يكاد يتفق الباحثون في حقل العلاقات الدولية أن المسرح السياسي العالمي لم يشهد منذ تفكك الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة حدثا أبرز من الصدام العسكري المباشر بين روسيا وجارتها أوكرانيا، فالأخيرة تعتبر إحدى حلقات الصراع الروسي الغربي ومحور اهتمام قوى عالمية كالولايات المتحدة، أوروبا وروسيا وإقليمية كإسرائيل وتركيا.
ولإدراك مجريات الأحداث وتداعياتها المستقبلية كان لابد من الوقوف على نوع مختلف من التحليل السياسي بعيدا عن النظرة الكلاسيكية التي إختزلت الصراع الشرقي الغربي داخل إطار الماركسية والرأسمالية والحرب الباردة ومكافحة الخطر الشيوعي ...إلخ.
تم تقسيم الدراسة إلى أربعة محاور رئيسية تناول الأول الدوافع الأيديولوجية، والثاني الديموغرافية والثالث الطاقوية وأخيراً الجيوسياسية.
أولاً: الدوافع الأيديولوجية
1-الخلاف المسيحي-المسيحي
دخلت الديانة المسيحية الإمبراطورية الرومانية، وبحلول العام 347 أصبحت الديانة الرسمية لها وظلت تلك الإمبراطورية موحدة إلى أن انقسمت إداريا عام 395 إلى الغربية وعاصمتها روما ولغتها اللاتينية، والشرقية وعاصمتها القسطنطينية ولغتها اليونانية، ونتج عن هذا الانقسام خلاف ديني إلى أن وقع الانقسام العظيم عام 1054، وانقسمت المسيحية إلى مذهبين متناحرين الكاثوليكية الغربية والأرثوذكسية الشرقية ووصل الأمر إلى تكفير كل طائفة للأخرى، وبلغ حد الخلاف بينهما إلى وقوع العديد من المذابح أشهرها مذبحة اللاتنين في القسطنطينية.
ويتضح حجم العداء المذهبي الكاثوليكي للأرثوذكس والذي تجاوز في بعض الأحيان حد العداء الكاثوليكي للإسلام من خلال تتبع التحركات الكاثوليكية الغربية في العصور الوسطى، والتي انطلقت في إتجاه محاور ثلاث رئيسية:
- الأول: حروب الاسترداد ضد مسلمي الأندلس.
- الثاني: الحملات الصليبية الشمالية (البلطيقية) التي استهدفت السلاف الشرقين الأرثوذكس (الروس) إلى جانب الوثنيين.
- الثالث: الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي.
وإذا نظرنا بعين الاعتبار إلى الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي نجدها إتخذت فى بدايتها مسار تعاوني بين البيزنطين الشرقيين والصليبين الغربيين، وكانت فى الأصل لدعم الدولة البيزنطية ضد السلاجقة المسلمين وكانت بمثابة الفرصة لتوحيد الكنيستين إلا أن الغربيين الكاثوليك كانو مشبعين بالحقد والكراهية للأرثوذكس الشرقيين، فأثناء مرور الصليبين بالأراضي البيزنطية خاصة الحملة الصليبية الأولى قامو بنهب وتخريب الأديرة والكنائس الأرثوذكسية وعلى الرغم من تعهد قادة الحملة برد الأراضي التي يتم تحريرها
من المسلمين إلى الإمبراطور البيزنطي، لكن سرعان ما نقضوا العهد وأعلنوا تلك المناطق إمارات كاثوليكية.
كان مصير الأرثوذكس العرب أثناء الحملات الصليبية الاضطهاد والقتل وعزل الأساقفة وتعيين غيرهم من الكاثوليك، وتحويل الكنائس الأرثوذكسية إلى كاثوليكية، ومنعهم من الحج إلى الأراضي الفلسطينية المقدسة.
كما أن عملية التغير الديموغرافي التى قام بها الصليبون داخل الأراضي الفلسطينية لم تقتصرعلى المسلمين واليهود، بل تم تهجير وطرد الأرثوذكس العرب واستبدال سكان الكثير من المناطق بمواطنين غربيين كاثوليك، وقد تكونت بالفعل العديد من المستوطنات على أساس مذهبي وكانت جميع تلك الإجراءات تهدف إلى فرض الكاثوليكية.
ولم يكن التنسيق والتعاون سراً وعلانية في كثير من الأوقات على المستويين العسكري والاستخباراتي بين البيزنطين الأرثوذكس والسلاجقة والأيوبين ضد الصليبيين الكاثوليك مصادفة، ولم يكن التعاون بين الأرثوذكس الشاميين مع الأيوبين ضد الصليبيين مصادفة فدائما السياسية لا تعرف المصادفة ولا مجال فيها للمصادفة، والحملة الصليبية الرابعة على مصر لم تخطئ طريقها وتوجهت إلى القسطنطينية عمدا، وتم تخريبها ونهبها ودمرت الكنائس والأديرة الأرثوذكسية داخل المدينة عمدا، وتم سلب وتدنيس كنيسة أيا صوفيا على أيدي الكاثوليك عمدا، الأمر الذي مهد لسقوط القسطنطينية لاحقا على أيدى العثمانيين في الوقت الذي رفض فيه الغرب الكاثوليكي مساندة الأرثوذكس البيزنطين بل على النقيض قامو بدعم العثمانيين، وبسقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح انتقلت القاعدة الأرثوذكسية إلى روسيا وانتقل معها العداء الكاثوليكى الغربى.
ومع ظهور حركة التصحيح اللوثرية في القرن السادس عشر ورثت البروتستانتية الكراهية الكاثوليكية الغربية للأرثوذكس، وعلى سبيل المثال لا الحصر فبريطانيا البروتستانتية التى لا تربطها أي حدود جغرافية مع روسيا- قامت بدعم اليابان في حربها مع روسيا لتنهزم تلك الأخيرة عام 1905.
بل إن الخلاف البروتستانتي الأرثوذكسي أعمق وأكثر حدة منه مع الكاثوليكي ولم يقتصر على آراء عقائدية أو لاهوتية فقط ففي الوقت الذي ترتبط فيه البروتستانتية ارتباطا وثيقا بالصهيونية ترفض الأرثوذكسية رفضا قاطعا قيام دولة يهودية على الأراضي الفلسطينية، وهذا ما يفسر الدعم البروتستانتي اللامتناهي من بريطانيا وأمريكا لإسرائيل في حين أن العلاقات الروسية الإسرائيلية بخلاف الحقبة السوفيتية تتسم بالتنسيق المشروط بالمصالح المشتركة.
إن العامل الأيديولوجي من الثوابت التاريخية المتجذرة وأحد أهم الدوافع غير المعلنة لمحددات الصراع الروسي الغربي، ولذلك يمكن تفسير رفض إنضمام روسيا المسيحية إلى حلف الناتو وإنضمام تركيا الإسلامية والتي يمكن وصفها بالدولة الآسيوية الغير أوربية، في الوقت الذي سمح فيه بإنضمام دول أرثوذكثية ذات تعداد بشري قليل نسبيا وضعيفة اقتصاديا وعسكريا مثل (رومانيا، اليونان، بلغاريا، الجبل الأسود) لقطع الطريق أمام أي تجارب وحدوية مستقبلية مع روسيا عاصمة الأرثوذكسية وقاعدتها الرئيسية، وفي العام 1974 عندما ضمت تركيا شمال قبرص رفض التكتل الغربي الأمريكي التحرك التركي شكليا فقط، ولم يتخذ خطوات فعلية ضدها على الرغم من الحضور العسكري البريطاني في قبرص، وكان الصمت الغربي بقصد إفشال محاولات اليونان ضم قبرص ذات الأغلبية الأرثوذكسية.
وأخيراً، فإن ما يحدث في أوكرانيا يعتبر إحدى فصول الاستقطاب والصراع المسيحي- المسيحي ما بين الشرق بمذهبة الأرثوذكسي والغرب بمذهبة الكاثوليكي البروتستانتى، وفقدان أوكرانيا من المنظور الروسي يعنى فقدان ثاني أكبر تكتل أرثوذكسي وبالتالي القضاء ونهائيا على فكرة الوحدة الأرثوذكسية الجامعة، وما يزيد الأزمة تعقيدا ليس فقط المد الكاثوليكي البروتستانتي إلى الغرب الأوكراني والذي زادت وتيرته وبشكل متسارع أعقاب تفكك الإتحاد السوفيتي بل لوقوع انقسام جديد لكن هذه المرة أرثوذكسي بسبب الإستقلال الكنسي الأوكراني عن البطريركية الروسية.
2-الخلاف الأرثوذكسي-اليهودي
يعود الصراع بين اليهودية والأرثوذكسية إلى العصور الوسطى بعد أن توحدت بعض القبائل من التتر البيض، ونجحوا بحلول القرن السابع الميلادي ببسط سيطرتهم على المنطقة الواقعة بين نهري الفولجا والدانوب وبحر قزوين والأسود وشبة جزيرة القرم وكييف، وسميت تلك المنطقة بمملكة الخزر وفي القرن الثامن اعتنقت تلك القبائل اليهودية لتستقل بذاتها وتكون في معزل عن الاستقطاب الديني سواء من الإمبراطورية المسيحية البيزنطية أو الدولة الإسلامية وأصبحت تلك الأراضي قبلة لليهود من شتى الأقطار، وبحلول القرن العاشر تمكنت روسيا الأرثوذكسية من غزو وتدمير تلك المملكة وضمها إلى الأراضي الروسية، وبذلك انتهت للأبد فكرة الدولة اليهودية الأولى على الأراضي الأوراسية، ومن هنا يمكن فهم العداء التاريخي اليهودي المتوارث للأرثوذكسية الروسية.
فإذا كان اليهود السفرد يحملون الحقد والشر للعرب والفلسطينيين فإن الأشكناز (بقايا الخزر) يحملون الحقد والشر للعرب والفلسطينيين والأرثوذكس والروس على حد سواء، لذلك فاليهود الروس كانو بمثابة الطابور الخامس دائما داخل الأراضي الروسية فأثناء الحرب الروسية البولندية قامو بدعم بولندا ضد روسيا وظهر انحيازهم لصالح الدولة العثمانية فى حروبها ضد روسيا، ونجحوا في اغتيال بعض القياصرة الروس وقاموا بمحاولات عدة لتهويد الروس الأرثوذكس، وبلغت عمليات التهويد ذروتها أواخر القرن السادس عشر الميلادي.
والدليل على أن الخلاف أرثوذكسي يهودي في الأصل لا خلاف للقياصرة الروس مع اليهود، أن القوازق الأرثوذكس الذين لا يصفون أنفسهم بالروس والذين تمردوا أكثر من مرة ضد الحكم القيصري، هم أنفسهم من قام بقتل وأسر العديد من اليهود بالتنسيق مع تتار القرم المسلمين عام 1649.
وفي العام 1915 قبل الثورة البلشيفية وحرب التحرير الأوكرانية عندما كانت أوكرانيا بهويتها الأرثوذكسية جزء من الإمبراطورية الروسية قامت الحكومة بطرد آلاف اليهود من الأراضي الأوكرانية، وبصفة عامة إتسم السلوك اليهودى فى روسيا القيصرية بالتخريبي ووقعت العديد من المذابح بقرارات من القياصرة الأرثوذكس حيال يهود روسيا.
تجلى الدور اليهودي بوضوح في صناعة الثورة الشيوعية 1917 التي أطاحت بالقيصرية، والسواد الأعظم من قادة الثورة كانو يهود (لينين، تروتوسكي، ديزرجينسكي) والرواد الأوائل للشيوعية كانو يهود (موسي هيس، كارل ماركس) والشيوعية نفسها التي قبلت بحل المسئلة اليهودية على حساب الأراضي الروسية بإنشاء وطن قومي لليهود سواء فى شبة جزيرة القرم أو مقاطعة بيروبيجان، والإتحاد السوفيتي الذي دعم قيام دولة إسرائيل وكان أول من أعترف بها قانونيا 1948 قبل أي دولة.
إن الثورة الشيوعية التي هدمت وأغلقت الكنائس استقبلتها روسيا البوتينية الأرثوذكسية في مئويتها بافتتاح كنيسة في موسكو ونصب تذكاري لضحايا ستالين، ففلاديمير بوتين نفسه الذي هاجم الثورة الشيوعية وقادتها في أكثر من موضع أمر بتعديل مواد التاريخ بشأن الشيوعية فى المؤسسة التعليمية بما يتفق مع الرواية الروسية الحديثة.
وفي العام 2014 دعم اليهود الثورة البرتقالية الأمريكية ماليا وتنظيميا وبالحشد الميدانى والمشاركة في أعمال العنف إلى أن سقط نظام يانكوفيتش الموالي لروسيا.
إن نجاح جماعات الضغط والنفوذ اليهودية في تلميع ودعم وتصعيد زيلينسكي اليهودي الديانة وفرضه على المشهد السياسي الأوكراني هو ونظامة وصناع قراره، وصولا لتشكيل حزب سياسي تم اختيار قيادته والإعداد له مسبقا كانت بمثابة أكبر عملية تضليل وخداع للعقل الجمعي الأوكراني.
وأخيراً، هناك صراع يهودى -أرثوذكسي روسي يرجع لاعتبارين:
- الأول: تاريخي وهو تدمير الأمراء الأرثوذكس لمملكة الخزر اليهودية، والتي إمتدت إلى الأراضي الأوكرانية في القرن العاشر الميلادي.
- الثاني: عقائدي يتعلق بنظرة مستقبلية لا بالمشهد الآني، فصعود دولة كبرى بحجم روسيا بخلفيتها الأرثوذكسية يتعارض دينيا مع وجود دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية.
ثانياً- الدوافع الديموغرافية
من الناحية الإستراتيجية تدرك الدول الكبرى أن حجم الكتلة البشرية أحد أهم المعايير الرئيسية التي تتحكم في المقدرات الاقتصادية والعسكرية وأن الانهيار الأممي والتغيير في خرائط القوة والنفوذ يرتبط بالتمدد المحكوم أو الانكماش التدريجي للجماعة البشرية ويشير الواقع الديمغرافي لروسيا وأوروبا إلى حالة من الانهيار غير المسبوق تتمثل فى انخفاض عدد السكان الأصليين وارتفاع نسبة الشيخوخة وزيادة نسبة الوفيات أمام المواليد ويرجع ذلك لاعتبارات اقتصادية في روسيا وأوروبا الشرقية واجتماعية وثقافية لدى نظيرتها الغربية.
وعادة ما تلجأ الدول التي تعاني من التراجع السكاني إلى نوعين من التدابير:
- الأول: مستقبلية بتشجيع السكان على الإنجاب من خلال برامج دعم اجتماعي.
- الثاني: فورية بفتح أبواب التجنيس أمام المهاجرين.
وهنا تبرز أزمة ديموغرافية من نوع آخر وهي ارتفاع نسبة مسلمي هذه الدول فمن خلال تتبع المسار الطبيعي للهجرات نجد الهجرات إلى روسيا قادمة من دول آسيا الوسطى ذات الأغلبية المسلمة وإلى أوروبا من إفريقيا والمغرب العربي وتركيا ولاجئي دول النزاع في الشرق الأوسط فضلا عن ارتفاع نسبة المسلمين من السكان الأصليين فى النموذجين بعيداً عن الهجرات الطبيعية الأمر الذي أرق دوائر صنع القرار.
1-على الجانب الروسي
إضافة إلى المخاطرالتي تهدد روسيا الآسيوية والممثلة فى الزحف الديموغرافي الصيني على صحراء سيبيريا وشرق روسيا وزيادة نسبة مسلمي آسيا الوسطى الجزء الحيوي الهام من دول الفضاء الجيوسياسي للإتحاد السوفيتي السابق مقابل انخفاض تعداد سكان روسيا الأمر الذي ينذر بإذابة الهوية السلافية الأرثوذكسية.
تسعى روسيا إلى الحفاظ على تكتل ديموغرافي في مواجة 27 دولة أورواطلسية بتعداد سكان يفوق 500 مليون مواطن ومن ورائهم الولايات المتحدة بتعداد سكان 330 مليون مواطن خاصة بعد أن خسرت أمام الغرب الوحدة الجامعة (السلافية والأرثوذكسية) بإنضمام دول سلافية وأرثوذكثية إلى حلف الناتو بالإضافة إلى خسارة حلف وارسو والأيديولوجية الشيوعية التي وحدت دول أوروبا الشرقية تحت المظلة الروسية السوفيتية وبمجرد انهيار الإتحاد السوفيتي فقدت روسيا 142 مليون مواطن في عام واحد أمام التكتل الغربي.
وتعي روسيا أن عودتها كامبراطورية عظمى مرهون بتوظيف قوى جامعة وسكان شرق أوكرانيا قادرين على ملئ الفراغ الديموغرافي الروسي مع الحفاظ على التركيب العرقي (السلافي) والطائفي (الأرثوذكسي) واللغوي للمشروع الروسي.
وكانت أولى الخطوات هي المرسوم الذي أصدرة بوتين في 2022 بأحقية جميع الأوكرانين في الحصول على الجنسية الروسية تمثلت في سرعة تجنيس سكان الأقاليم الأربعة الواقعة جنوب شرق أوكرانيا (دونيتسك، لوغانسك، زبروجيا، خيرسون) والتى شرعنت موسكو ضمها باستفتاء شعبي ويمثل إجمالي عدد سكانهم إلى جانب القرم التي ضمتها في 2014 قرابة 11 مليون نسمة أصبحو مواطنين تابعين للإتحاد الروسي.
2-على الجانب الأوروبي
مجرد نجاح الغرب في حرمان روسيا من دمج سكان الشرق الأوكراني يعتبر هدف في حد ذاته أو على أقل تقدير العودة إلى نقطة حياد أوكرانيا والحفاظ على استقلاليتها بعيداً عن روسيا أو الغرب فدائما ما ارتبط الهاجس الغربي بالعمق الإستراتيجي الكبير لروسيا في مواجهة الغرب على المستوى الفردي والجماعي وبالتفوق العددي الديموغرافي الروسي على المستوى الفردي أمام كل دولة على حدة.
حيث يستحوذ القسم الأوروبي من روسيا على 40% من إجمالي مساحة القارة الأوروبية ويشكل أكبر تجمع بشري أوروبي بتعداد يقارب 110 مليون نسمة وتاتي ألمانيا في المرتبة الثانية بإجمالي تعداد 83 مليون نسمة.
وإذا كانت الهجرات غير النظامية من دول شرق أوروبا إلى غربها بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي ساهمت في خلق نوع من التوازن الديمغرافي لدى الغرب فإن دول أوربا الشرقية اليوم تعاني من ضغوط ديموغرافية أشد وطأة من نظيرتها الغربية فهي دول غير جاذبة للهجرات بحكم أوضاعها الاقتصادية وتسعى لتوفير عمالة آسيوية رخيصه لسد العجز الداخلي ومن المتوقع أن تسير على خطى بولندا بوضع العراقيل أمام الهجرات إلى الغرب الأوروبي.
واستبدالاً للتدفقات العربية والإسلامية أصبحت أوروبا الغربية أمام خيار أخير وهو الاستفادة القصوى من سكان أوكرانيا لسد العجز ولو جزئيا خاصة في مناطق غرب أوكرانيا ذات الحضور الكاثوليكي أصحاب الأصول الرومانية والبولندية الذين الحقو بأوكرانيا بنهاية الحرب العالمية الثانية.
3-على الجانب الإسرائيلي
تاريخيا أوروبا الشرقية كانت بمثابة الخزان البشري للدولة العبرية ويمكن لإسرائيل تحقيق مكسب ديموغرافي باستقدام عشرات الآلاف من يهود أوكرانيا المضطرين والذي ينطبق عليهم (قانون العودة) لتوطينهم في المستعمرات الجديدة أو للعمل في المهن الوضيعة على غرار يهود الفلاشا الإثيوبيين.
ثالثاً- الدوافع الطاقوية
تمثل مصادر الطاقة إحدى أهم محاور التنافس والصراع الدولي والسيطرة على منابع الطاقة يعني ضمان التفوق الصناعي والعسكري وبقراءة خرائط تحرك القوى الكبرى إما بالتدخل العسكري المباشر أو إستخباراتيا من وراء ستار الجماعات الإرهابية أو بإثارة النزعات الإثنية والطائفية نجد مقصدها التحكم في طرق وإمدادات الطاقة (العراق، ليبيا، نيجريا، جنوب السودان، سوريا).
وتعتبر روسيا دولة ريعية فهي واحدة من أكبر دول العالم إنتاجا وامتلاكا لإحتياطات مؤكده من الطاقة ويعتمد اقتصادها بشكل رئيسي على صادرتها من النفط والغاز ويمثل هذا القطاع ثلثي حجم صادرتها السنوية وتعتمد أوروبا إحدى أكبر الأسواق استهلاكا للطاقة في العالم بقدر هائل على وارداتها من روسيا والتى تصل إلى النصف من احتياجاتها النفطية و40% من الغاز.
على الجانب الأميركي سعت واشنطن لسحب ورقة الطاقة الضاغطة من يد موسكو وتحرير أوروبا من التبعية الطاقية لروسيا وفي هذا الإطار لم تكن أوكرانيا بعيده عن أتون الصراع الغربي الروسي على الرغم من كونها دولة غير منتجة للطاقة بشكل رئيسي لكن جغرافيا الطاقة فرضت عليها أن تكون نقطة مرور لما يمثل ثلث صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا ومعبر للفرع الجنوبي من خط أنابيب دروجبا المار عبر شمال غرب أوكرانيا الشريان الرئيسي لتغذية أوروبا بالنفط الروسي.
البداية كانت بنجاح الجهود الروسية في التصدى للولايات المتحدة وإفشال مشروع خط أنابيب نابكو عام 2013 والقائم على مد خطوط غاز من دول آسيا الوسطى لتغذية أوربا بعيداً عن روسيا فاتجهت أنظار التكتل الغربي إلى الغاز القطري والذي يتحتم مروره عبر الأراضي السورية وجاء التحرك الأميركي بافتعال ثورة ملونة في أوكرانيا عام 2014 أطاحت بناكوفيتش (الحليف الروسي) بقصد إشغال روسيا وتوريطها في حرب مفتوحة في فضاءها الجيوسياسي السابق تزامنا مع التدخل الأميركي في سوريا في نفس العام لكي لا تتصادم الأهداف الأميركية مع العراقيل الروسية على الأراضي السورية، لم تنجر روسيا للمستنقع الأوكراني وتمهيدا للتدخل فى سوريا اكتفت بضم شبة جزيرة القرم لهدفين.
- الأول: فرض حماية أكثر على خط غاز بلوستريم المار عبر البحر الأسود إلى تركيا وفي نفس العام شرعت في مد خط آخر موازي له ترك-ستريم لربط أوروبا الجنوبية والوسطي بالغاز الروسي فى إطار تنافسي مع المشروع الأذربيجاني لمد خط أنابيب عبر البحر الأدرياتيكي وصولا إلى جنوب أوروبا.
- الثاني: لوجود ميناء سيفاستبول بها القاعدة الرئيسة للأسطول الروسي في البحر الأسود بوابة روسيا إلي المتوسط لضمان الربط اللوجيستي بقاعدتها البحرية بميناء طرطوس السوري وكان الهدف الروسي في سوريا هو نفس الهدف الأميركي (حقل غاز الشمال) أكبر حقل غاز طبيعي في العالم والذي تتقاسمه كلا من قطر وإيران.
وبتحقيق روسيا أهدافها في القرم تدخلت عسكرياً في سوريا في العام التالي 2015 لإجهاض المشروع الجديد خط غاز قطر تركيا والذي كان من المقرر أن ينقل الغاز القطري عبر الأراضي السعودية والأردنية مرورا بالأراضي السورية ومنها إلى تركيا وصولاً إلى أوروبا ولقطع الطريق أيضاً أمام مشروع حليفتها إيران بنقل الغاز الإيراني عبر جنوب العراق الشيعي إلى سوريا العلوية ومنها إلى البحر المتوسط وصولاً إلى أوروبا.
وأخيراً أعادت الولايات المتحدة استخدام الورقة الأوكرانية لإجبار روسيا على التدخل العسكري في أوكرانيا بهدف:
أ- تعطيل الجزء الأكبر من إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا الماره عبر أوكرانيا نتيجة للحرب.
ب- الاستفادة من تأزم العلاقات الأوربية الروسية والضغط بسببية مقنعة على الرأي العام الأوروبي لإيقاف استيراد الغاز والنفط من روسيا لتقليص نفوذها وتعجيزها عن تمويل حروبها الطاقية الخارجية خاصة بعد أن فرضت أمر واقع أمام الولايات المتحدة والغرب فى سوريا وليبيا.
ج- تحقيق أقصى استفادة ممكنة من صادراتها الطاقية للسوق الأوروبي بأسعار مرتفعة استغلالا للأزمة.
رابعاً- الدوافع الجيوسياسية
لأوكرانيا أهمية كبيرة يفرضها الواقع الجيوسياسي لذلك كانت وستظل مسرحاً لعمليات الاستقطاب والنفوذ بين روسيا والغرب فهى أكبر الدول الأوربية وثاني أكبر رقعة مساحية بعد القسم الأوربي الروسي بما يسمح بقدرة كبيرة على التحرك الإستراتيجي حال حدوث مواجهة عسكرية روسية أطلسية فضلاً عن وقوع تلك الدولة العازلة المفصلية على تقاطع الطرق بين الشرق والغرب.
وقد عدد الجغرافيون أهمية تلك المنطقة ومنهم الإنجليزي هالفورد ماكيندر الذي وصف المضيق بين بحر البلطيق والبحر الأسود (دول البلطيق، أوكرانيا، بيلاروسيا) بالبوابة الغربية لأوراسيا وبالطبع هي نفس المنطقة التي تمثل المدخل الشرقي للغرب وذكر بأنها كانت الممر الآمن لتحركات القبائل البربرية والأسيوية إلى أوروبا ومنهم الهون، الآفار، البلغار، الخزر والمغول.
وعلى الجانب الآخر كانت نفس المعبر التاريخي للغزو الأوربي لروسيا بدءاً من السهل الشمالي الأوروبي مروراً بالمنطقة بين بحري البلطيق والأسود وصولاً إلى روسيا فجاء منها الغزو البولندي عام 1605 والسويدي بقيادة تشارلز الثالث 1708 والفرنسي 1812 بقيادة بونابرت والألمانى النازي 1941.
لكن من المنظور الجيوسياسي تبقى أوكرانيا الأكثر أهمية من بين الدول الواقعة بين بحري البلطيق والأسود فبعيدا عن تقارب العلاقات أو دوران بيلاروسيا فى الفلك الروسي -إن صح التعبير- إلا أن مساحتها الجغرافية تمثل ثلث مساحة أوكرانيا كما أن طبوغرافيا دول البلطيق لن تعطي أفضلية لأي تدخل بري أطلسي تجاة روسيا فضلا عن متاخمة مقاطعة كالنيغراد الروسية بموقعها الإستراتيجي داخل العمق الأوربي لليتوانيا وبإحكام السيطرة على ممر سوالكي الرابط بين بيلاروسيا (حليف روسيا) سيتم حصار وعزل دول البلطيق عن باقي دول الأطلسى.
وبالنظر إلى أوكرانيا نجد مساحتها تمثل أكثر من نصف مساحة المنطقة الواقعة بين البحر الأسود وبحر البلطيق وحدودها الجغرافية مع روسيا هي الأطول وتبلغ 1576 كم وهى الأكثر إمتدادا داخل الأراضي الروسية والمسافة بين العاصمة الأوكرانية كييف والروسية موسكو أقل من 800 كم وأقرب نقطة داخل الحدود الأوكرانية تبعد عن موسكو أقل من 500 كم وبذلك تعتبر العاصمة الروسية إحدى أقرب المدن التي تحاذى الحدود البيلاروسية-الأوكرانية ويعنى ذلك أن وجود منظومات صاروخية غربية على الحدود الأوكرانية قادرة على تهديد أمن العاصمة موسكو ومن هنا يمكننا استخلاص أن الحرب الروسية-الأوكرانية يمكن وصفها بالوقائية لإجهاض إنضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو خاصة بعد استمرار المحاولات الأطلسية لحصار وتطويق روسيا على الرغم من التعهد بعدم التوسع تجاه الشرق عقب تفكك الإتحاد السوفيتي.
لذلك، ففقدان أوكرانيا لصالح الغرب يعد بمثابة أكبر خسارة روسية على المستوى الجيوسياسي فهي إحدى دول الجوار المباشر لروسيا وتمثل أمنها القومي وعمقها الإستراتيجي ومجالها الحيوي وإضافة إلى ذلك أطلال الأراضي الأوكرانية على شبة جزيرة القرم ذات الأهمية الإستراتيجية لوجود ميناء سيفاستبول بها مقرالأسطول الروسي في البحر الأسود مدخل روسيا إلى المتوسط والتي ضمتها روسيا عام 2014 وأعطتها ميزة جيواستراتيجية واضحة إلى جانب اشتراك القرم فى مضيق كيرتش الفاصل بينها وبين مقاطعة كرانسودار الروسية الطريق البحرى الوحيد إلى بحر أزوف والمطل على السواحل الأوكرانية وباحكام موسكو السيطرة على الأقاليم الجنوبية الشرقية الأربعة مع شبة جزيرة القرم سيتحول إلى بحيرة روسية خالصة وإجمالا فأوكرانيا هى منطقة تصادم المصالح والأهداف الجيوسياسية الروسية الأطلسية.