تدور في الساحة الفلسطينية والدوائر المهتمة بما يجري في فلسطين حوارات تستهدف مصير السلطة ومستقبلها، في ظل فشل برنامجها السياسي، والصراع الدائر على الخليفة والخلفاء، وبعد تبوء الحكومة الكهانية سدة الحكم في إسرائيل، خصوصًا بعد طرح عدد من وزرائها عدم صحة استمرار السلطة، حتى لو كانت تمثل سلطة حكم ذاتي محدود تحت السيادة الإسرائيلية؛ لأن وجود سلطة واحدة تمثل الهوية الوطنية الفلسطينية الواحدة مرفوض من قبلهم، ويطرحون ضرورة تفكيك السلطة إلى إدارات محلية، واحدة في الخليل، وثانية في نابلس، وثالثة في رام الله ... وهكذا؛ حيث تتنافس مع بعضها، وتكون كلها مرتهنة للاحتلال.
في المقابل، ترى أغلبية فلسطينية (63%)، وفق الاستطلاع الأخير للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، الذي صدر في آذار 2023، أن السلطة الفلسطينية أصبحت عبئًا على الشعب الفلسطيني، بينما قالت نسبة 57% أن بقاء السلطة مصلحة إسرائيلية، فيما يعتقد ما نسبته 52% أن مصلحة الشعب حل السلطة أو انهيارها.
في هذا المقال، نحاول أن ندرس هذا الموضوع من جوانب عدة، مركزين على مستقبل السلطة، وهل ستنهار، أم تُحل، أم تتحول إلى دولة، أم يتم تغيير وظائفها لتستجيب للمصلحة الوطنية الفلسطينية؟
برنامج النقاط العشر وفكرة السلطة
بدأت فكرة السلطة في برنامج النقاط العشر، الذي أقره المجلس الوطني في العام 1974؛ إذ جاء في النقطة الثانية منها "تناضل منظمة التحرير بكافة الوسائل، وعلى رأسها الكفاح المسلح، لتحرير الأرض الفلسطينية، وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها"، وهي أخذت شكل سلطة حكم ذاتي كما جاء في معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في العام 1979، بعد مسيرة بدأت بزيارة أنور السادات إلى القدس وإلقائه خطابًا أمام الكنيست الإسرائيلي.
وتطورت فكرة السلطة الوطنية المقاتلة على كل شبر يتم تحريره إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، على أساس إنهاء الاحتلال بانسحاب القوات الإسرائيلية، بوصف الدولة شكلًا من أشكال تجسيد حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ووصلت الفكرة إلى إقرار وثيقة الاستقلال لدولة فلسطين في العام 1988.
ساعد بقوة على ميلاد فكرة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة، بدء مسيرة سياسية بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وتصور إمكانية أن تقود إلى معاهدات سلام عربية مع إسرائيل تشمل انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة العام 1967.
استندت فكرة الدولة الفلسطينية إلى قرار التقسيم 181 الصادر عن الأمم المتحدة في العام 1947، وينص على قيام دولة عربية على نحو 44% من أرض فلسطين، ودولة يهودية على نحو 55%، على أن تبقى القدس تحت حكم دولي خاص على 1% من أرض فلسطين.
حكومات إسرائيل لم توافق أبدًا على قيام دولة فلسطينية
لا بد من التأكيد بشكل قاطع أن الحكومات الإسرائيلية لم توافق حتى في العصر الذهبي لعملية السلام على هدف إقامة دولة فلسطينية، وهذا يفسر لماذا لم يتضمن اتفاق أوسلو حتى ولو مجرد إشارة أو تلميح إلى الدولة الفلسطينية، بل كان هناك تقدير فلسطيني عربي ومن بعض الأوساط الدولية (تبين بعد النتائج الحاصلة أنه مجرد وهم) بأن مفاوضات الوضع النهائي المنصوص عليها في الاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية التي كان من المفترض أن تنتهي بعد خمس سنوات من المرحلة الانتقالية، وتحديدًا في أيار 1999، ستتوصل إلى اتفاق نهائي يشمل القضايا الأساسية: القدس، والحدود، والأمن، والمستوطنات، واللاجئين، ولم تشمل إقامة دولة فلسطينية، وكان من المتوقع والطبيعي أن يؤدي انتهاء الفترة الانتقالية إلى وقف هذا المسار وبناء مسار جديد.
بل إن إسحاق رابين الذي كان رئيسًا للحكومة الإسرائيلية، والحاصل على جائزة نوبل للسلام، قال في آخر خطاب ألقاه في الكنيست قبل اغتياله، إن اتفاق الوضع النهائي سيتضمن كما يرى صيغة أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة، وكان قد أوضح أن الكيان الفلسطيني الذي سيقام بعد الاتفاق النهائي سيكون على 50% من مساحة الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، وعندما قيل له إن هذا لن يوافق عليه الفلسطينيون، قال: "حينها فليحتفظ كل طرف بما لديه".
وافقت القيادة الفلسطينية على إقامة السلطة الفلسطينية ضمن صيغة الحكم الذاتي على أمل بأنها ستتحول إلى دولة بعد مضي الفترة الانتقالية، والتوقيع على الاتفاق النهائي؛ لأن في هذا وفق تقديرها يحقق مصلحة إسرائيلية كون إقامة الدولة الفلسطينية ستكون الجسر الذي ستعبر عليه إسرائيل لتطبيع علاقاتها بالدول العربية، وما حصل أن الدولة الفلسطينية لم تقم فعليًا على الأرض، بل هي حق طبيعي للفلسطينيين، واعترفت الأمم المتحدة بها بوصفها عضوًا مراقبا، بينما استغلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة المفاوضات ومسيرة السلام، ليس من أجل صنع السلام وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، وإنما من أجل مواصلة خلق الحقائق الاحتلالية والاستيطانية والعنصرية التي تقضي على إمكانية قيام دولة فلسطينية، وتجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًا، وأنجزت التطبيع مع عدد لا بأس به من الدول العربية من دون انسحاب إسرائيلي من الأراضي الفلسطينية والسورية المحتلة.
حل الدولتين ولد ميتًا
الاستنتاج الرئيسي مما حصل أن إقامة الدولة الفلسطينية وما اصطلح خطأ على تسميته "حل الدولتين" لم يكن مطروحًا على طاولة الحكومات الإسرائيلية والإدارات الأميركية، بل ولد مثل هذا الحل ميتًا، ولم يمت بعد فشل عملية السلام كما يقال.
حتى إدارة الرئيس بيل كلينتون لم توافق على إقامة دولة فلسطينية، في حين جاءت موافقة الرئيس جورج بوش الابن على مبدأ الدولة الفلسطينية، كما جاء في خارطة الطريق الدولية العام 2003، التي نصت على إقامة دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة وانتقالية، وعندما اعترفت الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية لم تعترف الإدارة الأميركية في عهد باراك أوباما ومعظم الدول الأوروبية بها، ولا في عهد دونالد ترامب الذي وافق على دولة فلسطينية في صفقة العصر، التي طرحها ضمن صيغة تؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها، مع تسمية الحكم الذاتي الواقع تحت الاحتلال دولة فلسطينية، وهي لا تملك من مقومات الدول سوى الاسم.
لقد استغلت عملية السلام والحديث عن حل الدولتين لقتل أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية، لدرجة وصلنا إلى وضع ترفض فيه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، خصوصًا التي رأسها بنيامين نتنياهو، وهي استغرقت معظم العقدين الماضيين، مجرد عقد مفاوضات؛ لأنها تعتقد بعدم وجود شريك فلسطيني، وأنها باتت في وضع قادرة فيه على فرض السيادة الإسرائيلية على كامل الأرض الفلسطينية التي هي حق حصري لليهود، وعندما كان مسؤول إسرائيلي يتحدث عن حل الدولتين كان يفعل ذلك من قبيل الخداع وبما هو نوع من المناورة، أو يعد بشي لا ينوي أو لا يقدر على تحقيقه.
مصادر شرعية السلطة
إذا انتقلنا مرة أخرى إلى السلطة الفلسطينية، نرى أنها استمدت مصادر شرعيتها عند قيامها مما يأتي:
أولًا: من اتفاق أوسلو وعملية السلام الذي بات اتفاقًا دوليًا مقرًا في الأمم المتحدة، مع أنه ينتهك المبادئ الحاكمة في القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
ثانيًا: من مصادقة المجلس المركزي الفلسطيني على اتفاق أوسلو، مع ملاحظة أن إقرار مثل هذه الاتفاقيات مفترض أن يكون من المجلس الوطني، المرجعية العليا الفلسطينية لمنظمة التحرير، ولكن الاستعجال من جهة والخشية من وجود معارضة قوية في المجلس الوطني من جهة أخرى، لم تجعل المجلس الوطني يعقد ليقر أو يرفض الاتفاق، ليصار إلى عقده بعد ذلك لإقرار تعديلات أساسية مع الميثاق الوطني تنسفه نسفًا لكي ينسجم مع اتفاق أوسلو، مع أن هذه التعديلات لم تستكمل إجراءاتها القانونية.
ثالثًا: حصل اتفاق أوسلو والسلطة الفلسطينية المنبثقة منه على شرعية شعبية، من خلال إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في العام 1996، وتجديد هذه الشرعية بإجراء الانتخابات الرئاسية في العام 2005، والتشريعية في العام 2006، وخالفت نتائجها التوقعات؛ مم أدى إلى الانقلاب عليها، من خلال اعتقال عشرات النواب وبعض الوزراء، ومقاطعة حكومة "حماس" التي رأسها إسماعيل هنية، وحكومة الوحدة الوطنية التي شكلها أيضًا هنية، وصولًا إلى الانقسام الفلسطيني الذي وقع في حزيران 2007، وما زال يتعمق باستمرار، وأدى إلى قيام سلطتين متنازعتين تحت الاحتلال المباشر وغير المباشر، وأولوية القائمين عليهما مصالح السلطتين التي تطغى على أي شيء آخر، ترتبط إحداهما بالتزامات محددة وتلتزم الأخرى بتفاهمات، ولكن الصيغة الحاكمة لعلاقة كل منهما بالاحتلال هدوء مقابل أمن وتسهيلات، وكل خروج عن هذه الصيغة يعرض صاحبه للعدوان والعقاب.
وإذا نظرنا إلى مصادر الشرعية للسلطة، نجد أنها تبخرت في معظمها؛ حيث إن خيار المفاوضات واتفاق أوسلو وعملية السلام وصل إلى طريق مسدود. أما خيار المقاومة فمعطل بالتهدئة التي تتعارض مع المقاومة المفتوحة، ويظهر ذلك في الكارثة التي نعيشها منذ سنوات من دون رؤية وإستراتيجيات فاعلة ومستمرة، وبلا عملية سلام، مع ترديد المقولة البائسة عن التمسك بحل الدولتين التي لا تعني شيئًا سوى التغطية على ما تقوم به إسرائيل من فرض للحل الإسرائيلي من دون مفاوضات، وتكرار أن المقاومة هي الخيار، وهي مجرد وسيلة وليست هدفًا.
إسرائيل قتلت اتفاق أوسلو و"حل الدولتين"
قتلت إسرائيل اتفاق أوسلو كما قتلت ما يسمى "حل الدولتين"، وتريد تعميم الانقسام وتعميقه وإضعاف السلطتين لإخضاعهما للشروط والإملاءات الإسرائيلية، وبدلًا من أن يؤدي كل ذلك إلى تحميل إسرائيل المسؤولية عن هذه الجرائم، وإلى تخلٍ فلسطيني مماثل عن هذا الاتفاق والتزاماته، وتبني خيار أو برنامج جديد التزامًا بقرارات الإجماع الوطني والمجلسين المركزي والوطني المقرة منذ آذار 2015، جرى استمرار التمسك باتفاق أوسلو والتزاماته السياسية والاقتصادية والأمنية من جانب واحد؛ الأمر الذي أدخل السلطة في مرحلة أكثر خطورة من المرحلة السابقة.
كما أدى إلى الانقسام، وقيام سلطة في القطاع تخوض جولة مواجهة ثم تهدئة، وهكذا دواليك، من دون القدرة على كسر الدوامة الجهنمية التي تعيش فيها المقاومة، فالانقسام ليس مجرد كلمة تقال، بل خنجر في ظهر القضية الفلسطينية.
على الرغم من كل ما كان على اتفاق أوسلو من ملاحظات جوهرية تجعل توقيعه خطوة خاطئة وخطيرة منذ البداية، فإنه أنتج عملية سياسية فيها التزامات متبادلة، قامت الحكومات الإسرائيلية باختراقها، ولكنها وافقت على عودة قيادات وكوادر وأفراد وعائلات أعضاء منظمة التحرير والفصائل المنتمية إليها، وأعادت انتشار قواتها من مناطق (أ) و(ب)، ونقلت صلاحيات الإدارة المدنية (العسكرية) إلى السلطة، وكان من المفترض تطبيق النبضة الثالثة التي تشمل إعادة انتشار القوات المحتلة من معظم المناطق المصنفة (ج)، ولكن هذا لم يحدث، وبدلًا من المراجعة الفلسطينية للمسار بشكل جدي وبناء وحدة على أسس صلبة وتعددية وشراكة حقيقية، تم الاستمرار في تطبيق الالتزامات الفلسطينية من جانب واحد، وهذا أوصل السلطة في رام الله إلى التكيّف مع الواقع الجديد بدلًا من رفضه؛ ما جعلها تصبح أكثر وأكثر جزءًا من المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وهذا يفقدها ما تبقى لها من شرعية. كما أوصل السلطة في غزة إلى الارتهان إلى الأموال القطرية التي تمر بموافقة إسرائيلية، وتخفيف الحصار عن قطاع غزة حينًا وتشديده حينًا آخر وفق رغبات ومصالح حكام تل أبيب.
شرعية مؤسسات المنظمة المجوفة وهمية
هنا، لا ينفع التغطي بالشرعية التي تمنحها مؤسسات منظمة التحرير للسلطة أو لعملية الانتقال القادمة لا محالة عاجلًا أم آجلًا؛ لأن عملية تجويف هذه المؤسسات وتقزيمها وإعادة هندستها جرت على قدم وساق، من خلال انتهاكات لا حدود لها للنظام الأساسي للمنظمة، الذي ينص على أنها تمثل الشعب الفلسطيني كله، وعلى ضرورة تشكيل مجلس وطني جديد؛ لأن مدة المجلس القديم انتهت، إضافة إلى تفويض المجلس الوطني لصلاحياته للمجلس المركزي بصورة مطلقة وغير محددة بمواضيع أو بوقت، وحل المجلس التشريعي بشكل غير قانوني وتفويض صلاحياته للمجلس المركزي، وعقد جلسة غير قانونية للمجلس المركزي لتمرير تعيينات غير قانونية، وفي ظل عدم دعوة قوى أساسية، ومقاطعة قوى مؤسسة للمنظمة، والمضي في هذا الطريق من دون إجماع أو توافق وطني.
الشرعية الشعبية مفقودة
أما الشرعية الشعبية، فهي لم تعد موجودة، بدليل عدم عقد الانتخابات الرئاسية منذ العام 2005، والانتخابات التشريعية منذ العام 2006، والأهم أن ما نسبته 77% من الشعب تريد من الرئيس الاستقالة، وفق الاستطلاع المذكور، كما أن نسبة 68% من المستطلعين يؤيدون تشكيل مجموعات مسلحة، و68% مع إجراء انتخابات عامة. إضافة إلى ذلك، هناك الانقسام البغيض الذي يسحب الشرعية من كل من ساهم فيه ويقاوم إنهاءه واستعادة الوحدة الوطنية، ولا يوجد توافق وطني للحصول على شرعية وطنية توافقية، فالانقسام يتعمق ويسير نحو الانفصال؛ إذ بين الاستطلاع أن 75% غير متفائلين بإنجاح المصالحة.
مستقبل السلطة بين الانهيار والحل وقيام سلطات متعددة وتغيير وظائفها
تأسيسًا على ما سبق، نستطيع أن نفهم ونفسر حالة الضعف المتزايد الذي تمر بها السلطة، وتزايد احتمال حلها أو انهيارها في ظل أن إسرائيل تقوم بكل ما من شأنه إضعاف السلطة، من خلال الاقتحامات اليومية للمدن الفلسطينية، واغتيال واعتقال من تريد، وإضعاف صلاحيات السلطة، وخصم الأموال الفلسطينية تحت ذرائع مختلفة، فهي لم تعد حريصة على استمرار السلطة كما كانت من قبل، فإسرائيل كانت ولا تزال بحاجة إلى السلطة أولًا وأساسًا؛ لأنها تجسد جسمًا سياسيًا قانونيًا يعفي الاحتلال من مسؤولياته عن الاحتلال وعن التوصل إلى حل، وثانيًا بسبب الالتزامات التي تقوم بها السلطة، لا سيما الالتزامات الأمنية، ومن دون أن تكون شريكًا ولا مرحلة على طريق قيام دولة فلسطينية.
آراء إسرائيلية عدة حول مصير السلطة
هناك في إسرائيل آراء عدة حول مستقبل السلطة، مثل الرأي الذي عبر عنه رئيس أركان جيش الاحتلال أخيرًا، وهو يمثل الجيش والدولة العميقة؛ إذ قال إن قيام السلطة بإدارة شؤون السكان أفضل من الفوضى أو من سيطرة "حماس"، وهذا يعني أن صاحب القرار حتى الآن يريد بقاء السلطة، ولكن ضعيفة وتحت إمرته.
وهناك رأي آخر عبر عنه كل من الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، الذي لا يرى ضرورة لاستمرار السلطة؛ لأن استمرارها بوصفها سلطة واحدة يعطي أملًا للفلسطينيين بإقامة دولة فلسطينية، ويعرض إسرائيل لمطالبات وضغوط دولية لتحقيق حل الدولتين، وهذا مرفوض منهما ومن قطاع يتزايد من المسؤولين من الجناحين القومي المتطرف والديني المتطرف الحاكمين حاليًا، حتى لو قامت الدولة الفلسطينية على جزء من الأرض المحتلة بلا سيادة، ومن دون القدس وعلى حساب قضية اللاجئين.
الصراع على الخلافة
أما العامل الآخر الذي يمكن أن يقوض السلطة، ويساهم في انهيارها، إذا لم يجد حلًا، وهو عدم حل مسألة الخلافة والخلفاء، والصراع الدائر حولها الذي قد يصل إلى تحقق سيناريو الفوضى والاقتتال؛ إذ لا توجد آلية قانونية معترف بها ومتوافق عليها وطنيًا لنقل السلطة في حال حدوث شغور في منصب الرئيس، وهناك رفض من المجموعة الحاكمة لإجراء انتخابات مدعوم من الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية وأطراف عربية، وهناك مرشحون عدة لا يملك أحدهم قوة كافية تجعل القبول به من المؤسسة، والأهم من الشعب وقواه ونخبه سهلًا أو ممكنًا.
أما سيناريو توزيع وظائف الرئيس على أشخاص عدة، كما يدور في الكواليس، وليس على شخص واحد، سيكون وصفة للفوضى؛ لعدم وجود برنامج وطني، ولا توافق وطني، ولا مؤسسات قوية، فمؤسسات المنظمة معتلة ومهمشة وغير معترف بها من أوساط وطنية واسعة، ولا يوجد مجلس تشريعي حتى يحل رئيسه محل الرئيس في حال شغور المنصب لمدة ستين يومًا تجرى فيها انتخابات رئاسية.
كما لا توجد نية لإجراء الانتخابات؛ ما يعني أن احتمال تنصيب رئيس من الخارج بالاتفاق مع بعض الأشخاص ومراكز القوى سيناريو مطروح، ولكنه لن يقبل به الشعب، وحتى العديد من القوى ستعارضه؛ ما يفتح بوابة جهنم للصراع الداخلي، وهذا يمكن أن يحقق سيناريو الفوضى والاقتتال، وسيناريو تحول السلطة بالكامل إلى وكيل أمني للاحتلال.
تجدر الإشارة إلى أن السلطة في عهد الرئيس محمود عباس تحولت عمليًا مرة أخرى إلى النظام الرئاسي؛ إذ يمسك الرئيس بكل السلطات والصلاحيات، وجعل الحكومة في الكثير من القضايا والأحيان آخر من يعلم.
هناك سيناريوهات عدة، أضعفها سيناريو استمرار السلطة، كما هي الآن، بل مُطَالَبة حتى تدعمها حكومة الاحتلال أن تكون "سلطة لحد"، من دون زيادة ولا نقصان، بل إن سيناريو الفوضى وانهيار السلطة وتفككها إلى سلطات عدة ومراكز قوى تتصارع سيناريو لا يمكن تجاهله.
الخيار الوطني (تغيير وظائف السلطة وإعادة بناء مؤسسات المنظمة) مستبعد
طبعًا، هناك خيار آخر إذا أوقفت السلطة المسار البائس الذي تسير فيه (هذا مستبعد بحكم الوقائع والمصالح)، وقامت بتغيير وظائفها لتكون سلطة خدمية إدارية، وأداة لخدمة البرنامج الوطني وتعزيز مقومات الصمود والبقاء، ونقل مهماتها السياسية إلى المنظمة، التي تحتاج إلى إعادة بناء مؤسساتها لتضم مختلف الألوان السياسية والاجتماعية، ومن ثم التوجه إلى الانتخابات على مختلف المجالات والقطاعات، خصوصًا الانتخابات السياسية الوطنية، وهذا الخيار سيؤدي إلى تصعيد المواجهة مع الاحتلال الذي قد يعمل في هذه الحالة على حل السلطة، ولكن سيبنى في سياق المواجهة الوطنية بديل منها متمثل في منظمة التحرير الموحدة، وبناء أشكال ومستويات من السلطة من أسفل إلى أعلى، ومنن أعلى إلى أسفل؛ حيث تفرض على الاحتلال فرضًا واقعًا تولد فيه سلطة جديدة تكون هذه المرة جنين الدولة الفلسطينية العتيدة، أو مرحلة على طريق فرض شكل من الحل الذي ينسجم مضمونه مع شكله.
القيادة رهينة سياسة البقاء والانتظار
بدلًا من تغيير المسار، تستمر القيادة الرسمية بالتمسك بسياسة البقاء والانتظار من دون أمل كبير ولا طموح حتى باستئناف المفاوضات وعملية السلام؛ ما يجعل مسار التغيير مستبعد مع أنه يفتح طريق الإنقاذ الوطني، وهذا يقود إلى مزيد من التدهور باستمرار، وإلى صعوبة انطلاق عملية سياسية جادة الآن، وهذا ما يدركه الجميع، فمن دون نضال متعدد الأشكال بما في ذلك الكفاح من أجل الحقوق، وإدراك أن المرحلة ليست مرحلة حلول، بل صراع يهدف إلى خلق حقائق جديدة على الأرض وتغيير موازين القوى؛ لا يمكن إطلاق عملية سياسية جادة، وإذا جرت مفاوضات سيكون هدفها تكريس الحل الإسرائيلي وشرعنته، الجاري فرضه منذ عقود، ويتسارع فرضه في ظل تبوء حكومة في إسرائيل تظن أنها قادرة على حسم الصراع بسرعة، عبر الضم والتهويد والتهجير والعدوان بكل أشكاله.