدود التي لا يمكن لأي دولة منفردة مواجهتها من داخل حدودها.
رابعًا: قمة الرياض.. التوقعات والتحديات
تنعقد قمة الرياض في مناخ من تهدئة الخلافات والصراعات القائمة وبيئة من الوفاق والرغبة في المصالحة. من الأرجح، أن تكون لها تأثيراتها على القمّتين المُزمَع عقدهما خلال عام 2023؛ مؤتمر القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية في موريتانيا، والقمة العربية–الأفريقية في السعودية. وتتصاعد الآمال والتوقعات بشأن ما يمكن أن تسفر عنه القمة العربية من قرارات لدعم هذا المناخ وتدعيمه وتطويره.
غير أنّ من الضروري التوقف والأخذ بعين الاعتبار عددًا من التحديات التي تواجه هذه المسيرة:
- استمرار الصراعات والحروب الداخلية في عدد من الدول العربية، وأهمية إطلاق مبادرات عربية بشأنها. ومنها، الانقسام السياسي والعسكري في ليبيا، والشغور الرئاسي والأزمة الاقتصادية–الاجتماعية الطاحنة في لبنان، والاقتتال العسكري الذي انفجر في السودان يوم 15 إبريل2023، واستمرار الخلاف بين الجزائر والمغرب. تضاف إلى ذلك، مواجهة السياسات العدوانية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تصاعدت بشكل نوعي خلال الشهور الستة الأولى من عام 2023. والأرجح، أن كل هذه الملفات ستكون على جدول أعمال القمة القادمة.
- أن هناك قوى خارجية لا تنظر إلى حالة الوفاق العربي بعين الرضا ولا ترى أنها تخدم مصالحها. ومن الأرجح، أن الولايات المتحدة وربما بعض القوى الغربية لن تكون راضية عن هذا التوجه الذي يغلق أحد أبواب تدخلها في شؤون المنطقة، مثل التقارب السعودي الإيراني، وقرار عودة سوريا إلى الجامعة العربية، الذي انتقده صراحة بيان وزارة الخارجية الأمريكية الذي ورد فيه “أن سوريا لا تستحق العودة إلى الجامعة”.
- أن حالة الوفاق الراهنة لا تقوم على أسس إيديولوجية أو فكرية، بل تستند إلى تقدير واقعي للسياق الدولي والمخاطر والتحديات المُرتبطة به والمصالح الوطنية لكل دولة. ولا يعني الوفاق بهذا المعنى انتفاء الاختلاف في وجهات النظر والتنافس بين الدول فهذا أمر طبيعي، ولكن المهم أن يتم ذلك بشكل سلمي، وألا يكون هدفه الإضرار المتعمد بمصالح طرف آخر. لذلك، فمن المتوقع استمرار وجود بعض هذه الخلافات والاختلافات بين دولة وأخرى، ولكن دون أن تصل إلى مستوى تهديد لأسس هذا التوافق، وأن تكون تسويتها أو حلها من خلال المباحثات المباشرة بين الأطراف وتفهُّم دوافع الطرف الآخر ومخاوفه.
- أن الجزء الأكبر من التفاعلات التي أوجدت حالة الوفاق جرت خارج مؤسسات الجامعة العربية. فقد ظلت هذه المؤسسات طَوال سنوات “مُهملة” أو “مُعطلة” و”ضعيفة الفاعلية”، فتراجع العمل العربي المشترك وازدادت تدخلات الدول الإقليمية غير العربية في الشؤون الداخلية للدول العربية. ويعود تفسير تعطُّل مؤسسات العمل العربي المشترك إلى سبب مُباشر هو أن الجامعة العربية لا تمتلك إرادة سياسية مستقلة، وإنما هي مرآةٌ تصوِّر حالة العلاقات بين الدول العربية. فإذا اتسمت هذه العلاقات بالتوافق والتعاون نشطت الجامعة. أما إذا اتسمت بالانقسام والتوتر ضعف دور الجامعة. من الضروري إذن أن يكون أحد مخرجات قمة الرياض هو الإجراءات الكفيلة بتنشيط الجامعة العربية ومؤسسات العمل العربية المشترك، وإعادة النظر في التقارير المتعددة المتعلقة بتفعيل العمل العربي المشترك وإصلاح نظام الجامعة التي كان منها التقرير الذي أعده الدبلوماسي الجزائري البارز الأخضر الإبراهيمي مع لجنة من الخُبراء بناء على تكليف من الجامعة لكن أغلب التوصيات التي تضمّنها لم تجد طريقها إلى التنفيذ.
نحن إزاء لحظة مهمة في تاريخ العلاقات العربية-العربية والعمل العربي المشترك، تتسم بالواقعية وإدراك الرابطة بين المصالح الوطنية لكل دولة، والعمل العربي المشترك. والتوقعات كثيرة وكبيرة، ولكن تحقيقها يتطلب حكمة ووقتًا، وسوف يتم بطريقة تدرجية. المهم أن نبدأ وأن تعطي قمة الرياض اتجاه التحرك، ومنهج العمل الذي يتوافق عليه قادة الدول في القضايا التقليدية كالنزاعات والصراعات العربية وإعادة الإعمار، والقضايا المستجدة مثل سلاسل الإمداد والأمن الغذائي والتغيرات المناخية والتحديات البيئية. المهم، أن يخرج المؤتمر بمبادرات وخرائط طريق وبرامج عمل ممكنة التنفيذ يكون من شأنها إحياء النظام العربي.