• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39
news-details
أبحاث

قمة جدة العربية.. رسائل استراتيجية من منظور غربي


تباينت الرؤى الغربية حول فعاليات ومخرجات القمة العربية الـ32 التي عقدت في مدينة جدة في 19 مايو الجاري، والتي تجاوزت كونها مجرد تجمع إقليمي سنوي يناقش قضايا المنطقة إلى تناول قضايا دولية متعددة. وقد تسببت مشاركة كل من الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي والرئيس السوري بشار الأسد في أعمال القمة، في تحفيز ردود الأفعال الغربية، خصوصًا أن الطرفين يجسدان نموذجين متناقضين في علاقتهما مع روسيا، كأحد أبرز الفاعلين الدوليين الذي يرتبط بعلاقات متشابكة مع دول المنطقة. وبالتالي، فإن مشاركتهما على الطاولة ذاتِها مثلت حدثًا فريدًا. وهو ما يمكن معه تفسير استحواذ تلك المشاركة على ردود الأفعال الغربية، ما بين مؤيد ومعارض، ومراقب ومتحفظ.

وتتناول هذه الورقة الرسائل الاستراتيجية التي أطلقتها القمة للدول الكبرى، وتحليل المواقف الدولية من تلك الرسائل، وملامح الاستراتيجية العربية الجديدة التي عبّر عنها البيان الختامي للقمة، وتلقفتها القوى الدولية، نحو قضايا المنطقة والعالم.

أولًا- رسائل استراتيجية:

جاء مشهد مشاركة الرئيسين الأوكراني فلوديمير زيلنسكي والسوري بشار الأسد، مربكًا للقوى الغربية، لما تضمنه من تناقضات، لأنه حمل ما يمكن اعتباره “رسائل استراتيجية”، والتي يمكن قراءتها فيما يأتي:

الرسالة الأولى؛ عبّر عنها تناول وسائل إعلام غربية لأعمال القمة، إذ أشارت إلى أن الدول العربية ستعتمد على مصفوفة مصالحها الوطنية في علاقاتها الدولية، دون الارتباط بسياقات أخرى. فقد بدا واضحًا أن هناك توجهًا عربيًّا لبناء علاقات متوازنة مع وحدات النظام الدولي بتمايزاته السياسية والاقتصادية قائمة على المنفعة المتبادلة، لتحقيق أقصى استفادة ممكنة، وهو ما جسدته مشاركة زيلنسكي في القمة العربية.  كما فتحت القمة العربية الـ 32، الباب أمام احتواء الرئيس الأوكراني والتأكيد على الحياد العربي من الحرب الروسية-الأوكرانية، وعدم معاداة أوكرانيا أو الوقوف بجانب روسيا ضد بلاده.

واحتفت وسائل إعلام غربية أخرى بفتح المجال أمام الرئيس الأوكراني للتعبير عن رأيه في موقف الدول العربية من الحرب القائمة، ووصفته بأنه كان بمثابة “انقلاب دبلوماسي”، قد يتبعه مستقبلًا “انقلاب في الدور السياسي”، والتحول إلى أدوار أخرى مثل: “محفز السلام” أو “الوسيط” في النظام الدولي، ليحل محل قوى أوروبية فشلت في نزع فتيل الحرب في الجانب الشرقي من قارة أوروبا.

الرسالة الثانية؛ تتمثل في رؤية القوى الغربية وأمريكا لتعاظم الدور القيادي لدول الخليج العربي، وقيادتها لـ”عملية إعادة الهيكلة الإقليمية. حيث تمتلك دول الخليج العربي رصيدًا في جهود الوساطة بين كييف وموسكو، إذ ساعدت في سبتمبر 2022 في تبادل عشرات السجناء بين البلدين، وكان للسعودية والإمارات الدور الأبرز في ذلك الأمر.

أما الرسالة الثالثة والأخيرة؛ فيعبّر عنها إدراك القوى الدولية والغربية تحديدًا لتراجع النفوذ الدولي للدول الأوروبية في القضايا المختلفة، ما تسبب في فراغ يمكن أن يساعد دول الخليج العربي في أن تحل محلها، وخصوصًا في مسألة إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، إما عبر الوساطة المباشرة، أو تحفيز الصين على أداء دور وساطة أكثر فاعلية بين الجانبين.

وقد ركزت وسائل إعلام غربية على تغريدة الرئيس الأوكراني عقب مشاركته في أعمال قمة جدة ومغادرته إلى اليابان للمشاركة في قمة الدول السبع، إذ قال إنه أراد “أن يطرح خطته للسلام في أوكرانيا على الدول العربية”، وهو ما يعني أنه بات محبطًا من التحركات الأوروبية الرامية لوقف الحرب، وبالتالي أصبح يبحث عن بديل. وقال زيلينسكي في تغريدة، إن خطته للسلام تشمل "الإفراج عن السجناء السياسيين في شبه جزيرة القرم والأراضي المحتلة مؤقتًا، وبناء صيغة للسلام والتعاون في مجال الطاقة".

وقد رأت بعض القوى الغربية أن وجود زيلينسكي في القمة ذاتِها مع الأسد هو “رمز للتغيير الإقليمي”، موضحة أنه مع الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأمريكي تدريجيًّا من أزمات المنطقة، سُمح للروس والصينين بالحصول على موطئ قدم في المنطقة، ودُفع اللاعبون الإقليميون للبحث في المقام الأول عن مصالحهم الخاصة وليس كأعضاء في المحور الغربي.

ثانيًا- فك الارتباط مع الموقف الغربي تجاه سوريا:

الرسائل السياسية للقمة العربية، وتحديدًا الرسالة الأخيرة، تقود إلى رؤية أخرى غلبت على القراءة الغربية والدولية عمومًا لأعمال قمة جدة. فقد كان استقبال الرئيس بشار الأسد بعد قطيعة استمرت 12 عامًا، بمثابة صدمة وإعلان لـ”فك الارتباط” سياسيًّا بين الدول العربية وأوروبا وأمريكا. إذ رحّب البيان الختامي للقمة العربية بقرار “استئناف مشاركة وفود الحكومة السورية في اجتماعات مجلس الجامعة والمنظمات والأجهزة التابعة لها، وأعرب عن أمله في "أن يسهم ذلك في دعم استقرار الجمهورية العربية السورية، ويحافظ على وحدة أراضيها، واستئناف دورها الطبيعي في الوطن العربي، وأهمية مواصلة وتكثيف الجهود العربية الرامية إلى مساعدة سوريا على تجاوز أزمتها، اتساقًا مع المصلحة العربية المشتركة والعلاقات الأخوية التي تجمع الشعوب العربية كافة".

وقد اعتبرت وسائل الإعلام الغربية أن إعادة دمشق إلى الجامعة العربية التي أعلن عنها في 7 مايو الجاري، تكرس بشكل قاطع انتصار الثورات المضادة. ونوهت بأن الرئيس السوري كان “المستفيد الأكبر من التردد الغربي” الذي فتح الباب في عام 2013 للتدخلات الإيرانية والروسية، ما سبب في تغير الوضع أخيرًا.

وتأكيدًا على نهج “فك الارتباط” فيما يتعلق بالقضايا الخاصة بالمنطقة، جاءت مشاركة الأسد وقبلها الانفتاح العربي الدبلوماسي والسياسي على دمشق، برغم اعتراض واشنطن على أي خطوات نحو التطبيع مع الأسد، قائلة إنه يجب أولًا إحراز تقدُّم نحو حلٍّ سياسي للصراع.  فقد بدا واضحًا أن ثمة توترًا من جانب أوروبا وأمريكا جرّاء التقارب العربي مع النظام السوري، خصوصًا أنه يأتي مغايرًا للاستراتيجية الأمريكية التي تعتمد “النهج الصفري” في التعامل مع دمشق عبر أداة العقوبات تارة واستهداف أهداف عسكرية تارة أخرى.

ومن ناحية أخرى، لم تُغفل مصادر أمريكية انتقاد الجامعة العربية والقمة 32 تحديدًا، بسبب مشاركة الأسد، وقالت إن الأخير “لم يفعل شيئًا يستحق هذه الجائزة”. وشدّدت على أن الإدارة الأمريكية تعارض التطبيع مع الأسد “علانية”، واستندت إلى تصريحات مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف في وقت سابق، والتي قالت فيها إن الإدارة تشجع الدول العربية على “الحصول على شيء من أجل هذا الارتباط” مع الأسد.

ثالثًا: ملامح استراتيجية عربية للتعامل مع النظام الدولي:

رأت بعض وسائل الإعلام الدولية أن القضايا التي تناولها البيان الختامي للقمة، جاءت متسقة مع النهج العالمي الجديد للدول العربية عامة، والخليجية خاصة إذ حمل البيان بين طياته ملامح لاستراتيجية عربية جديدة في التعامل مع النظام الدولي وتحديدًا في جانبه الغربي، سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا، وهو ما يمكن توضحيه فيما يأتي:

1. استدعاء مبدأ عدم التدخل: فقد تناول البيان الختامي في أحد محاوره التأكيد على عدم التدخل في شؤون الآخرين، والذي يستند إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 36/ 103 والمؤرخ في 9 ديسمبر 1981. وبالنظر إلى ما تضمنه هذا المحور، فإنه يعد مدخلًا لبلورة موقف ودور عربي موحد في مواجهة التدخلات الأجنبية، وتحديدًا الغربية في الشؤون الداخلية للدول، عبر ذرائع مرتبطة بـ”حقوق الإنسان” وما تتضمنه من قضايا لا تتوافق مع القيم والثقافة العربية كـ”الجندرية” و”المثلية الجنسية” على سبيل المثال.

2. الحق العربي في التنمية المستدامة: يعتبر التأكيد على أن “التنمية المستدامة، والأمن، والاستقرار، والعيش بسلام، كحق أصيل للمواطن العربي”، تذكيرًا بأهمية دور الدول العربية في مساراتها. وهنا، يمكن القول إن البيان لفت إلى أن دول المنطقة لن تستمر في دور المستقبل أو المنفذ لما يتم وضعه من خطط للتنمية المستدامة من جانب النظام الدولي، بل إنها ستنتقل إلى مرحلة المشاركة ووضع أسس لهذه التنمية كعنصر فاعل، وذلك بما يتوافق مع أسس وأركان المجتمعات العربية اقتصاديًّا وثقافيًّا.

3. ترسيخ التضامن: يجسّد محور ترسيخ التضامن، وتفصيلاته التي وردت في البيان الختامي، استدلالًا على عزم الدول العربية على المشاركة بفاعلية في وضع خطط التنمية المستدامة الخاصة بها، دون النظر إلى تلك التي تُصاغ خارجيًّا. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن البيان استند أيضًا إلى ما أقرته الأمم المتحدة في هذا الشأن، ويتصل بأن “الحق في التنمية هو حق كل إنسان في المشاركة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وفي الإسهام فيها والاستفادة منها. والحق في التنمية هو حق يعزز قدرات الأفراد (حرية الإنجاز) ويكثّر خياراتهم”. وبالنظر إلى أهداف التنمية المستدامة الـ9، التي أقرتها المنظمة الأممية، يتضح أنها تتطلب خططًا يمكن تطبيقها تتوافق مع طبيعة الدول العربية. فعلى سبيل المثال، هناك مسألة "التشجيع على إقامة مجتمعات مسالمة لا يُهمش فيها أحد من أجل تحقيق التنمية المستدامة، وإتاحة إمكانية وصول الجميع إلى العدالة، وبناء مؤسسات فعالة وخاضعة للمساءلة وشاملة للجميع على جميع المستويات".

وبناء على ما سبق، جاءت المبادرات التي طرحتها القمة العربية، مع القضايا السابقة، على النحو الآتي:

أ- مبادرة استدامة السلاسل الغذائية: تعتمد مبادرة استدامة إمداد السلاسل والسلع الغذائية الأساسية للدول العربية، وفق البيان، والتي يبدو أنها تهدف إلى “التحوط” من تداعيات استمرار آلة الحرب الروسية الأوكرانية، التي كانت بجانب جائحة كوفيد-19، سببًا مباشرًا في تأثر إمداد السلاسل الغذائية حول العالم، وأضرّت بشكل مباشر بالدول العربية.

ب – مبادرة تحلية المياه: ركزت القمة العربية في جدة على قضية أزمة المياه وهي إحدى القضايا العالمية أيضًا، وتعاني منها بعض الدول مثل العراق، لذا تحاول المشاركة إقليميًّا وعالميًّا.

ج – مبادرة تعزيز البحث العلمي: نظرًا إلى مسألة تعزيز البحث العلمي في المجالات المختلفة، فإنها تعد خطوة للخروج من فلك وتبعية النماذج الخارجية والغربية تحديدًا في إيجاد حلول لمعوقات التنمية المستدامة، التي قد لا تتوافق مع طبيعة الدول العربية.

على ضوء العرض السابق، يمكن القول إن ثمة إدراكًا غربيًّا للتحولات التي ستشهدها المنطقة مستقبلًا، سواء في “تصفير أزماتها” بتحركات إقليمية، أو بلورة دور دولي جديد للمنطقة العربية. وقد بدا واضحًا أن القوى الدولية والغربية تحديدًا، تلمس تحولًا في دور دول الخليج العربي ودول المنطقة العربية عمومًا، في القضايا الدولية.

وختامًا، ترى العديد من القوى الغربية أن دول الخليج العربي يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في الوصول إلى تسويات وحلول للعديد من القضايا الدولية من خلال فك شفرات تلك القضايا، والوصول إلى حلول توافقية تراعي جميع مصالح الدول بلا استثناء.