أوقات عصيبة تمر بها الفلبين"، بهذه العبارة وصف الرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس الابن الوضع الذي تمر به بلاده على خلفية تكرر الحوادث البحرية بين سفن خفر السواحل الفلبينية والصينية في المناطق المتنازع عليها بين البلدين في بحر الصين الجنوبي، وذلك خلال لقائه نظيره الأمريكي جو بايدن في البيت الأبيض، مطلع مايو الجاري، في زيارة للولايات المتحدة هي الثانية له منذ تسلمه الرئاسة العام الماضي.
وسارعت واشنطن بتوظيف التوترات المتنامية بين البلدين في المنطقة الجيوسياسية المهمة، بتأكيد التزامها الصارم بالدفاع عن الفلبين، حيث نشرت وزارة الخارجية الأمريكية، تزامنًا مع زيارة الرئيس الفلبيني، وثيقة المبادئ التوجيهية الدفاعية الثنائية، التي تشير بعبارات واضحة إلى أن معاهدة الدفاع المشترك بين واشنطن ومانيلا ستُفعّل إذا تعرض أي من الجانبين للهجوم (بما في ذلك سفن خفر السواحل)؛ على وجه التحديد في بحر الصين الجنوبي، في إشارة واضحة لتحركات البحرية الصينية.
وفي ضوء هذا التقارب الأمريكي – الفلبيني المتسارع، تناقش هذه الورقة تحول السياسة الخارجية الفلبينية في عهد الرئيس ماركوس الابن؛ لتصبح أكثر حزمًا فيما يتعلق بمواجهة الصين حول المناطق المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، ومآلات دخولها دائرة التنافس الجيوسياسي بين واشنطن وبكين، من خلال تعزيز علاقاتها العسكرية مع واشنطن لمواجهة ما تعتبره انتهاكات بكين لحقوقها السيادية في المناطق المتنازع عليها ببحر الصين الجنوبي.
تحولات السياسة الخارجية الفلبينية في عهد الرئيس ماركوس الابن تجاه قضية الجزر:
مثّل فوز فرديناند ماركوس الابن بالانتخابات الرئاسية الفلبينية في يونيو 2022، منعطفًا حاسمًا في العلاقات الأمريكية – الفلبينية؛ إذ سمح لواشنطن بإعادة تفعيل تعاونها العسكري مع مانيلا بعد سنوات من تحجيمها في عهد الرئيس السابق رودريغو دوتيرتي، مقابل التعاون الاقتصادي مع بكين.
وتبنت الحكومة الجديدة موقفًا مغايرًا وأكثر حزمًا من سابقتها تجاه قضية المناطق البحرية المتنازع عليها مع الصين، فمنذ توليه السلطة يؤكد الرئيس ماركوس أن الفلبين لن تتنازل عن شبر واحد من أرضها، واصفًا تحركات البحرية الصينية بـالتوغلات والإكراهات، مؤكدًا أنها دفعت حكومته إلى إعادة تنشيط العلاقات الدفاعية والأمنية مع الولايات المتحدة والغرب وتعميقها.
جدير بالذكر بأن الإرادة السياسية لمانيلا بموازنة العلاقات الأمريكية – الصينية كانت حاضرة؛ ففي زيارة أجراها الرئيس الفلبيني ماركوس الابن إلى بكين في يناير مطلع العام الجاري أكد على الاستقلالية الاستراتيجية لبلاده وعدم تأثرها بالصراع أو المنافسة بين واشنطن وبكين، بالإضافة إلى تأكيده أهمية إدارة النزاعات البحرية بين الجانبين بصورة سلمية وودية. وانعكاسًا لتقدير البلدين للعلاقات الاقتصادية المتبادلة، وُقّعت خلال الزيارة 14 اتفاقية بين مانيلا وبكين في مختلف القطاعات، واتفق الجانبان على “عدم السماح للخلافات الحدودية بإعاقة الارتباطات المثمرة بين البلدين. إلا أن تمسك بكين بما تعتبره حقوقها السيادية على المناطق المتنازع عليها، سواءً مع الفلبين أو مع بقية الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي، وتكرار حوادث اعتراض البحرية الصينية لسفن خفر السواحل الفلبينية وسفن الصيد، واستمرارية لما اعتبرته الفلبين تجاهلًا للحكم الصادر في عام 2016 عن محكمة العدل الدولية في لاهاي لمصلحة مانيلا في نزاعها البحري مع الصين – كل ذلك دفع بتوجه الرئيس ماركوس الابن إلى الانحياز العسكري لواشنطن وحلفائها في المنطقة، لمواجهة الأطماع الصينية.
وفي حين تنأى واشنطن بنفسها تقليديًّا عن الدخول في النزاعات البحرية وتتبنى نهج عدم الانحياز في المسائل المماثلة، يدفع البعد الاستراتيجي للفلبين بموقف أمريكي مغاير؛ لذا كانت الإدارة السابقة برئاسة دونالد ترامب أول من أكد رفض مطالب الصين في بحر الصين الجنوبي، وأيدت الإدارة الحالية برئاسة جو بايدن في الذكرى السنوية لصدور حكم محكمة لاهاي رفضَ واشنطن لجميع المطالبات البحرية المهمة للصين في بحر الصين الجنوبي، وحذرت الصين من أن أي هجوم على الفلبين من شأنه أن يستدعي ردًّا أمريكيًّا بموجب معاهدة دفاع مشترك منذ 1951.
مؤشرات تعزيز العلاقات العسكرية الأمريكية – الفلبينية:
تواترت مؤشرات تعزيز العلاقات السياسية والعسكرية بين واشنطن ومانيلا في الفترة الأخيرة، وكان أبرزها في شهر أبريل ومايو ما يأتي:
- إعلان مواقع القواعد العسكرية الأربع التي يمكن للولايات المتحدة استخدامها في الفلبين، بالإضافة إلى القواعد الخمس السابقة بموجب اتفاق التعاون الدفاعي المعزز (EDCA) الموقّع عام 2014؛ ثلاث من تلك القواعد تقع في شمال لوزون (تبعد مئات الكيلومترات فقط عن تايوان)، وتُعد منطقة مهمة بحسب المسؤولين العسكريين الفلبينيين، وهي أساسية في حال قامت بكين بعملية عسكرية ضد تايوان وقامت الولايات المتحدة بدعم تايبيه.
- جدير بالذكر أن تلك القواعد لا تمكّن واشنطن من إقامة قواعد عسكرية دائمة؛ لكنها ستزيد من فاعلية القوات الأمريكية في الاستجابة السريعة والحصول على الدعم اللوجيستي من خلال سماحها بتخزين الأسلحة والمعدات وتحسين البنية التحتية العسكرية.
- إجراء أكبر مناورات عسكرية بين البلدين على الإطلاق خلال الفترة من 11 إلى 28 أبريل الماضي تحت اسم باليكتان، شارك فيها أكثر من 17 ألف جندي أمريكي وفلبيني، واستُخدمت فيها الذخيرة الحية لأول مرة في بحر الصين الجنوبي.
- اجتماع وزراء الخارجية والدفاع بين البلدين – الولايات المتحدة والفلبين – في البيت الأبيض 12 أبريل، وهو الأول من نوعه منذ 7 سنوات؛ لمناقشة استكمال خارطة الطريق- في الأشهر المقبلة- المتعلقة بالمساعدات الدفاعية الأمريكية للفلبين خلال السنوات الخمس إلى العشر القادمة. وستسهم تلك المساعدات الضخمة بتحديث الجيش الفلبيني؛ إذ تتضمن الحصول على "رادارات وأنظمة جوية من دون طيار وطائرات نقل عسكرية وأنظمة دفاع ساحلي وجوي".
- دفع تقارب واشنطن ومانيلا إلى زيارة وزير الخارجية الصيني تشين جانغ مانيلا في 21 أبريل الماضي بالتزامن مع انعقاد التدريبات الفلبينية – الأمريكية المشتركة، التقى فيها نظيره إنريكي مانلو، بهدف تعزيز الثقة المتبادلة والتعامل بصورة صحيحة مع الخلافات” بين البلدين.
- كما أجرت مانيلا مباحثات مع أستراليا واليابان (أهم الحلفاء العسكريين لواشنطن بالمنطقة لمواجهة الصين) حول تسيير دوريات مشتركة في بحر الصين الجنوبي، في حين زودت الحكومة الأسترالية مانيلا بطائرات استطلاع من دون طيار، وغيرها من المعدات العالية التقنية لتعزيز قدرات الدوريات البحرية الفلبينية ، وعبرت عن رغبتها في توسيع التدريبات العسكرية المشتركة.
وبينما يسعى الرئيس الفلبيني ماركوس لطمأنة بكين بتأكيده أن القواعد العسكرية التي توجد فيها القوات الأمريكية لن تُستخدم في عمل هجومي، مؤكدًا أن الاتفاق مع واشنطن يهدف إلى تعزيز دفاعات بلاده؛ ترى الصين في هذا التحالف استهدافًا لمصالحها الاستراتيجية في منطقة بحر الصين الجنوبي، سواءً على مستوى العلاقات الثنائية (الفلبين والولايات المتحدة) أو المستوى الإقليمي (التحالف الذي تقوده واشنطن في المنطقة لمواجهة بكين).
الفلبين جزء من استراتيجية الإندوباسيفيك لواشنطن:
- على خلفية التداعيات الجيوسياسية للأزمة الأوكرانية على الساحة الدولية، ازدادت المخاوف الغربية من تنفيذ بكين سيناريو مماثل في تايوان – التي تعدّها بكين جزءًا من أراضيها – وكثفت واشنطن مساعيها منذ بداية الأزمة للتصدي للانتشار العسكري الواسع للصين في بحر الصين الجنوبي، ومنطقة الإندوباسيفيك، من خلال تعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية مع دول المنطقة في إطار “استراتيجية الولايات المتحدة لمنطقة المحيط الهندي والهادي” التي أعلنتها وزارة الخارجية الأمريكية في فبراير 2022 .
- ولمحاصرة الأسطول البحري الصيني الذي يُعدّ الأكبر عالميًّا تسعى واشنطن لتوسيع انتشارها العسكري بالمنطقة من خلال قواعدها العسكرية الممتدة من أستراليا وجزر المحيط الهادي، وصولًا إلى اليابان وكوريا الجنوبية وبحر الصين الجنوبي بالقرب من تايوان؛ من خلال تفعيل تحالفها العسكري مع الفلبين وتوسيعه.
- على الرغم من تحالفات واشنطن بالمنطقة؛ سواءً التحالفات العسكرية الضيقة النطاق مثل تحالف أوكوس (Aukus) الثلاثي مع بريطانيا وأستراليا، أو تجمُّع كواد (Quad) الرباعي الأمني مع اليابان والهند وأستراليا، بالإضافة إلى تحالفاتها الدفاعية مع اليابان وكوريا الجنوبية، فإن الموقع الجغرافي للفلبين في البحار القريبة من تايوان يجعل لمانيلا أهمية استراتيجية في حال نشوب صراع عسكري أمريكي – صيني حول تايوان.
- وبالنسبة للبعد الاقتصادي، تستهدف واشنطن إعاقة الصين عن أن تصبح القوة المهيمنة في بحر الصين الجنوبي الذي يتحكم بأحد أهم الممرات المائية في العالم – مضيق تايوان، الذي تمر من خلاله أكثر من 90% من التجارة الصينية والكورية واليابانية نحو آسيا والشرق الأوسط والهند، وتُقدر بمليارات الدولارات سنويًّا. بالإضافة إلى تمتعه بالنفط والغاز والموارد الطبيعية.
التصور المستقبلي:
- يُرجَّح أن الرئيس ماركوس الابن يسعى لتعزيز نفوذ بلاده لإدارة خلافاته الحدودية مع الصين من خلال تعزيز قدرات مانيلا الدفاعية ورفع مستوى العلاقات العسكرية مع واشنطن؛ ولكن لا يُتوقع أن تسعى مانيلا لتصعيد التوترات مع بكين أو أن تنخرط في أي مواجهة قد تقودها واشنطن في بحر الصين الجنوبي تستهدف بكين بشكل مباشر.
- يتوقع أن تتوجه بكين إلى تفعيل مبادرة خط الاتصال المباشر الذي اقترحها الرئيس ماركوس الابن، خلال لقائه الرئيس الصيني في مطلع العام الجاري، لقطع الطريق على دخول واشنطن أو الأطراف الخارجية على خط التوترات بين البلدين وتأجيجها بهدف تحقيق مصالحها الاستراتيجية التي تُعطل مصالح بكين في المنطقة.