• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
قراءات

الأقمار الصناعية في سماء شبه الجزيرة الكورية.. دلالات واستنتاجات


في الحادي والثلاثين من شهر مايو الفائت (2023) فشلت عملية إطلاق قمر صناعي للاستطلاع العسكري من قبل كوريا الشمالية، وقبل ذلك بستة أيام كانت كوريا الجنوبية قد نجحت في وضع ثمانية أقمار صناعية في المدار بعد عملية إطلاق ناجحة. ورغم أن عملية الإطلاق الكورية الشمالية قد فشلت، إلا أنها قد حازت الاهتمام الأكبر. فالخطة الكورية الشمالية قوبلت بالرفض القاطع ابتداء من قوى دولية على رأسها كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة. ومن ثم فإنه على الرغم من الفشل، فإن هذه الدول قد أدانتها بشدة. وفي الوقت ذاته، أظهرت كوريا الشمالية عزماً على الاستمرار في هذا البرنامج، ووضع القمر في مداره في أسرع وقت ممكن. فما الذي يمكن فهمه من خلال هذه التفاعلات؟، وإلى أين يمكن أن تسير الأمور في شبه الجزيرة الكورية في المستقبل؟

نجاح وفشل

النجاج الكوري الجنوبي كان عظيماً كما وصفه كبار قادتها، حيث أنه قد رسخ مكانتها ضمن القوى الفضائية المتميزة. إذ انضمت إلى كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين واليابان والهند وفرنسا، بحيث باتت ضمن مجموعة السبع الفضائية على حد وصف الرئيس يون سيوك ـ يول. وتلك هي القوى التي بإمكانها إطلاق صاروخ يحمل أكثر من طن من الأقمار الصناعية. وعملية الإطلاق الكورية الجنوبية كانت بصاروخ كوري مصنع في الداخل بالكامل. وهذه هي العملية الثالثة للصاروخ، حيث فشل في المرة الأولى في عام 2020 في وضع القمر الصناعي في مداره، على الرغم من أنه طار إلى ارتفاع سبعمائة كيلومتر. وعندما حدث خلل في المرحلة الثالثة بسبب احتراق المحرك قبل الموعد المحدد. ومن ثم جاءت التجربة الثانية في العام الماضي (2022) وفيها نجح الصاروخ الكوري الجنوبي في وضع القمر الصناعي في مداره. وفي التجربة الثالثة تلك تم وضع ثمانية أقمار صناعية كاملة في المدار.

ومن المقرر أن تقوم كوريا الجنوبية بثلاث عمليات إطلاق أخرى بالصاروخ ذاته حتى عام 2027. وهناك دراسات تتم من أجل الوصول إلى تصنيع صاروخ أحدث يمكنه أن يحمل وحدة تهبط على سطح القمر في العام 2031.

في مقابل هذا النجاج الكوري الجنوبي، جاء الفشل الكوري الشمالي الذي أرجع إلى خلل في محرك المرحلة الثانية للصاروخ. وكانت كوريا الشمالية قد أخبرت المنظمات الدولية المعنية وبعض الدول بأن موعد عملية الإطلاق يبدأ من الحادي والثلاثين من شهر مايو إلى الحادي عشر من شهر يونيو 2023. وكان الزعيم كيم جونج أون قد زار وكالة الفضاء أكثر من مرة. وقد تم التأكيد على سير ترتيبات الإطلاق بشكل سلس، معتبرة أن هذه العملية ضرورية من أجل الدفاع عن النفس في ظل كثافة التدريبات العسكرية الأمريكية في المنطقة، حيث كان من المفترض أن يكون رصد هذه التدريبات من مهام القمر الصناعي.

لم تنصع كوريا الشمالية لكل التحذيرات بخصوص ما تنوي القيام به، حيث أنها ترفضها جملة وتفصيلاً، وتذهب إلى أن ذلك حق من حقوقها المشروعة. كما أنها تؤكد دائماً على عدم الاعتراف بقرارات مجلس الأمن التي تحظر عليها القيام بعمليات إطلاق تستخدم تقنيات الصواريخ الباليستية. كما أنها ترى في المواقف الرافضة لما تقوم به ازدواجية في المعايير، سواء من حيث غض الطرف عما تقوم به دول أخرى في مجال الفضاء، أو من حيث وجود العديد من أقمار التجسس الأمريكية في سماء شبه الجزيرة الكورية. ناهيك عن جلب الولايات المتحدة لكل أنواع الأسلحة بما فيها غير التقليدية إلى المنطقة، وتكثيف المناورات التي ترى أنها المستهدف الأول منها.

أجواء مغايرة

ليست هذه المرة الأولى التي تقدم فيها كل من الكوريتين على القيام بإطلاق صواريخ فضائية، وليست هي المرة الأولى التي تختلف فيها ردود الفعل عليها. وليست المرة الأولى التي تفشل فيها عملية إطلاق. فكما فشلت العملية الكورية الشمالية الأخيرة فقد كانت هناك عمليات كورية جنوبية فاشلة أيضاً. ويعد هذا أمراً طبيعياً في أي برنامج فضاء. وعلى الأغلب يتم الاستفادة من دروس الفشل، حيث يتم العمل على تلافي الأخطاء سعياً لتحقيق النجاح. وطالما توفرت الإرادة السياسية، والموارد المالية، وقبلها القدرات العلمية والتكنولوجية بما فيها الباحثين والفنيين الذين تقع على عاتقهم تلك المهام تحدث اختراقات. وهذا ما هو واضح في حالة الكوريتين على أكثر من صعيد.

وإذا كانت كوريا الشمالية قد أعلنت من قبل عن نجاح تجاربها في إطلاق أقمار صناعية خاصة في العامين 2012 و2016، إلا أنه قد تم التشكيك في هذا الأمر على أكثر من مستوى من قبل القوى المعارضة لذلك. والمستوى الأول من التشكيك يتعلق بأن عملية الإطلاق هي لصاروخ باليستي، وأنه لا وجود لأقمار صناعية يراد وضعها في المدار. والمستوى الثاني من التشكيك يتعلق بقدرات بيونج يانج على صعيد تصنيع الأقمار الصناعية. أما المستوى الثالث من التشكيك فيتعلق بمدى صلاحية تلك الأقمار الصناعية الكورية الشمالية في حال كان الزعم الكوري الشمالي صحيحاً، حيث يقال إنه لم ترصد أي إشارات على أن تلك الأقمار التي أعلنت كوريا الشمالية عن إطلاقها تعمل.

هذه المرة الظروف مختلفة على أكثر من صعيد. فكوريا الشمالية قد قطعت أشواطاً كبيرة في تطوير قدراتها التقنية التي تخدم الأهداف العسكرية، بما في ذلك كمية ونوعية عمليات إطلاق الصواريخ بجميع المديات والتي بلغت مستوى غير مسبوق في العام الماضي. كما أنه بات بإمكانها إطلاق صواريخ باليستية من غواصة وتلك مسألة لا تتوفر إلا لعدد قليل من الدول. ولا يقتصر الأمر على ذلك بل إن كوريا الشمالية قد تخلت تماماً عن خيار التخلي عن سلاحها النووي، وبات لديها عقيدة نووية، تتضمن الاستخدام الفعلي لهذا السلاح في حالات محددة.

على صعيد عملية الحوار بين كوريا الشمالية من ناحية وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة من ناحية أخرى، فإن الحوار متوقف تماماً، وبيونج يانج تعلنها صريحة بأنها غير معنية بدعوات الحوار التي تظهر من آن إلى آخر من قبل مسئولي الدولتين طالما استمرا على عدائهما لها.

يتوافق مع عملية توقف الحوار شلل في مجلس الأمن فيما يتعلق بكوريا الشمالية، خاصة في ظل تباعد الموقفين الصيني والروسي عن باقي مواقف الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، حيث باتت الدولتان تستخدمان حق النقض ضد القرارات التي تتضمن إدانة لكوريا الشمالية. والمبرر الذي تطرحه الدولتان أنه لا يمكن تحميل الطرف الكوري الشمالي كامل المسئولية عما آلت إليه الأمور في شبه الجزيرة الكورية، وباتت الدولتان تلقي بالتبعة صراحة على التصرفات الأمريكية التي تسهم في رفع وتيرة التوتر، مع الإصرار على عدم تقديم أي مؤشرات إيجابية لكوريا الشمالية من قبيل تخفيف العقوبات الدولية، ناهيك بطبيعة الحال لرفضهما المبدئي لفرض العقوبات بصورة أحادية.

ولا يمكن فصل هذه المواقف عن مجمل ما يدور من تفاعلات بين واشنطن وكل من موسكو وبكين وموقف كوريا الشمالية من تلك التفاعلات، حيث أنها دائماً في صف موسكو وبكين. فكوريا الشمالية ضد السعي الأمريكي لفرض الهيمنة، والتصرف بعقلية الحرب الباردة، والسعي لتوسيع الناتو وإقامة تحالفات أمنية دون مراعاة المصالح الأمنية للدول الأخرى. وهي من الدول القلائل التي أيدت روسيا في كل ما تقوم به في أوكرانيا، بما في ذلك عملية ضم الأراضي الأوكرانية. بل إنها مثلها مثل الصين متهمة أمريكياً بتوجيه السلاح لروسيا وهي مع ما تنادي به كل من الصين وروسيا من تشكيل نظام دولي جديد.

ماذا بعد؟

يضاف إلى كل ما سبق العناد الكوري الشمالي والإصرار على تحقيق الأهداف رغم الصعوبة البالغة. ومن ثم فكان من الطبيعي أن يتضمن الإعلان الكوري الشمالي عن فشل عملية الإطلاق التأكيد على إعادة الكرة في أقرب وقت ممكن، وهو ما عادت كيم يو ـ جونج شقيقة الزعيم كيم جونج أون للتأكيد عليه في اليوم التالي لعملية الإطلاق، مشيرة إلى ما سبق ذكره من أن ذلك حق لا يمكن لأحد أن ينازع بلادها فيه، حيث قالت صراحة: "لا يمكن لأحد أن ينكر حقنا السيادي لإطلاق قمر صناعي للاستطلاع العسكري". ومن ثم، فإنها بعدما ألقت بتبعة التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة على الولايات المتحدة وحلفائها طالبت أولئك الذين يدينون ما قامت به بلادها بإدانة أولئك الذين أطلقوا آلاف الأقمار الصناعية. ومن ثم، فقد رفضت الخارجية الكورية الشمالية إدانة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرش للتجربة، معتبرة أن هذا التصرف من قبل المسئول الدولي غير عادل وغير متوازن ويعد تدخلاً في شئونها الداخلية، مطالبة الأمين العام بتقديم تفسير عن سكوته حيال كل عمليات إطلاق الأقمار الصناعية الأخرى وتحفزه لإدانة ما تقوم به هي. وأما عن الحجة التي يطرحها المحتجون والخاصة باستخدام بيونج يانج لتكنولوجيا الصواريخ الباليستية، والتي حظرتها قرارات مجلس الأمن، فإنها اعتبرت تلك القرارات غير شرعية، بل وتنتهك ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وأنها بمثابة انعكاس للسياسة العدائية للولايات المتحدة وحلفائها. بطبيعة الحال لم يكن لتلك القرارات أن تصدر لولا موافقة كل من الصين وروسيا أيضاً. وكان لافتا مع التأكيد على الاستمرار في هذا البرنامج التأكيد أيضاً على أن ما تعتبره بيونج يانج سياسة عدائية تجاهها ستواجهه بعدائية أشد، ومن ثم فإنها اعتبرت ما قامت وستقوم به أموراً منطقية ومشروعة لمواجهة التهديدات غير المسبوقة التي تواجهها، وضرورية من أجل حماية سيادتها وسلامتها.

قد تكون هناك عقوبات جديدة تفرض على أشخاص وكيانات كورية شمالية ذات صلة بالبرنامج الفضائي من قبل كل من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان. وقد تصدر بيانات جماعية من قبل بعض الدول، لكن على الأرجح لن يكون هناك قرار جديد من مجلس الأمن. وحتى لو صدر قرار جديد أو بيان جديد من المجلس فإن هذا لن يردع كوريا الشمالية عن السير قدماً فيما خططت له.

من الواضح أن الأمور في شبه الجزيرة الكورية قد وصلت إلى وضع حرج شديد التعقيد، حيث توقفت كل قنوات الحوار تقريباً، وباتت اللغة السائدة على الجانبين لغة التهديد والوعيد. وحرص كل جانب على حيازة كل ما من شأنه حماية أمنه ومصالحه. فإذا كانت كوريا الشمالية ماضية في تطوير ترسانتها العسكرية التقليدية وغير التقليدية، فإن كوريا الجنوبية تفعل الأمر نفسه بالنسبة للجوانب التقليدية، وتكثف الاعتماد على واشنطن في القدرات غير التقليدية بما فيها النووية. كما أن التعاون الأمني بين كل من سول وطوكيو وواشنطن آخذ في التزايد، خاصة في ظل التوجهات المغايرة تماماً للإدارة الكورية الحالية عما كان عليه الحال في ظل إدارة مون جي ـ إن.

وفي الغالب، ستعاود كوريا الشمالية محاولة إطلاق أقمار صناعية لأغراض عسكرية. وقد تنجح المحاولة القادمة وقد تفشل لكنها لن تتوقف. كما أنها قد تقدم على إجراء تجربتها النووية السابعة التي يقال منذ قرابة العام أن كل الترتيبات الخاصة بها قد أنجزت وأن الأمر يتوقف فقط على قرار من كيم جونج أون. وربما تتم معاودة التجارب الصاروخية التي هدأت نسبياً في الفترة الأخيرة بما فيها الصواريخ بعيدة المدى.

إن شبه الجزيرة الكورية التي ما زالت مقسمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي ما زالت حالة الحرب فعلياً قائمة فيها منذ انتهت الحرب الكورية في خمسينيات القرن العشرين باتفاق هدنة في قرية بانمونجوم الحدودية، تحتاج إلى منظور مغاير من جميع الأطراف المباشرة وذات التأثير. ولكي ينجح هذا المنظور فلابد أن يستفاد من كل تجارب الماضي سواء على صعيد الحوار أو التفاهمات التي تم التوصل إليها وأطيح بها أو حتى المشاريع التي توقفت تماماً. هذا المنظور يحتاج أيضاً إلى الأخذ في الاعتبار التعقيدات التي وصلت إليها الأمور، وبالتالي خطورة حدوث انزلاق. هذا الانزلاق إذا حدث فربما لن يقف عند الحرب التقليدية.

البدء في عملية تفاوضية ليس أمراً سهلاً. وحتى إذا ما اجتمعت إرادة الأطراف على الدخول في مثل هذا الحوار، فقد ينسف في مرحلة الاتفاق على أجندته، نظراً لأن هناك أسئلة جديدة جديرة بالطرح من بينها: هل ستعود كوريا الشمالية عن قرارها بشأن عدم التخلي عن أسلحتها النووية؟، وإذا ما قبلت من حيث المبدأ فهل ستكون شروطها كما كانت في السابق؟، وهل ستقبل الولايات المتحدة وحلفاؤها برفع العقوبات؟، وهل ستقبل بمناقشة ما تطلبه كوريا الشمالية من ضمانات قد تكون أكثر بكثير مما طلبته في السابق؟ وتبقى مسألة الثقة مهمة جداً. فما هي الإجراءات التي يمكن أن تسهم في بناء الثقة؟