• اخر تحديث : 2024-11-23 11:50
news-details
تقارير

جولة التصعيد الأخيرة على غزة.. ما الذي تحقق فلسطينيًا وإسرائيليًا؟


شنَّ الاحتلال “الإسرائيلي” غارات على قطاع غزة بتاريخ 9 مايو أدت إلى استشهاد 13 فلسطينيًا، بينهم 3 قيادات لسرايا القدس، الجناح العسكري للجهاد الإسلامي، وكانت ذريعة الاحتلال في ذلك أنها استهدفت قيادات السرايا التي كانت تدعم وتوجه عمل أعضائها في الضفة الغربية، وبدورها قصفت الغرفة المشتركة وبتصدر من السرايا دولة الاحتلال والمستوطنات المجاورة، ما جعل جولة التصعيد مستمرة حتى ال 14 من مايوا، استشهد خلالها 35 فلسطينيًا، من بينهم قيادات وأعضاء من الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، وقتل فيها “إسرائيلي” بفعل صواريخ المقاومة.

يُثير هذا العدوان على قطاع غزة، من حيث التوقيت الذي اختارته “إسرائيل” في البدء، والتوقيت الذي اختارته المقاومة للرد بعد ضبط نفس غير مسبوق،  واستهدافها لعمق الكيان الاحتلالي، وردود الاحتلال، وما تحقق في نهاية الجولة من التوصل لاتفاق بشأن إنهاء التصعيد، جملةً من التساؤلات حول ما تحقق من هذه الحرب على مستوى كيان الاحتلال، ومستوى المقاومة، والأهداف الحقيقية التي شكلت مصلحةً ل”إسرائيل” في شن الحرب، وتلك الأخرى التي رأت فيها المقاومة ضرورة قيادة المواجهة بواقعية، ومدى وجود حلول سياسية تلوح في الأفق برعاية إقليمية.

في تصدير الأزمة:

عانت حكومة “نتنياهو” منذ بدء تشكيلها غير المستقر وأدائها اليمين القانونية في العام 2022 من عدة أزمات متتالية عصفت بها، كان أبرزها تلك الاحتجاجات المناهضة للإصلاحات القضائية التي عملت على تمريرها حكومة نتنياهو، والتي تُعدّ الأكبر والأضخم في تاريخ دولة الاحتلال، وقد امتدت هذه الاحتجاجات للمؤسسة العسكرية، حيث رفض المئات من جنوده الالتحاق بالخدمة العسكرية حال استمرار الحكومة في إجراءاتها القضائية.

لم تقف الأزمات هنا، بل شكلت أزمة امتناع أعضاء من الائتلاف الحكومي بقيادة وزير الأمن القومي “بن غفير” عن حضور جلسات الحكومة والتصويت على قراراتها، منعطفاً خطيرًا يُنذر بانتخاباتٍ مبكرة في حال لم تتمكن الحكومة من إقرار الموازنة نهاية الشهر الحالي، وقد شكّلت المطالب التي وضعها “بن غفير” وحزبه تحديات ماثلةٍ أمام حكومة “نتنياهو”، لا بُدّ من تجاوزها لحماية حكومته، تلك المطالب التي كانت تتمحور حول ضرورة تنفيذ جزء من خطة الإصلاح القضائي، وتضييق الخناق على الأسرى الفلسطينيين، والعودة إلى سياسة الاغتيالات في الضفة وغزة.

استنادًا لما سبق، تبدو العملية العسكرية “الإسرائيلية” غير مفاجئة، وتوقيتها يخدم سياسة “نتنياهو“، التي اعتمد فيها على تصدير أزماته الداخلية للشارع الفلسطيني، باعتباره الحلقة التي يستطيع من خلالها لملمة أفراد ائتلافه الحكومي، وتحقيق جزء من اشتراطاته، فمن ناحية، هدف “نتنياهو” من العملية العسكرية ضد القطاع والمقامة إلى تلبية دعوات أحزاب اليمين المتطرفة المشكلة للحكومة، والمطالبة بضرورة تنفيذ عمليات اغتيال، وخاصة للمحركين للعمل المقاوم في الضفة، ومن ناحية أُخرى، فإنّه ينقل تركيز الرأي العام “الإسرائيلي” من استيائه المستمر من نية الحكومة الحالية فرض إصلاحات قانونية، وكذلك شعورهم المتزايد بضعف الحكومة في ردع العمل المقاوم إلى دائرة المواجهة مع المقاومة، الأمر الذي من شأنه إضعاف النزاعات الداخلية والتوحد ضد الفلسطينيين، حتى لو كان ذلك مؤقتًا، وبالتالي يمكن القول أنّ “نتنياهو” عمد إلى ترحيل بعض من أزماته الداخلية، بدلاً من العمل على فكفكتها داخلياً، وذلك على حساب سفك الدم الفلسطيني، باعتباره خيار أقل تكلفة، ولعلّ ذلك ما يفسر إصرار الاحتلال على عدم الالتزام بشرط وقف الاغتيالات لعناصر وقادة المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي يدل بوضوح على أنّ العدوان لم يكن مبنياً فقط على حسابات أمنية مرتبطة بتوجيه قيادات المقاومة في غزة للعمل المقاوم في الضفة، بل لتحقيق أهداف داخلية “إسرائيلية”.

رغم الحديث عن ترحيل الأزمة الداخلية وتذويبها في السياق الفلسطيني، لا يبدو أنّ التفكير الاستراتيجي “الإسرائيلي” هدف إلى الدخول في حرب يطول مداها، إذ يدرك الاحتلال أنّ طول فترة المواجهة من شأنها أن تقلص مدى الفائدة “الإسرائيلية” من أيّ عدوان، خاصة في ظل وجود جبهة “إسرائيلية” داخلية يقل تماسكها، وحكومة متعثرة في نطاق عملها، ورغم  أنّ الحرب أعادت مباشرة لم شمل الائتلاف الحكومي، لكنّها لم تكن قادرة على جمع الكل “الإسرائيلي”، الذي رأى أنّ إطالة أمد الحرب ودخول جبهات أخرى فيها سيؤدي إلى زيادة حدة الانتقاد للحكومة، ولربما أكثر من نقده للإصلاحات القضائية، الأمر الذي يضع “نتنياهو” بين خيارات صعبة.

مقاومة متأنية وواقعية متفوقة:

شَكّل مصطلح “صد العدوان” الذي استخدمته المقاومة الفلسطينية هذه المرة، أمرًا مُدلِلًا على مدى واقعيتها في المواجهة، وإدراكها الفعلي بأنّ العدوان هدف لنقل أزمة “إسرائيلية” لساحتها، فاستطاعت منذ البداية أن تقلل إلى حد كبير من حجم النهم “الإسرائيلي” بتحقيق المكاسب، وبدا ذلك واضحًا من خلال ما يلي:

- قدرتها على التحكم بالرد، والذي استغرق قرابة 30 ساعة، حيث جاء بعد تنسيق وتوافق كامل بين أطر المقاومة في القطاع، وقد تمثّل ذلك في تعزيز دور الغرفة المشتركة وجعلها الجهة التي تقود المعركة بتصدر من السرايا (هذه المرة)، وكان في ذلك رسالة للاحتلال، أنّ محاولة استفرادك بجهة ما لا يؤدي إلى تخلف الجهات الأخرى، خاصة أنّ الاحتلال حرص على عدم دخول حماس في المعركة، على الأقل بشكل مباشر، فقد كان لهذه السياسة أثر كبير في تعزيز سياسة “الرد بالصمت” حيث سادت حالة من الهروب “الإسرائيلي” من المناطق المحاذية لقطاع غزة باتجاه مدن المركز في فلسطين المحتلة، حتى قبل إطلاق أي صاروخ من قطاع غزة، وهذا يدلل على أنّ مفهوم الرد بات يؤخذ بالحسبان من قبل “إسرائيل”، وأنّ أيّ عدوان لا بُدَّ وأن يرافقه شلل في مرافق الكيان الاحتلالي.

- تمكنت المقاومة الفلسطينية، والتي تمثلت بالأساس هذه المرة في حركة الجهاد الإسلامي، من إطلاق الصواريخ بشكل واسع طال نقاطاً عميقةً داخل دولة الاحتلال منذ اللحظة الأولى للعدوان، في مؤشر واضح على أنّ إخلاء المستوطنات المحاذية لم يعد أمراً ذا أهمية، وبإمكان المقاومة الوصل مباشرة إلى نقاط تشل عمق الكيان.

-أبرز العدوان الأخير على القطاع أنّ “إسرائيل” بإمكانها أن تبدأ الحرب، لكن ليس بمقدورها فرض نهايتها، فعلى الرغم من اغتيالها لعناصر الجهاد، إلّا أنّ الحركة حاولت إطالة أمد الحرب ولو قليلاً، ضمن تقديرٍ لافت بأن “نتنياهو” وحكومته يُعانون ضغوطاً داخلية لوقف العدوان، وليس بمقدورهم فرض إملاءاتهم الإستراتيجية ووقف الحرب إلا باستخدام قدر كبير ومفرط من القوة تجاه المقاومة وقطاع غزة، وهو ما كان مصدر تخوف بحد ذاته، من شأنه أن يؤدي إلى تفجر الأوضاع، وفي هذا السياق اعتبر نائب رئيس مجلس الأمن القومي “الإسرائيلي” السابق، أنّ تجاهل “نتنياهو” دعوة قادة الجيش والاستخبارات وقف الحرب يستدعي تحقيقاً مباشراً.

-لفت العدوان الأخير النظر إلى التأثير الإقليمي المحتمل في أيّ عدوان قادم على قطاع غزة، حيث مارست في العدوان الحالي كل من مصر وقطر والأمم المتحدة وساطاتها لوقفه، إلّا أنّ الدور الإيراني ربما كان حاضراً هذه المرة، باعتباره الداعم الأول لحركة الجهاد، ولربما يعني هذا في مراتٍ قادمة أنّ دول الإقليم أصبحت أكثر شراكة في قرارات وقف الحرب، وتدخلاتها تنبع من مخاوف متزايدة من تنام للدور الإيراني، وهو ما قد يشير إلى أنّ حلولاً سياسية قد تلوح بالأفق مع غزة.

- استطاعت المقاومة، تحقيق مكسب أضافي في إصرارها على إثبات أنّ عمليات “إسرائيل” غير قادرة على ترميم قوة الردع لديها، ولربما أنّ الأمر تراكمي منذ الحروب السابقة على القطاع، حُرِص على تأكيده هذه المرة، وهو ما لم تتطرق إليه وسائل الإعلام “الإسرائيلية”، أو حتى الحكومة “الإسرائيلية”، باعتبار أنّ الحرب جاءت لتعزيز قوة الردع، لذلك يمكن القول أنّ المقاومة استطاعت تقزيم طموح “نتنياهو” بترويج العدوان الأخير باعتباره نصرًا.

صحيح أنّ “إسرائيل” استطاعت توجيه ضربة مؤلمة لحركة الجهاد الإسلامي، تمكنت خلالها من اغتيال عدد من قادة الحركة في الصف الأول، إلاّ أنّ الحركة أثبتت أن هنالك تسلسلاً قيادياً فيها لا يُمكن لسياسة الاغتيال أن تربكه، وهو ما تمثل فعلاً في اتخاذ قرار صد العدوان، ومرحلة التأني التي سبقت الرد، والاتصالات التي جرت مع قادة الحركة.

تُظهر مقارنة سريعة لمدى قدرة القبة الحديدية اعتراض الصواريخ، قصوراً واضحاً في قدرتها على اعتراض الصواريخ التي انطلقت في المواجهة الأخيرة، مقارنةً بما جرى في عدوان 2021 على القطاع، حيث تراجعت قدرة الاعتراض من 95% إلى 90%، وهذا ما يعني تطور القدرات القتالية للمقاومة الفلسطينية، الأمر الذي أجبر “إسرائيل” على ابتكار أنظمة جديدة للتصدي للصواريخ، تمثل في “مقلاع داوود” الذي بلغت تكلفة الصاروخ الواحد منه مليون دولار.

استناداً للنقطة السابقة، تجدر الإشارة هنا إلى أنّ العدوان الأخير أظهر أنّ هنالك “حرب عقول” تدور ما بين المقاومة الفلسطينية و”إسرائيل”، إذا تستطيع المقاومة في كل مرة تطوير قدراتها، وإظهار اهتمامها بشكل واضح في التفكير بطرقٍ جديدة لاختراق المنظومات الدفاعية “الإسرائيلية”، وبمقارنة ما يتوفر لـ”إسرائيل” من قدرات هائلة في التطوير وتوفر المال، مع ما تستطيع المقاومة أن تحصل عليه بالكاد، يعدُ إضافة مهمة في كل عدوان.

الخاتمة:

تُظهر نتائج العدوان الأخير على غزة أنها ورغم حصارها أصبحت تُشكل مأزقاً بالنسبة لـ”إسرائيل”، فمن جهة أولى أصبحت “إسرائيل” غير قادرة على وقف تنام المقامة داخلها، ومنع تطوير الأسلحة، ومن جهة ثانية، غير قادرة على تغيير نمط الحكم فيها، وهذا ما يجعلها تتجه فعلاً إلى تكتيكاتٍ مرحلية، ترى في كل مرةٍ من خلالها أنها تحد من قدرة الفصائل الفلسطينية على التوسع أكثر.

لم يعد خفياً أنّ “إسرائيل” تُمارس دورها بأنّها كيان احتلالي يسعى بكل قوته إلى توجيه ضرباته نحو المقاومة الفلسطينية في كل أماكن تواجدها، ولا يتورع عن تنفيذ أعماله الوحشية تجاهها، ويستعين مرةً أخرى بسياسة الاغتيال، ولكنه في الوقت ذاته يُدرك أنّ سياسته قد تُلحق خسائراً بالمقاومة الفلسطينية، ولكنها غير قادرةٍ على إنهائها، وهذا الأمر لا يقتصر على غزة فقط، وإنما أصبح واضحاً في الضفة الغربية وبشكل ملفت، فرغم كل سياسات الاحتلال العقابية، وملاحقاته الأمنية، إلاّ أنّ الأجيال الفلسطينية يتصاعد في فكرها اتخاذ المقاومة وسيلة استراتيجية للتصدي للاحتلال.

الإسراع الإقليمي إلى وقف الحرب، والتدخل الأردني والمصري والقطري واللبناني والأمم المتحدة وغيره، يشير إلى أنّ النظر إلى غزة باعتبار الاعتداء عليها في حال استمرار أمده قد يفجر الأوضاع في الضفة، وهذا ما يحتاج حلّاً سياسياً، ولربما الفترات المقبلة قد تشهد حوارات إقليمية مع حماس وحركة الجهاد الإسلامي لإيجاد حلول سياسية.

شكل موقف حركة الجهاد الإسلامي في بدء الحرب والتوصّل لهدنة بشأن انتهائها، موقفاً منضبطاً أخذ بالحسبان حسابات الساحة الداخلية والوضع القائم في قطاع غزة، وراعى الأدوار الخارجية التي قام بها وسطاء مختلفين لوقف الحرب، فكان منفتحاً على كل الاتصالات التي جرت مع الحركة، قادراً على تقدير الموقف، دون توجيه لاتهامات لأي من الأطراف، وهذا ما يعني مزيداً من التقارب والحضور للجهاد الإسلامي.