بعد قرون من الاستعباد والاستعمار، وعقود من الاضطرابات المخطّطة، وسنوات من الاستغلال المجانيّ؛ يبدو أنّ القارة السمراء تعيش اليوم على وقع تغييرات مصيريّة نتيجة استقراء ماض أليم؛ وتحليل حاضر مأسويّ لبناء مستقبل واعد. ويتجلّى ذلك - لا فقط من خلال صعود حركة "الأفريقانيّة الجديدة NEW PANAFRICANISME" وتحلّيها بالوعي والجرأة والمسؤوليّة وإنّما أيضا- في توسيع روح التّمرّد على أسياد الأمس القريب لدى زعماء أفارقة في بلدانهم وفي المحافل الدّوليّة.
ولعلّ تزامن هذا كلّه مع عودة التعدّديّة القطبيّة، وبداية انهيار الهيمنة الغربيّة يمثّل فرصة تاريخيّة نادرة ينبغي استغلالها لتحقيق السيادة، واستكمال الحلقات المفقودة من الاستقلال الكامل، وحرية الاختيار الاستراتيجيّ للشّركاء والدّفاع عن المصالح الوطنيّة في إفريقيا وامتداداتها التّاريخيّة في أميركا الجنوبيّة ودول الكاراييبي الثائرة، والعالم العربيّ والآسيويّ الناهض عمومًا. إنّه عصر مناهضة الاستعمار الغربيّ ومخطّطاته العنصريّة والصهيونيّة التّي تفتك بالبشريّة، وتنتهك المواثيق، وتكيل بالمكيالين دونما احترام للتاريخ والجغرافيا.
لذا؛ نظّم مركز مسارات للدّراسات الفلسفيّة والإنسانيّات في تونس، والرابطة الدّوليّة للخبراء والمحلّلين السياسيين، وبالتعاون مع سفارة جمهورية فنزويلا في تونس لمناسبة الذكرى 60 لليوم العالمي لإفريقيا (1963- 2023)، لقاءً فكريّا لدراسة التحديات الرّاهنة، واستشراف المآلات، وبناء الاستراتيجيات. وفرص التبادل والتعاون بين مثقّفي الجنوب ونخبه. وجاء تحت عنوان: "التحوّلات الجيو-استراتيجية في إفريقيا ومقاومة الاستعمار والعنصريّة والصهيونيّة". وذلك وفق المحاور التاليّة:
- إفريقيا في عالم الجنوب: التّاريخ وذاكرة النضال المشترك.
- إفريقيا والتحوّلات الجيو-استراتيجيّة العالميّة الرّاهنة.
- إفريقيا في مواجهة ثلاثية الاستعمار والعنصريّة والصهيونية: المهام والآليات.
وقد كانت فعاليات هذه السنة مميّزة لعدّة أسباب:
أوّلًا: أنّ الاحتفاء يأتي في سياق دولي متغيّر، أصبحت فيه إفريقيا مجالا جيوا-استراتيجيّا محوريّا في مسار بناء النظام العالمي الجديد قيد التشكّل.
ثانيًا: أنّ التنظيم كان مشتركا بين جهات فاعلة في عالم الجنوب باعتباره مجالا جامعا لنضالات الشعوب التوّاقة إلى الحريّة والكرامة ضدّ قوى الاستكبار والإمبرياليّة، بداية من إفريقيا مرورا بغرب آسيا وصولا إلى أمريكا الجنوبيّة وسائر بلدان عالم الجنوب.
ثالثًا: أنّ العناصر المكوّنة لعنوان الندوة (الاستعمار والعنصريّة والصهيونيّة) تعتبر عناصر جامعة لنضالات بلدان عالم الجنوب ولقوى المقاومة فيه.
رابعًا: أنّ المشاركة كانت متنوّعة شكلًا ومضمونًا من طلبة وسياسيين وسفراء، وأكاديميين وزعماء دينيين ومحللين سياسيين، ومن جنسيات وبلدان مختلفة: مالي، بوركينافاسو، جنوب إفريقيا، غامبيا، الكونغو الديمقراطيّة تونس، فلسطين، لبنان، فنزويلا، كوبا إلخ...
أولاً: معطيات أولية حول اللقاء:
الزمان |
25 أيار/ مايو 2023 |
المكان |
مقرّ سفارة جمهورية فنزويلا البوليفاريّة ـ تونس |
المشاركون السادة |
|
1 |
عضو الهيئة الإدارية للرابطة في تونس د. فوزي العلوي. |
2 |
رئيس الرّابطة د. محسن صالح. |
3 |
عضو الرابطة د. سليمان منغاني. |
4 |
سفير جمهورية فنزويلا البوليفارية في تونس السيد كارلوس فيو أسيفيدو |
5 |
سفيرة جمهورية كوبا في تونس السيدة مريم مارتينيز لوريل. |
6 |
عضو الرابطة د. موديبو دانيون |
7 |
عضو الرابطة د. عابد الزريعي. |
8 |
عضو الرابطة الأستاذ عمر آدم. |
9 |
رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس من القدس (فلسطين) المطران عطا اللّه حنّا. |
10 |
رئيس المركز الاستشاري للدّراسات والتوثيق (لبنان) د. عبد الحليم فضل اللّه. |
11 |
المدير التّنفيذي لاتّحاد علماء إفريقيا (مالـي) د. عمر بـمبا. |
12 |
عضو المؤتمر الوطني الإفريقي (جنوب إفريقيا) د. مونغان والي سيروتي. |
ثانيًا: مجريات اللقاء
بعد بالترحيب بالمشاركين، قدّم د. سليمان منغاني برنامج اللقاء ومحاوره وعناوين المداخلات العلميّة، وقائمة المشاركين وصفاتهم والمؤسّسات التي ينتمون إليها. وبعد هذا التقديم - ووفق البرنامج- كانت الكلمات الافتتاحيّة من الجهات المنظّمة للقاء.
المداخلات والكلمات المسجّلة |
سفير جمهورية فنزويلا البوليفارية في تونس السيد كارلوس فيو أسيفيدو
اخترنا: "التحولات الجيو-استراتيجية في إفريقيا ومقاومة الاستعمار والعنصرية والصهيونية" عنوانًا للاحتفال بالذكرى الستين لليوم العالمي لإفريقيا الذي هو جزء من مجموعة نضال الشعوب من أجل تحريرها، ولكن التساؤل كذلك عن الوضع الراهن وواجبنا في هذا الصدد من أجل تحقيق تحرير حقيقي للشعوب. وفي هذا السياق الجيو- سياسي الخاص جدًا، نعتقد أن هناك الكثير من الفرض لتعزيز النضال من أجل السيادة والاستقلال من اجل وحدة شعوبنا على هذه الطريقة الثورية.
وأقدّم هنا مثالا عمليّا على هذه الفرص، وتتمثّل في المبادرة التي يتمّ الحديث عنها حاليًا في جمهورية فنزويلا البوليفارية، إنّها مبادرة التعويضات؛ أي التعويضات عن الجرائم المتعلّقة بالاستعباد والاستعمار. يبدو لي هذا كفاحًا مشتركًا يوحد شعوبنا التي كانت جميعًا -في نفس الوقت- ضحايا لهذه الجرائم. وفي هذا السياق، بُذّلت جهود كثيرة من قبل الاتّحاد الإفريقي الذي ظلّ يعمل بالفعل على هذه القضية منذ عشرين عامًا، وكذلك الحال في منطقة الكاريبي ضمن المنظّمة الوحدويّة الإقليميّة لدول الكاريبي التي تنظر إلى هذه المسألة على أنّها قضية سياسية، ومشكلة التعامل معها على هذا الأساس، ولها ممثلون محليون في جميع الدول الأعضاء بخصوص هذا الموضوع.
أما بالنسبة لفنزويلا، فقد اقترحنا إنشاء لجنة تعويضات دولية تهدف إلى توحيد كلّ هذه المبادرات وإعطاء زخم أكبر لهذا المشروع. وأعتقد أنه موضوع يمكن أن يوحّدنا حول هدف مشترك. ومن هناك ترتبط أهمية التعويضات أيضًا باستعادة ما يسمى "الحقيقة التاريخية". إعادة كتابة تاريخنا بناءً على حقائق علمية وملموسة وغير محتملة. وتبدو هذه الإعادة هدفاً أسمى وأبعد، لكن يمكن تحقيقه.
فعلى سبيل المثال، نحن في أمريكا اللاتينية، استعمرنا لمدة 500 عام، وخضنا أكثر من 200 عام من النضال من أجل الاستقلال، ولكن دون أن ننجح في التصفية النهائية للهياكل الاستعمارية الإسبانية، التي بقيت في معظم بلدان أمريكا اللاتينية.
على هذا النحو، أعطي مثالًا، عندما كنا طلابًا في المدرسة، كانت جلّ كتب التاريخ التي كنّا ندرسها تأتي إلينا من إسبانيا، وما تعلمناه هو روايتهم للتاريخ، مدعومة بالهياكل الثقافية الأخرى التي تمكّن المستعمرون من وضعها من أجل فرض هذه الرّواية لدينا.
وأستشهد أيضًا بالاستعمار الجديد لعصرنا الذي تجلّى بشكل أساسي في الولايات المتّحدة الأمريكية التي تريد أيضًا فرض ثقافتها وروايتها للتاريخ. لقد تطلّب الأمر قطيعة ثانية لكسر هذا النسق، وذلك بدءاً بالثورة الكوبية عام 1959، والتي أدت إلى استمرارية هذا التمزّق داخل الدولة الاستعمارية التي نعيش فيها اليوم. وعلى الرغم من عزلتها، استطاعت الثورة الكوبية أن تلهم شعوب أمريكا اللاتينية، لتصبح بذلك مصدر أمل لها.
على الرغم من الطريق الطويل، تمكّنا من تحقيق الهدف، مع الإشارة إلى أنّ هذا النضال الطويل في قارتنا هو جزء من مسار، لأنّه إلى جانب الثورة الكوبية كان هناك ثورة في نيكاراغوا وفي بلدان أخرى لم تنجح جميعها بسبب اغتيال قادتها. بالطبع، لقد نجحنا في فنزويلا في عام 1999 في إنجاز ثورتنا والخاصّة جدًا بقيادة القائد هوغو شافيز، الذي دعا أيضًا إلى القطيعة من خلال تجسيد فكرة الديكولونيالية (إنهاء الاستعمار)، والتي يبدو أنّها مصطلح مرجعي لإعادة كتابة التاريخ التي نحن بصدد الحديث عنه.
لهذه الأسباب، فإنّ مفاهيم من قبيل: التعويض، وإنهاء الاستعمار، والقطيعة وإعادة كتابة التاريخ، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا، لأن جرائم الأمس لا تزال جرائم اليوم والتي ارتكبها نفس الفاعلين: الاستعمار والإمبريالية. هذا يعني أن مسألة التعويضات، أو إعادة كتابة التاريخ ليست مسألة الماضي فحسب، بل هي أيضًا مسألة الحاضر. يمكننا أن نستشهد في هذا الصدد بحالة الأراضي الزراعية في أمريكا اللاتينية، التي لا تزال مملوكة، وهذا بعد 200 عام من النضال التحريري، وبعد استقلالنا، من قبل الأجانب الذين قدّموا من أماكن أخرى، وهذا على حساب السكان الأصليين، الذين هم الملاك الحقيقيون.
لقد تمكن هؤلاء الملاك الجدد للأسف من ترسيخ سمعتهم الاقتصادية السيئة، مما سمح لهم بالسيطرة على السلطة السياسية من خلال إقامة علاقات مع المستعمر الإسباني واليوم مع الإمبريالية. بالإضافة إلى كل ما تم ذكره، فإن مسألة التعويضات هذه تنطوي أيضًا على إجراءات، ولا سيما التعويضات الاقتصادية، لأن هذا هو المكان الذي يمكننا فيه إلحاق الضرر بمصالح المستعمرين، ثم في نفس الوقت نجد أنفسنا، ونجسد هويتنا، ونستعيد تاريخنا الخاص، وإقامة العدل التاريخي والكرامة؛ أسباب كفاحنا.
في هذا الإطار، نظّمت حكومة جمهورية فنزويلا البوليفارية لقاءً دوليًا في عام 2018. حددت فيه ثلاث نقاط رئيسية: أولاً، إنشاء مركز دولي للتعويضات يهدف إلى التحقيق في الجرائم التي ارتكبها الاستعمار والتحقيق والبحث فيها. ثم ثانيا، تم إنشاء لجنة قانونية دولية مهمّتها إعداد الملفات القانونية التي سترفع إلى الجهات القانونية الدولية والوطنية. وأخيراً تقديم هذه الملفّات القانونيّة إلى مؤسسات متعددة الجنسيات مثل الأمم المتحدة وحركة دول عدم الانحياز من أجل التعريف أكثر لموضوع التعويضات على المستوى الحكومي في الدول الموجودة الأعضاء. ونعتقد أن هذه القضايا هي نقاط مهمّة من شانها أن توحّد أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا والشرق الأوسط أيضًا.
لهذه الأسباب، نحن في فنزويلا وأمريكا اللاتينية، نولّي اهتمامًا خاصًا لمسألة التعويضات هذه، ليس فقط داخل الهياكل الوطنية، ولكن أيضًا داخل الهياكل الإقليمية والقارية. ومن مظاهر هذا الاهتمام هو الاجتماع القادم في سبتمبر المقبل من هذا العام بين منظمة مجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي (سيلاك) والاتّحاد الإفريقي، والذي سيتناول مع قضية التعويضات كموضوع رئيسي للنضال المشترك بين شعوبنا ودولنا. خاصة وأن منظمة (سيلاك) يترأسها الآن السيد رالف إيفيرارد غونسالفيس (Ralph EVERARD GONSALVES) رئيس وزراء دولة سان فانسان وجزر غرينادين، وهو أحد أشد النشطاء في قضية التعويضات. ثم في الاجتماع القادم لحركة عدم الانحياز، الذي ستترأسه أوغندا، ستقدم فنزويلا خارطة طريق وإجراءات بشأن قضية التعويضات، والتي ستحال بعد ذلك إلى اللجان المتخصصة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة..
يضاف إلى ذلك، خارطة الطريق التي اقترحتها جمهورية غانا في قمة الاتحاد الإفريقي الأخيرة التي اعتمدها ووافق عليها رؤساء دول 55 دولة من دول الأعضاء. كما تقرر أيضًا في هذه القمة أن تقدم كل دولة حالة التقدم التي تمّ إنجازها في هذا الموضوع في القمة القادمة. مما يعني أن هناك رؤية سياسية مشتركة بين دولنا حول موضوع التعويضات. وهناك تجارب حقيقية قامت بها دول أخرى مثيرة للتفاؤل، كما هو حال لناميبيا التي حصّلت من ألمانيا على حوالي مليار دولار كتعويض عن جرائم ارتكبت خلال فترة استعمارية معينة ضد مجموعتين عرقيتين في هذا البلد. ويمكننا أيضا أن نذكر أيضا مثال ليبيا عندما حصل الزعيم معمر القذافي من إيطاليا على دفع 100 مليار دولار كتعويضات. لكن هذا الإنجاز الليبي أعقبه على الفور تدخل الناتو الذي أجهض كل ما تمكنت ليبيا من تحقيقه في هذا السياق. وربما يكون هذا سببا من أسباب اغتيال الزعيم الليبي أيضًا.
ما يجب أن نتذكره، هو أنّ مسألة التعويضات هذه توحدنا جميعًا، نحن شعوب الجنوب، لتتجاوز التعويضات الاقتصادية إلى يسمح لنا بمعرفة "الحقيقة التاريخية" ، والمضي قدمًا، لأنّها تربطنا أيضًا بنضالات أخرة من أجل الحرية ا في جميع أنحاء العالم ، على سبيل المثال كفاح الشعب الفلسطيني لاستعادة أرضه وحقوقه الأساسية. يجب أن يترافق هذا النضال بوعي سياسي بالقضية الفلسطينية. فنحن الذين اخترنا الخيار الثوري للعدالة والكرامة لشعبنا ما زلنا نواجه العديد من الصعوبات من القوى الإمبريالية، التي لا تزال تجبرنا على الدفاع عن أنفسنا وكأنّنا لسنا أصحاب حقّ، ومطالبتنا بالتعويضات تبدو طريقة جيدة لتجاوز الدفاع نحو الهجوم.
وختاما، أقتبس مقطعًا من الرسالة التي وجهها الرئيس نيكولاس مادورو إلى ملك إسبانيا في عام 2021: "على أوروبا أن تدرك أن حداثتها ونموها الصناعي والتجاري والمالي المذهل، أي صعود الرأسمالية الغربية قد تأسّس على الجريمة ضدّ الإنسانية، ضدّ شعوب هنود أمريكا وضدّ إفريقيا، وفي نزع ماديّ لثرواتهم الذي بدأ في 12 أكتوبر 1492. إنّها حقيقة يمكن إثباتها علميًا ".
سفيرة جمهورية كوبا في تونس السيدة مريم مارتينيز لوريل
تنظيم هذه الندوة الفكريّة يمكّننا من التقرّب أكثر من القارة والشعوب الإفريقيّة. كما أنّه من باب الفخر بالنسبة لي أن أتحدّث في هذه المناسبة عن أواصر الأخوّة المتجذّرة في التاريخ بين كوبا وإفريقيا.. إذ يتجلّى تضامن كوبا مع إفريقيا من خلال وجود نحو مليون وثلاثمائة ألف إفريقي أو من جنسيات ذات أصول إفريقيّة في كوبا. الأمر الذي مكّن كوبا من التعرّف عن كثب على جرائم العبوديّة التي تعرّضت لها القارة. فإفريقيا هي جزء من الرّوح الوطنـي الكوبـي، وكما قال الرّئيس الرّاحل الزعيم فيديل كاسترو فـ: "إنّ شعوبنا في أمريكا اللاتينيةّ تنحدر من أصول إفريقيّة"، ومن ثمّ فإنّ هذه العلاقة بين الشعبين لها بعد ثقافي كذلك، لأنّ الجنود الكوبيين الذي شاركوا في الكفاح التحرّري الوطني مع إفريقيا، بداية القرن التّاسع عشر، كانوا من أصول إفريقيّة. وهنا، أستحضر قول الزعيم فيديل كاسترو آنداك أنّ: "تحرير شعوب إفريقيا هو واجب تاريخي".
في بداية الثورة الكوبيّة في جانفي 1959م تمكّنت هافان من تجسيد وجودها السياسي في إفريقيا من خلال قنصليّة متواضعة بمصر. وكان من أوليات الثورة، وخاصّة على المستوى السياسي، تعميق علاقتها بشعوب إفريقيا. وتوجد في كوبا اليوم 27 سفارة لدول إفريقيّة، و35 في بلدان إفريقيّة. كما شارك نحو نصف مليون كوبي - وجلّهم لقّوا حتفهم- في الحروب التحرّرية في إفريقيا من أجل قضاء الدّين التّاريخي تجاه إفريقيا من جهة، وتجسير علاقة التضامن معها من جهة أخرى. وقد احتفلنا مؤخرا في 23 ماي 2023 بمرور ستّين عاما على التعاون الطبي الكوبي العالمي، والذي قادته القوات الطبيّة الكوبيّة في جميع أنحاء العالم. وكان بدايته مع الجزائر، ولا زال هذا التعاون في تطوّر ملحوظ، إذ نجد اليوم نحو 600 ألف عون طبي كوبي عبر العالم. كما كان التعاون العلمي موجودا عبر مواصلة عدد كبير من الشبان الأفارقة دراستهم في الجامعات الكوبيّة بداية الستينيات.
وفي سياق أهمية التعاون المبادل بين كوب وإفريقيا، أذكر هنا وقوف القارّة الإفريقية إلى جانب كوبا، وتنديد رؤساء الدّول الإفريقية بالحصار الأمريكي الجائر ضدّ بلدنا. مما يعني أنّ البعد الجغرافي لم يمنعنا من التضامن والتعاون، والذي لا زال متواصلا إلى اليوم؛ لذا نحتقل كلّ عام في 25 آيار/ ماي مع شعوب إفريقيا بيومها العالمي لنجدّد العهد، ونؤكّد على مواصلة جهودنا في ترسيخ هذه الروح التضامنيّة وأواصر الصداقة بين شعوبنا.
د. فوزي العلوي
نحن سعداء بأن نجتمع هنا في مقرّ سفارة جمهورية فنزويلا البوليفاريّة بتونس لنحتفي جميعا بيوم له رمزيته هو الذكرى الستّون لليوم العالمي لإفريقيا. ليس من الصدف أن نكون هنا اليوم نظرًا لرمزية المكان ورمزية التّاريخ والذّاكرة. وليس من الصدف أن يتزامن تاريخ 25 آيار/ ماي مع ذكرى أخرى التي هي عيد المقاومة والتّحرير. هذا العيد الذي قدّمت فيه جماعة ثوريّة مقاومة عربيّة درسًا في النضال الثوري من خلال قهر مظهر من مظاهر العنصريّة، وآخر عنوان للاستعمار المعاصر متمثّلا في الغدّة السرطانيّة الصهيونيّة؛ فنحن بذلك نحيي عيدين معا: عيد إفريقيا الناهضة والمستجمعة لقواها نحو التحرّر من بقايا الاستعمار القديم، وتجلّيات شكل جديد من الاستعمار المتجدّد.
كذلك، فإنّ هذه اللّحظة ليست مجرّد لحظة تضامن، بل هي لحظة شراكة حقيقيّة من خلال وحدة الساحات. فنحن نعتبر أن الجغرافيا واحدة في إفريقيا وفي عالم الجنوب، وأنّ نضالاتنا المشتركة ضدّ الاستعمار والعنصرية والصهيونية إنّما هي رسالة واحدة نعمل على تحقيقيها معا، ولعلّ الدّور الطلائعي في هذه اللحظة هو لنخبنا ومثقفينا ومناضلينا في عالم الجنوب، عبر الجهد الرّمزي المتمثل في العمل على بناء هندسة وعي عالمي مقاوم لمظاهر الاستلاب والاغتراب المتجسّد في ثلاثي الإرهاب والاستعمار والعنصرية والصهيونية، لذلك فإنّ هذا المقام هو مقام جهاد فعلي حقيقي لنخبنا للبيان والتّبيين.
هذه اللحظة تتطلّب وقفة جماعية تعمل على منع الاستعمار لإعادة بناء نفسه من جديد من خلال فضح سرديات هذا الغرب المتوحّش، لا سيما أنّ تراجع الاستعمار القديم في إفريقيا بنسختيه الفرنسية والبريطانيّة لا يأتي من فراغ أو منّة من هؤلاء المستعمرين، بل هو بفضل النضالات المتواصلة لشعوبنا الحيّة ونخبنا الطلائعيّة، وأنّ ما نشاهده اليوم من تحوّلات جيو-استراتيجيّة في غرب إفريقيا عبر طرد بقايا الاستعمار الفرنسي من مالي ومن بوركينا فاسو ومن إفريقيا الوسطى، إنّما هو مؤشّر على استئناف إفريقيا لدوره الثوري النضالي الحضاري، وأنّ بناء الاستعمار لنفسه من جديدة في سرديّة جديدة عبر هذه العولمة المتوحّشة التي تقودها الولايات المتّحدّة الأمريكيّة من خلال الاضطلاع بدور بديل لقوى الاستعمار القديمة، من خلال العمل على عسكرة القارة، وتحويلها إلى ثكنة كبيرة، والتعامل معها بمنطق الغنيمة ونهب خيراتها واستغلال شعوبها، عبر صناعة صراعات وهميّة وشكليّة ومسقطة. بالإضافة إلى تدمير المتواصل والممنهج لإفريقيا شعوبا وثقافة وحضارة. هنا، نلتقي بما دعا إليه السفير الرفيق كارلوس فيو بخصوص الذاكرة المشتركة، لأنّه علينا إعادة كتابة التّاريخ والذاكرة، من حيث أنّ إعادة كتاب التاريخ أوّلا لا يجب أن نكتفي فيها بمجرّد المطالبة بالاعتذار، بل نحن أمام جريمة دولة ورسمية لغرب دموي متعطّش للإبادة واستئصال كلّ مخالفيه.
ونحن إذ نطالب بتقديم التعويضات، فهي لا تكفي مطلقا لتعويضنا لما لحق بنا خلال أكثر من قرنين من ضروب الاستعمار والإبادة والتمييز العنصري والتصفية العرقيّة، من هذا الغرب المتوحّش في نسخته الرأسماليّة الليبراليّة المتهاوية. لذا، فإنّه على نخب العالم والشعوب الحرّة في عالم الجنوب أن تعيد بناء نفسها عبر الاعتناء بالذّاكرة المشتركة لإنسان الجنوب الذي يتوجّب عليه أوّلا العمل على نحو تشاركي تضامني لإنهاء العولمة بكلّ تجلّياتها، وفضح الأطروحات المركزية الغربية والتمركز الغربي، ومبرّراتهما. وهذا يقتضي وجوبا بناء ابستيمولوجيات الجنوب، والعمل على جعل العدالة الإبستيميّة مطلبا أكاديميا يحظى بالأولوية المطلقة في سياق بناء مرجعياتنا الفكريّة والثقافيّة والحضاريّة. كما يقتضي ضرورة العمل على إحياء قيمنا الرّوحيّة وثقافاتنا المحلّية التي عمل الاستعمار الغربي على سحقها وتشويهها وتدميرها، عبر الاشتغال على تغيير الخارطة الجينية للثقافة في إفريقيا وأمريكا الجنوبية، وتحويل الفكر الإرهابي، والتطرّف الدّيني السلفي الوهابي إلى فكر ديني بديل استبدلت به الشخصية الثقافية الرّوحيّة لإفريقيا. إنّه علينا العمل على توطين هذه الثقافة الإنسانيّة العداليّة المحقّقة للكرامة الإنسانية الواحدة، والتي من شأنها أن تسهم في بناء عالميّة جديدة، تنهي العولمة الغربية المتوحّشة، لنكون أمام عالميّة جديدة تكون من خلالها القوى الصاعدة الثورية في إفريقيا والعالم العربي وأمريكا الجنوبية والكاراييبي وكوبا هي حجر الأساس في بنائها. وعبر التحالف مع قوى عالمية صاعدة متمثّلة في دول البريكست وغيرها من التجمّعات الشعبية التي تحمل لواء التحرّر من أسر هذا الثلاثي: الاستعمار والعنصرية والصهيونيّة.
ونريد في الختام أن نوجّه الشكر مجدّدا لشركائنا في كوبا، ونقول للسيدة السفيرة بأنّ كوبا آثرت إفريقيا على نفسها، وقدّمت إمكانياتها البسيطة لتحرير شعوب إفريقيا، فلم تستغلّهم، ولم تستعبدهم، بل قدّمت جحافل من الشهداء والمناضلين لتحريرها من جحافل المستعمرين الغربيين. وهي فوق ذلك قدّت أكثر من 600 ألف من الجسم الطبي، كما صرحت السفيرة بذلك، ومن خبراء الزراعة وغيرها من التخصّصات الي تحتاجها شعوب عالم الجنوب. فشكرا لكوبا تاريخا وحاضرا ومستقبلا، شكرا للقائد فيديل كاسترو وللقيادة الكوبيّة، ولكافّة الشعب الكوبي الصديق. الشكر أيضا موصول لفنزويلا البوليفاريّة ولقاماتها الفارقة على رأسهم الزعيم الخالد تشافيز، ورفيق دربه وخليفته مادورو، وأنّ التضامن البوليفاري مع شعوبنا العربيّة ومع قضايا إفريقيا وتحرّرها هو دين في رقبتنا، وأنّ كسر الحصار على عالمنا العربي وإفريقيا بدأه تشافيز، فكان ردّنا عليه من خلال العمل على كسر الحصر الاقتصادي الظالم على فنزويلا، حيث تشهد بذلك شحنات النفط العابرة للمحيطات، والتي وصلت إلى موانئ فنزويلا دائمة ومساندة.
تحيّة لإفريقيا في ذكرى الستّين ليومها العالمي، تحيّة لكلّ أحرار الجنوب من كوبا إلى فنزويلا إلى الدّول الكاراييبي، إلى سائر الأحرار في هذا العالم الذي نريد أن نتحرّر فيه من آخر وجوه الاستعمار، والعنصرية والصهيونية كما هي بادية في المظلمة الفلسطينيّة عبر استعمار عنصري استيطاني هو آخر هذه الحلقات لننتهي منها قريبًا، ويعود السلام والتضامن والعدالة والحريّة للجميع.
د. محسن صالح
بعد تنويهه بأهمية الندوة، أكّد رمزية يوم إفريقيا بصفته "يوم كلّ القارّات، وكلّ الشعوب المستضعفة التي خضعت وتخضع الآن لكلّ أنواع العنصريّة والتمييز العنصري والطبقي والجهوي، وقال: يوم إفريقيا، وهو يوم كلّ الشعوب المستضعفة التي خضعت وتخضع الآن لكلّ أنواع العنصريّة والتمييز العنصري والطبقي والجهوي، وكلّ أنواع التمييز، خاصّة في ظلّ السيادات الغربيّة، وصولًا إلى الولايات المتحدّة الأميركيّة التي مارست وتمارس حتى اليوم أبشع أنواع التمييز ضدّ كلّ الشعوب، خاصّة في إفريقيا وآسيا.
يوم إفريقيا هو يوم كلّ القارّات، وكلّ الشعوب المستضعفة التي قتلت أو سجنت أو نهبت. هذه الشعوب التي عانت طويلا بدأت الآن تنتفض لتصل إلى استقلالها. وتحاول أن تقاوم كلّ أنواع الهيمنة وتتنصر أيضًا. نحن في لبنان 25 آيار/ مايو هو يوم تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، والشعب الفلسطيني يقاوم أيضا من أجل تحرير فلسطين، وخاصّة تحرير الأماكن المقدّسة، القدس.
في إفريقيا كلّ الشعوب هناك تقاوم، فجنوب إفريقيا قد انتصرت على التمييز العنصري. وغيرها من مالي وصولا إلى كينيا ونيجيريا كلّها تقاوم أيضا ضدّ كلّ أنواع التمييز العنصري. فنزويلا كذلك استطاعت أن تنهض بقائدها الكبير هوغو تشافيز، رفقة الرّئيس الحالي نيقولا مادورو اللذان استطاعا أن يصدّرا كلّ أنواع الانتصارات. في تونس وفي الجزائر وكلّ شمال إفريقيا. كذلك في آسيا -وغربها تحديدا- من خلال صمود الشعب السوري والعراقي والفلسطيني والإيراني. كلّ هذه الشعوب انتصرت في كلّ المراحل التي أراد فيها الغرب فرض هيمنته وسلطته ونهب ثروات الشعوب. لذا أُحيّ كلّ هذه الأصوات المرتفعة اليوم ضدّ الاستعمار وضدّ العنصريّة.
د. موديبو دانيون
بدايةً ذكّر بالسياق العلمي والرّاهني للندوة الذي يتميّز بتغييرات مصيريّة للقارة الإفريقيّة نتيجة استقراء ماض أليم؛ وتحليل حاضر مأسويّ لبناء مستقبل واعد. وقال: يتجلّى ذلك ليس فقط من خلال صعود حركة "الأفريقانيّة الجديدة NEW PANAFRICANISME" وتحلّيها بالوعي والجرأة والمسؤوليّة، وإنّما أيضًا في توسيع روح التّمرّد على أسياد الأمس القريب لدى زعماء أفارقة في بلدانهم وفي المحافل الدّوليّة. وكلّ ذلك بالتزامن مع عودة التعدّديّة القطبيّة، وبداية انهيار الهيمنة الغربيّة التي تمثّل فرصة تاريخيّة نادرة، ينبغي استغلالها لتحقيق السيادة، واستكمال الحلقات المفقودة من الاستقلال الكامل، وحرية الاختيار الاستراتيجيّ للشّركاء والدّفاع عن المصالح الوطنيّة في إفريقيا وامتداداتها التّاريخيّة في أمريكا الجنوبيّة ودول الكاراييبي الثائرة، والعالم العربيّ والآسيويّ الناهض عموما.
وبناء عليه، فإنّ وحدة الدّراسات الإفريقيّة بمركز مسارات للدّراسات الفلسفيّة والإنسانيّات بتونس، والرابطة الدّوليّة للخبراء والمحلّلين السياسيين، وشركائهما في بقية عالم الجنوب؛ يحتفلون بالذكرى الستين لليوم العالمي لإفريقيا في 25 ماي 2023، من أجل "دراسة التحديات الرّاهنة، واستشراف المآلات، وبناء الاستراتيجيات. وهي فرصة للتبادل والتعاون بين مثقّفي الجنوب ونخبه".
د. عابد الزريعي
إنّ استراتيجية التغلغل الإسرائيلي عبارة عن مسار اتّصالي لخلق بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية مؤيّدة لإسرائيل في إفريقيا، ومضادة لأية محاولة عربية لبناء علاقة إيجابية مع القارة. وهي تدار بشكل شبه كامل من قبل إسرائيل، لكنها لا تعبر عن مصالحها الخاصة فقط، وانما تنضوي على مصالح امريكية واوربية، الامر الذي يوفر لها دعم خارجي. وقد اشتغلت على مدى ثلاثة مراحل من العلاقات الاسرائيلية الإفريقية، وهي مرحلة البناء التدريجي للعلاقات من عام 1948 إلى 1967. ومرحلة تراجع العلاقات من عام 1967 إلى 1977. ومرحلة تسارع العلاقات وتطورها من عام 1977 إلى 1990، حيث بات لإسرائيل 48 سفارة وبعثة ديبلوماسية في القارة التي يبلغ عدد دولها 53 دولة. وإذا كان التراجع قد ارتبط بحرب عام 1967 وحرب 1973، فإنّ تطور العلاقات قد ارتبط بمتغيرين رئيسين هما اتفاقيات التسوية والتطبيع العربي الإسرائيلي من ناحية، وانهيار الاتحاد السوفييتي من ناحية ثانية. وتتبدى هذه الاستراتيجية في صياغتها النظرية والعملية في خمسة ركائز هي التحدي، والرؤية والأهداف، والموكّلون بتحقيق هذه الأهداف، والتكتيكات المتبعة وهي عبارة عن استراتيجيات صغرى. وهي الركائز الأساسية للمداخلة:
الركيزة الأولى: التحدّي: شكّل مؤتمر باندونغ 1955 تحديا رئيسيا لإسرائيل، بعد رفض السماح لها بالمشاركة في المؤتمر، الامر الذي جعلها تستشعر إمكانية عزلها وحصارها على المستوى الآسيوي وخاصة الإفريقي. وفي هذا السياق ولد ما يعرف بالاتّجاه الإفريقي في السياسة الخارجية الإسرائيليّة.
الركيزة الثانية: الرؤية: تشكّلت الرؤية الإسرائيلية لإفريقيا ارتباطا بالتحدّي، وتمثّلت في تصور إفريقيا كجغرافيا مهيمن عليها سياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا من ناحية، ومعادية للعرب بشكل مطلق من ناحية ثانية.
الركيزة الثالثة: الأهداف: يستدعى الوصول الى تلك الرؤية إنجاز مجموعة من الأهداف، التي تتلخص في مجموعة عناوين هي:
1 - السياسي: ويتمثل في توسيع شبكة العلاقات الدبلوماسية في القارة الإفريقية، والاستفادة من كتلتها التصويتية في المحافل الدولية، لدعم الشرعية والرواية الإسرائيلية. وكسب دعم الأمريكيين من أصل افريقي على الساحة الأميركية. وإحداث شرخ بين الدول العربية وإفريقيا.
2- الاقتصادي: ويتحدد أولا في تأمين المواد الأولية وأسواق للمنتجات الإسرائيلية، وتشغيل فائض العمالة من فنيين وخبراء في القارة، وثانيا في تأمين التجارة البحرية عبر ممرات التجارة الدولية، والمنافذ البحرية الافريقية على المحيطين الهندي والأطلسي. ورحلات "شركة العال" التي تمر في سماء إريتريا ومن هناك تتجه شرقا. وثالثا في إغراق الاسواق الافريقية بسلع رخيصة، لسد الطريق أمام دخول بضائع عربية للأسواق الافريقية.
3 - الأمني: ويتلخص في ضرب المصالح العربية وإضعاف نفوذ العرب في تلك القارة. واختراق ملف الجاليات العربية في إفريقيا. وذلك ضمن منظومة الأمن القومي الاسرائيلي بشموليتها.
4- الديمغرافي: ويتبدى في توظيف الجاليات اليهودية في معالجة الضغط الديموغرافي في "إسرائيل"، وزيادة الكثافة السكانية. واستخدامهم ايضا كقوة ضغط وثير داخل بلدانهم.
الركيزة الرابعة: الموكلون: وهم المعنيون بإنجاز تلك الاهداف ويتمثلون في وزارة الخارجية الاسرائيلية وتضم إدارتين متخصصتين في الشئون الأفريقية. وقسم التعاون الدولي (مستقل) ويتولى مشاريع التنمية بأكملها في القارة، ويتبعه سبعة مؤسسات. والمراكز التدريبية الخاصة بأفريقيا وعددها خمسة. وجمعيات الصداقة وأندية السلام التي أسّسها قسم التعاون الدولي والموساد. والخبراء والفنيين الذين يرسلون للعمل في افريقيا. والمتدربون الذين يتلقون التدريب داخل اسرائيل في المؤسسات المشار اليها او غيرها، ثم يعودون الى بلدانهم. وقد بلغ عدد هؤلاء حتى عام 2007 (24636). وتحددت مصائر 1080 من بينهم في 3 رؤساء حكومة. 40 وزيرا. و150 برلماني. 100 محاضر. و400 مدير تعاونية. و350 رؤساء نقابات. و37 أمناء اتحادات ثقافية.
الركيزة الخامسة: التكتيكات: (الاستراتيجيات الصغرى) وتتمثل في التغلغل الامني، والتغلغل المادي (الاحتياجات المادية، والتغلغل الثقافي.
أولا: استراتيجية التغلغل الأمني والعسكري:
يتحدّد هدف هذه الاستراتيجية في ربط المنظومة العسكرية والامنية لدول القارة، بالمنظومة الإسرائيلية تدريبا وتنظيما وتسليحا. وتوكل مهمة الانجاز الى الشركات الامنية الاسرائيلية او الوسيطة، والمجموعات العرقية المحلية، وخبراء الأمن العاملين في القارة. وتتمثل التكتيكات المتبعة في تقديم المساعدات الفنية للجيوش والأجهزة الأمنية واختراقها. والاهتمام بالحراسات الخاصة للقيادات الإفريقية. وتجنيد العملاء. وتوفير الدعم العسكري للدولة ومعارضيها كضمان في حال تغير الأوضاع. ودعم المعارضة في الدول غير الموالية لنشر حالة من عدم الاستقرار السياسي. واثارة المخاوف من مد اسلامي، وتقديم اسرائيل كخبيرة في التصدي لهذا الخطر.
ثانيا: استراتيجية التغلغل المادي:
وتشتغل عبر مدخلين، الأول اقتصادي وهدفه تكريس صورة لإسرائيل كدولة متقدمة تقنيا واقتصاديا، تساعد افريقيا على التطور بدون اطماع. اما الموكلون بإنجاز الهدف فهم البرنامج الدولي لمحاصيل الأراضي القاحلة والذي تتبناه جامعة بن غوريون. والمستثمرون والشركات الصناعية والتجارية الإسرائيلية والمختلطة، في كافة المجالات الاقتصادية. وتتلخص التكتيكات المتبعة في اقامة المشاريع مثل "حديقة السوق الإفريقية" في مجال الأمن الغذائي. ومحاصيل الأراضي القاحلة. واستصلاح الأراضي، والريّ والصرف الصحي. وتشجيع المستثمرين الإسرائيليين للذهاب إلى الدول الأفريقية. وتقديم الخبرات الفنية والعلمية. وتركيز المشاريع الزراعية التي تعتمد سحب المياه في دول منابع النيل. ويتعلق المدخل الثاني بالمجال الاجتماعي والصحي والرياضي، وهدفه تكريس صورة انسانية وخيرية لإسرائيل في مختلف الاوساط الافريقية. وتوكل مهمة تحقيقه إلى السفارات الإسرائيلية ومنظمات المجتمع المدني والناشطون. الذي يعتمدون مجموعة تكتيكات تتبدى في توزيع مواد دراسية والواح الكترونية على الطلاب في المدارس النائية. ومواد غذائية على المناطق الفقيرة بشكل عام وخلال شهر رمضان للمسلمين. وإنشاء مراكز صحية وطبية في المناطق النائية، والقيام بحملات علاج في المناطق النائية. وإقامة معسكرات ومدارس كرة قدم لاجتذاب المواهب الافريقية الناشئة والتي تنقصها الامكانيات.
ثالثا: استراتيجية التغلغل الثقافي
وتهدف الى بناء صورة لإسرائيل كدولة ديمقراطية، متقدمة تكنولوجيا وتنمويا. ومركز اشعاع حضاري، صديقة لأفريقيا. ويجمعها بها تاريخ مشترك من الاضطهاد بسبب اللون والدين. وتكريس صورة للعرب كأنظمة ديكتاتورية، يستثمرون في افريقيا لمصلحتهم، بينما تستغل جالياتهم ابناء القارة، وتاريخ علاقتهم بأفريقيا يقوم على تجارة الرقيق. وقد اوكلت هذه المهمة لمجموعة من الاجهزة الثقافية والخبراء والباحثين واساتذة الجامعات والفنانين وغيرهم.
وتتلخص التكتيكات المعتمدة أولا في القصف الاعلامي، فقد خصصت الإذاعة الإسرائيلية برامج للبث باللهجات الإفريقية عل 15 موجة من 4 محطات إذاعية، وتبث برامجها ب 11 لغة إفريقية محلية. اضافة الى عشرات الصحف في عديد البلدان الإفريقية. وثانيا في العمل الثقافي من خلال الحفلات والمهرجانات، بمشاركة الفرق الغنائية والموسيقية الإسرائيلية. وتنظيم المهرجانات والمؤتمرات والندوات، وترجمة أعمال أدبية افريقية. وثالثا من خلال السياحة الدينية، بتنظيم رحلات الحجاج الأثيوبيين إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج. ورابعا في النشاط التبشيري الذي تقوم به جماعات تبشيرية يهودية، من بينها "شهود يهوه". وخامسا الترويج لمقولة اليهودية والصهيونية السوداء، وأنّ إسرائيل جزء من التراب الإفريقي، وأنّ مينليك أحد أجداد الأمبراطور هيلاسيلاسي، هو ابن بلقيس وسليمان. وأنّ القبيلة العاشرة التائهة موجودة بإفريقيا الأيديولوجي، والعمل على إضفاء المسحة الصهيونية على الحركة الجامعة الإفريقية، تحت عنوان "الصهيونية السوداء". وسادسا اللجوء إلى التلفيق التاريخي الذي يعد أحد نماذجه كتاب الأمريكي الصهيوني هنري أوبن والمعنون بـ " إنقاذ أورشليم.. التحالف بين العبرانيين والأفارقة عام 701 قبل الميلاد ". وسابعا توظيف الحقائق الطبغرافية المرتبطة بفلسطين، لبناء علاقات ثقافية مع بلدان القارة، ومن ذلك توظيف الأخدود الأفريقي العظيم لاختراق القارة الإفريقية وتطويق العالم العربي، وإدماج إسرائيل في نسيج المنطقة الثقافي والطبيعي والجيولوجي، لتصبح جزء من المنطقة، على صعيد التاريخ والتكون الجيولوجي والجغرافي للمنطقة وأنها ليست عنصراً طارئاً وعارضاً في حاضر وتاريخ المنطقة.
نختم بملاحظتين. الأولى أنّ اسرائيل في ترويجها الاعلامي تعمل على ابراز الجانب المادي من تغلغلها بينما تبعد الاضواء عن الاستراتيجيتين الأمنية والثقافية، لحساسية الأولى، ومن أجل ترك المجال للثانية لتعمل بهدوء في عمق الوعي. والثانية أنّ استراتيجية التغلغل برمتها تشوبها ثغرات وتنضوي على سلبيات كثيرة، يمكن توظيفها ضمن بناء استراتيجية مضادة في مواجهة المشروع الصهيوني ودحره في الساحة الافريقية.
الأستاذ عمر آدم
إنّ إفريقيا قارة ذات أهمّيّة استراتيجيّة كبيرة، حيث تمتلك ثروات طبيعيّة هائلة وتحظى بموقع جغرافي حيوي، فضلًا عن الموارد البشريّة التي تمثّل الثروة الحقيقيّة للأمم. فقارة إفريقيا تضمّ أصغر معدل أعمار. فـ 50% من سكّانها أعمارهم أقلّ من عشرين عام، ولا يخفى على أحد أهمّيّة الشباب في بناء نهضة الأمم. وقد شهدت القارة في السنوات الأخيرة تحوّلات جيو- استراتيجيّة هامّة، وتمثّلت تلك التحوّلات بشكل خاص في منطقة الساحل المصدر الهام للثروات الطبيعيّة والموارد الاقتصاديّة مثل النفط والغاز والموانئ البحريّة والثروة السمكيّة، ما جعلها -منذ عقود بعيدة- محطّ اهتمام القوى الدّوليّة التي ما فتئت تتنافس للحصول على حصصٍ أكبر من هذه الموارد، والاستفادة من فرص الاستثمار والتجارة في المنطقة. كما أنّها موقع استراتيجي للقوى العسكرية التي تسعى إلى تعزيز وجودها العسكري ونفوذها في المنطقة لتحقيق مصالحها الاستراتيجيّة وزيادة نفوذها السياسي.
ودونكم بعض الأسباب الرئيسيّة للتحوّلات جيو-استراتيجيّة في منطقة الساحل عمومًا:
1-عدم الاستقرار السياسي وفي التحوّلات الديموغرافيّة: فخلال العقود الأخيرة تشهد الدول في منطقة الساحل تحوّلات سياسية وديموغرافية هامة تمثّلت في عجز كثير من دول المنطقة عن بناء حكومات ديموقراطيّة قويّة جراء عوامل داخلية وأخرى خارجيّة، ما أدّى إلى حدوث انقلابات متكرّرة في تلكم الدّول مثل مالي وغينيا وبوركينا فاسو، وهذا الأخير هو محلّ اهتمامنا في هذا المقام.
2-المشاكل الأمنيّة: كما أنّ المنطقة تعاني من مشاكل أمنية جرّاء تهديدات الجماعات المتطرّفة والإرهابيّة المتجبّرة التي تدّعي الإسلام، رغم براءة الإسلام منهم.
3-الثروات الطبيعيّة في المنطقة: ومن الأسباب الرّئيسة أيضًا تمتّع المنطقة بثروات طبيعية هامّة كما ذكرنا آنفًا، وتُعدّ هذه الثروات محفّزا للنمو الاقتصادي وتؤثر على التحولات الجيو-اقتصادية والتجارية في المنطق. وعلى الرغم من الصعوبات والعراقيل فإنّ دُول المنطقة تعمل على تطوير البنية التحتيّة وتطوير الاستثمار لتعزيز النموّ الاقتصادي وتحسينه، وافتتاح الرّئيس النيجيري محمّد بهاري (Muhammad BUHARI) 23 آيار/ مايو 2023 مصفاة النفط العملاقة لأغنى رجل إفريقي أليكو دانغوتي (Aliko DANGOTE) خير مثالٍ على الجهود المبذولة للنّهوض بالقارة. فالمنطقة تتمتّع بإمكانات كبيرة للتنمية والتعاون، لكن شريطة أن تحظى بالاستقلاليّة السياسيّة واستقرارها، وأن تتمتّع بالأمن والأمان في كافة أراضيها.
وكما أنّ بوركينا فاسو من أهمّ دول المنطقة التي شهدت تحوّلات جيو-استراتيجيّة في الوقت الراهن ، سنأخذها كأنموذج لفهم هذه التحوّلات.
-Iنبذة عن بوركينا فاسو:
تقع بوركينا فاسو في قلب الساحل الافريقي، وقد أطلق عليها هذا الاسم أبو الثورة البوركينابيّة القائد توماس سنكارا (Thomas SANKARA) وعاصمتها واغادوغو، وتحتلّ بوركينا فاسو موقعًا استراتيجيًا في غرب إفريقيا، وهي رابط حقيقي بين منطقة الساحل والدول المطلّة على خليج غينيا.
وعلى مدى عقود تمتّعت البلاد باستقرار ملحوظ في هذه المنطقة التي ابتليت بعدم الاستقرار، وفي الآونة الأخيرة بسبب صعود الحركات التكفيريّة. بالإضافة إلى الانتفاضة الشعبيّة عام 2014 التي أدّت إلى سقوط النظام الحاكم لفترة طويلة، وعملية التحول الديمقراطي دخلت الجماعاتُ المتطرفة البلادَ، ومن وقتئذٍ إلى يومنا هذا، وهي تزرع الخوف والرّعب في قلوب السكان بأفاعيلهم اللاإنسانية الشنيعة. وهذا ما عرّض الحكومة لضغوط غير مسبوقة من قِبل السكّان. وهذه العوامل كلّها أدّت إلى تحوّلات جيو-استراتيجيّة مهمّة في الدّولة جعلتها أمام تحدّيات عديدة، أبرزها ما يلي:
1-التحدّياّت السياسيّة:
شهدت بوركينا فاسو سنة 2014 انتفاضة شعبيّة غير مسبوقة في البلاد، عبّر من خلالها الشعب في التغيير نحو الأفضل، وبناء دولة ديمقراطيّة قويّة، وأدّت الانتفاضة إلى سقوط نظام بليز كومبوري (Blaise COMPAORÉ ) الذي حكم البلاد 27 عامًا منذ سنة 1986م بعد الانقلاب على المناضل توماس سنكارا.
وبعد سقوط نظامه مرّت الدّولة بفترة انتقاليّة دامت سنة وشهرًا وثمانية أيام، وعلى إثرها تولىّ رئاستها روك مارك كريتيان كبوري (Rock Marc christian KABORÉ ) بعد انتخابات "ديمقراطيّة" عام 2015م ، وفي حكمه زادت أوضاع الدولة تدهورًا، فقد تدهور الأمن الإنساني بشكل كبير بين عامي 2019و2020م اعتبارًا من أغسطس 2020م كان هناك أكثر من 1.013.000 نازح داخلي، وأغلق أكثر من 2500 مدرسة، مما ترك أكثر من 350.000 طفلا محرومين من التعليم ، وارتفع معدل الفقر والبطالة، ما أدّى إلى فقد الشعب ثقته في الحكومة، وعبّرت عن ذلك خلال تظاهرات عدة، فانقلبت على النظام الحركة الوطنية للحماية والاستعادة (Le Mouvement patriotique pour la protection et la restauration) وكان وقتئذ المقدّم بول هنري سانداغو (Paul henry SANDAOGO ) ؛ لكن حكمه لم يشف غليل الشعب جرّاء عجزه من محاربته الإرهاب توجّهاته السياسيّة من ذلك علاقته بفرنسا التي عبّر الشّعب مرارًا وتكرارًا عن رغبته في انسحابها من البلاد، فانقلب على النظام القائد إبراهيم تراوري (Ibrahim TRAORÉ) من نفس الحركة أي الحركة الوطنيّة للحماية والاستعادة بعد حكم دام ثمانية أشهر و ستة أيام ، ومنذ 30 أيلول/ سبتمبر 2022 إلى يومنا هذا والقائد إبراهيم تراوري هو من يحمل زمام الأمور.
2- تهديد الإرهاب والجماعات المسلّحة:
بالإضافة إلى عدم الاستقرار السياسي ، تشهد الدّولة منذ 2015 تهديدات أمنية خطيرة من قِبل الجماعات الإرهابيّة والمنّظمات الإجراميّة المسلّحة، ووفقًا لآخر تقرير لمؤشّر الإرهاب العالمي لعام 2022م يلاحظ ارتفاع عدد ضحايا الهجمات الارهابيّة في منطقة الساحل بأكثر 200% على مدار ال 15عاما الماضية ، وبوركينا فاسو هي الدّولة الأولى في القارة وثاني أكثر الدّول تضرّرًا في العالم وِفقا لمؤشر الإرهاب العالمي (GTI)2023 حسب تقرير نشره معهد الاقتصاد والسلام IEP وقال التقرير "في أنحاء منطقة الساحل ، قتل 22047 شخصًا في 6408 هجمات إرهابية بين عامي 2007 و2022..
وتحتل بوركينا فاسو المرتبة الثانية في العالم بالنسبة للبلدان الأكثر تضرّرًا في عام 2022 ب 8564 ضحيّة، وللأسف الشديد لاتزال الهجمات متواصلة، وأكثر من يتضرّر منها هم النساء والأولاد الذين لا حول لهم ولا قوّة، فهؤلاء وإن نجوا بأنفسهم فتأمين مستلزمات الحياة يبقى مهمّة شاقّة بالنسبة لهم، ولكم أن تتخيّلوا ما يمكن أن تفعله المرأة -هذا الكائن الفريد من نوعه المنوط بالرحمة الرباّنية- لكي توفّر لأولادها عيشًا كريمًا أو مجرّد لقمة يتبلّغون بها، هذه هي الحياة اليوميّة لآلاف الناّس في بعض أنحاء البلاد.
3- الصراعات العرقية والقبليّة:
بوركينا فاسو كغيرها من الدّول الإفريقيّة تتميّز بتعدّد العرقيات والقبائل ، ففي بوركينا فاسو أكثر من ستّين قبيلة، ولكلّ قبيلة لغتها وثقافتها ، وهذا في حد ذاته ثروة ثقافية واجتماعيّة هامة ، ولكن للأسف عدم الاستغلال الجيد لهذه الميزة في الدّول الافريقيّة حال دون بناء دول وطنيّة قويّة يذوب في صالحها كلّ أشكال الانتماءات، فكثيرًا ما لعبت القوى المحتلّة على هذا الوتر لزعزعة أمن البلاد لتحقيق مصالحها، كما أنّ السياسيين بدورهم وعلى الرغم من أنّهم من أبناء الدّولة إلاّ أنّهم أيضًا يستغلّونها للوصول إلى السلطة تحت قاعدة "فرّق تسد" . هذا ما خلّفته القُوى الاحتلاليّة بعد أن قسّمت الأراضي الافريقيّة وفِق هواها، وما يحقّق لها مصالحها في المنطقة، فبات بناء الشعور بالانتماء إلى الدولة قبل الانتماء إلى القبيلة تحدّيًا كبيرًا.
4- العلاقات الدّوليّة:
تتمتّع بوركينا فاسو بعلاقات وثيقة مع الدول المجاورة لها في منطقة غرب إفريقيا وعلاقاتها بها مستقرّة في العموم. كما تتمتّع بعلاقات اقتصادية وتجاريّة مع الصين، وللولايات المتّحدة حضور ملحوظ في البلاد من خلال منظمات إنسانية مثل منظمة (USAID) L’Agence des états unis pour le développement international "الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدّوليّة"
أما علاقتها مع فرنسا ، فقد شهدت تدهورًا كبيرًا منذ الانقلاب العسكري ،حيث عبّر الشعب عدم رغبته ببقاء القوى الفرنسيّة على أرضها من خلال تظاهرات عدّة طالبين انسحاب فرنسا من أراضي بوركينافاسو التي تستضيف كتيبة من قرابة 400فرد من القوّات الفرنسيّة ، وقد نفّذت السلطة الحاكمة المتمثّلة في سيادة الرئيس إبراهيم تراوري رغبة الشعب، قائلًا أمام مجموعة من المتظاهرين إن" الكفاح من أجل السيادة قد بدأت"، كما طلب الشعب من سفير فرنسا الرّحيل من البلاد، واضعًا بذلك حدًا لنظام القطب الأوحد ، وسيكون للدولة دورًا فعّالا في بناء نظام تعدّد الأقطاب.
II- تأثير التحوّلات الجيوستراتيجية على بوركينا فاسو
للتحوّلات الجيوستراتيجيّة الرّاهنة في بوركينا فاسو تأثيرات سلبية وأخرى إيجابية، وسنركّز هنا على التأثيرات الإيجابيّة خاصّة في ما يتعلّق بسياسة الدّولة الخارجيّة، فإلى أي مدى تطوّرت علاقاتها الدبلوماسيّة؟
إنّ روسيا كغيرها من القوى العالميّة تسعى إلى بناء علاقات قويّة في المنطقة، وبسط نفوذها فيها، وقد انتهزت فرصة تدهور العلاقات الفرنسية بدول المنطقة لتعزيز علاقاتها وتوطيدها، ومن ذلك توطيد علاقاتها مع دولة مالي الشقيقة بعد انسحاب فرنسا بتوقيعها علاقة شراكة مع القوات الروسيّة "فاغنر". وبوركينا فاسو تحذو حذوها إلا أنّها لم توظف القوى الروسية بعد، وهذا ما أكّدته السلطة الحاكمة بعد أن اتّهمها الرئيس الغاني بتوظيف هذه الأخيرة. كما استقبلت وزيرة العلاقات الخارجيّة البوركينابيّة في 8مايو الماضي سفير روسيا في الدّولة، وتحدّثا عن سبل توطيد العلاقات بين الدولتين، وقد عبّرت الوزيرة باستحسان الحكومة وقوف روسيا بجانبها، قائلة:
« La présence de la Fédération de Russie aux côtés du Burkina Faso en ces moments de troubles est fort appréciables ».
"إنّ وجود الاتحاد الروسي إلى جانب بوركينا فاسو في هذه الأوقات العصيبة هو موضع تقدير للغاية".
كما دعا السفير دولة بوركينا فاسو إلى مشاركة القمّة الاقتصاديّة والإنسانيّة الروسيّة الافريقية والمزمع عقده في شهر جوليا المُقبل، وهذا يعني أن العلاقات بين الدولتين ستشهد تطوّرات مهمّة في الأيام القادمة.
2-علاقة بوركينا فاسو والصين.
علاقة الصين ببوركينا فاسو علاقة قديمة تمثّلت في المجال الاقتصادي والتجاري، والبنية التحتيّة ، وهي بدورها تشهد تطوّرات مهمة ، وقد تحدّث عنها رئيس الوزراء البوركينابي خلال زيارته لمقر بناء مستشفى في المدينة الاقتصادية "بوبو جولاسو" يتولّى بناؤها الصينيون، قائلا:
«Ce projet montre ce que nous pouvons faire avec notre partenaire chinois , nous espérons que nos relations vont se renforcer d’avantage »
" يوضّح هذا المشروع ما يمكننا القيام به مع شريكنا الصيني، ونأمل أن تتعزّز علاقتنا أكثر" كما شكر سيادته الموقّرة الحكومة الصينيّة على مساندتها للبلاد في الحرب ضد الإرهاب عبر هبات تتمّثل في المعدّات العسكريّة. وهذا يعني أنّ العلاقات بين الدّولتين تطوّرت وتكاد تشمل كل المجالات.
3-العلاقات البوركينابيّة الإيرانية.
انقطعت العلاقة بين الدّولتين عام 1998، واستؤنفت منذ أن فتحت إيران سفارتها في البلاد في السنة الماضية، وقد أعلنت بوركينا فاسو عن افتتاح سفارتها في تهران في 17مايو من هذا العام، وذلك لتوطيد العلاقة بين الدولتين و بناء شراكات نافعة لكل منهما، واتخذ هذا القرار بعد زيارة رئيس الوزراء البوركينابي السيد أبولينير ديتامبيلا (Apollinaire DE TAMBELA) في 20 كانون الثاني/ جانفي الماضي حيث عبّر عن رغبة بلده في توطيد العلاقات بين الدوليتين في مختلف المجالات ، خاصة في المجال الاقتصادي، والسياسي والصحي.
4-علاقة بوركينا فاسو وفنزويلا.
أدّى رئيس الوزراء للحكومة الانتقاليّة البوركينابية بين 9 إلى 15 مايو الماضي زيارة صداقة وعمل في كاراكاس س بجمهوريّة فنزويلا البوليفاريّة ، وهذه الزيارة هي الأولى منذ عشرة سنوات مضت على زيارة مسئول في الحكومة البوركينابية لفنزويلا ، وقد استقبله فخامة الرئيس الفنزويلي السيد نيكولا مدورو (Nicolas MADURO) وثلّة من كبار الوزراء، وقد تحدّثوا عن إمكانية بناء علاقات متينة بين الدّولتين في المجال الاقتصادي والبيئة والتجارة والزراعة والصحة وفي المجال العلمي، كما عبّر سيادة رئيس الوزراء عن تأسّفه على العقوبات المفروضة على فنزويلا داعيا المجتمع الدّولي الى رفعها ، لأنّها تحول دون تنمية الدّولة الاجتماعيّة والاقتصاديّة. وقد اتّفقت الدولتان على التعاون لاسيما في مجالات الصحّة والزراعة والتعليم والأمن والمناجم والنفط والثقافة والنقل الجوّي والاتصال وفي حقوق الإنسان وفي جميع المجالات الممكنة...
وفيما يتعلّق بالعلاقات الاقتصاديّة اتفقت الدولتان على الحاجة إلى زيادة التبادلات الاقتصاديّة واستكشاف الفرص التجاريّة التي تتيحها الأسواق المعنيّة. وقد وجّه رئيس الوزراء دعوة إلى الحكومة الفنزويلية لزيارة بوركينا فاسو خلال السنة الجارية وذلك لتعزيز العلاقات بين الدّولتين وتوطيدها.
سنكتفي بهذه الأمثلة التي توضح لنا إلى أي مدى أثّرت التحوّلات الجيو- استراتيجية الرّاهنة على سياسة بوركينا فاسو الخارجية، ونستنتج منها أنّ الدولة حاليا تسعى إلى بناء علاقات متينة مع الدّول الأخرى، وذلك بكل حرّية وشفافية، ولم تعد تبني علاقاتها أو تقطعها بدولة أخرى وفق هوى فلان أو فلتان ، ومن ذلك إعادة علاقاتها مع كوريا الشماليّة التي قُطعت رسميا عام 2017، و قد صرّحت وزيرة العلاقات الخارجيّة يوم 23 أيار\ ماي أنّ بوركينا فاسو اليوم بصدد تأكيد سيادتها على الساحة الدّوليّة، كما أنّها لما سُئلت عن طبيعة علاقة بوركينا فاسو بفرنسا والولايات المتحدة في الوقت الراهن، أجابت بأنها عادية وتتمحور حول تأكيد سيادة بوركينا فاسو والتركيز على مصلحة الدولة وشعبها قبل كل شيء.
فلما كانت حرية اختيار المسير ركيزة من ركائز النهضة، وتحقيق الرّقيّ الإنساني وجب النضال والكفاح من أجل الحصول عليها، وكما قال أب الثورة البوركينابية توماس سنكارا:
« L’esclave qui n’est pas capable d’assumer sa révolte ne mérite pas que l’on s’apitoie sur son sort. Seule la lutte libère »
"العبد الذي لا يستطيع تحمّل ثورته لا يستحق أن نشعر بالأسف على مصيره. النضال فقط من يحرر"؛ فالحرّية لا تعطى بل تؤخذ وتنتزع.
الكلمات المسجّلة |
أحيّي الأحبّاء المشاركين في هذه اللقاء الفكريّ بمناسبة الذكرى الستين لليوم العالمي لإفريقيا. أحيّي الأعزّاء في وحدة الدّراسات الإفريقيّة بمركز مسارات للدّراسات الفلسفيّة والإنسانيات في تونس، والرابطة الدوليّة للخبراء والمحلّلين السياسيين. كما أحيّي القائمين على أعمال هذه الندوة والمشاركين فيها والمتحدّثين والحاضرين، وبنوع خاصّ الدّكتور فوزي العلوي الذي تواصل معي هاتفيا حول المشاركة في أعمال هذا اللقاء.
كلمتي أيها الأحبّاء هي كلمة تحيّة من القدس لكم جميعًا يا أيها المشاركون في هذه اللقاء وأنتم تتحدّثون عن إفريقيا وما عانت منه هذه القارة من استعمار واستبداد وممارسات ظالمة. إنّكم تعملون من أجل النّهوض بإفريقيا من حقب كانت مظلمة إلى حقب أفضل وأحسن، وهذا ما نتمنّاه لإفريقيا ولكلّ أقطارها ودولها. نتمنّى لكم الخير والسلام والتوفيق والنجاح في خدمت أوطانكم. عندما تكون إفريقيا قويّة، والدول الإفريقيّة كلّها موحّدة، وبينها تقوم علاقة طيّبة فإنّ ذلك تكون لصالح فلسطين.
إفريقيا تاريخيّا وغالبية دولها- وخاصّة العربيّة منها- وقفت دوما إلى جانب القضية الفلسطينيّة والشعب الفلسطيني المظلوم. أيّها الأحباء، الفلسطينيون هم أكثر الشعوب تفهّما لمعاناة الآخرين. عندما يكون هنالك احتلال أو استعمار، أو استبداد أو ظلم في مكان في هذا العالم، نحن من أكثر الشعوب تفهّما لهذه المعاناة. لأنّنا نعيش - ومنذ عشرات سنين- في ظلّ احتلال واستعمار إقصائي هدفه طمس وجودنا، والنيل من عدالة قضيّتنا. يُسعدني جدّا أن تكون فلسطين حاضرة في ندوتكم وفي مؤتمركم وإن كنتم تتحدّثون عن إفريقيا، ولكنّ فلسطين والقدس بشكل خاصّ هي حاضرة معكم، لأنّها قضيّتكم، لأنّها قضية كافّة الأحرار في عالمنا.
القضية الفلسطينيّة هي ليست قضية الفلسطينية لوحدهم، وإن كانت قضيتم بدرجة أولى، ولكنّها قضيّكم، أنتم يا أبناء إفريقيا الأحرار المناضلين المكافحين الرافضين للاستبداد وللاستعمار والعنصريّة والتمييز العنصري بكافّة أشكاله وألوانه. أنقل إليكم أيها الأحبّة تحيّة فلسطين تحيّة القدس، تحيّة المدينة المقدّسة التي نعتبرها كفلسطينيين عاصمتنا الرّوحيّة والوطنيّة. والمسيحيون والمسلمون في القدس هم شعب واحد يناضل من أجل الحريّة والكرامة واستعادة الحقوق السليبة. والأقصى والقيامة في القدس توأمان لا ينفصلان. الاحتلال والاستعمار سعا دوما إلى تفريقينا، إلى إثارة الفتنة في صفوفنا وبين ظهرانينا. أعداؤنا سعوا دائما إلى تطبيق سياسة "فرّق تسد"، وعملوا عبر أبواقهم وأدواتهم المأجورة على إثارة الفتنة والضغينة والفتن والكراهية في مجتمعنا، ولكنّهم فشلوا في ذلك. فوحدتنا نحن الفلسطينيين هي أقوى من كلّ مخطّطاتهم، ومن كلّ مؤامراتهم، ومن كلّ محاولاتهم لإثارة الفتن في وطننا. نحن موحّدون كما أنّكم أنتم أيضا في إفريقيا تقفون في خندق واحد في مواجهة من يتآمر عليكم، ومن يخطّط للنيل من أصالتكم ومن هويّة بلدانكم وشعوبكم.
أحبّائي، وكما أنّ القدس وفلسطين كلّها حاضرة معكم في هذه الندوة، فأنتم أيضا حاضرون في القدس. نحن في القدس ساكنون بأجسادنا، ومن رحاب كنيسة القيامة التي أخاطبكم منها الآن، أحيّيكم، ونفتخر أنّنا في القدس، ومع كلّ الشعب الفلسطيني في الخطوط الأماميّة دفاعا عن القدس وهويتها العربيّة الفلسطينيّة. نحن في القدس ساكنون، ولكن القدس ساكنة في وجدانكم وفي قلوبكم، وفي أفئدتكم، كما هي ساكنة في وجدان كلّ إنسان حرّ في هذا العالم.
وختاما، تقبّلوا منّي كلّ الاحترام والتّقدير، وأشكركم على إتاحتكم الفرصة لي لكي أخاطبكم من القدس بكلمات بسيطة ومتواضعة، ولكنّها مليئة بالمحيّة وبالاحترام والوفاء والتّقدير تجاه كلّ واحد منكم.
شكرًا لكم، وإن شاء اللّه يكون لقاؤنا في فلسطين هو لقاء الحريّة، لقاء الكرّامة لإفريقيا ولكلّ المشاركين في هذه الذكرى الستّين لليوم العالمي لإفريقيا. ألف تحيّة وتقدير من القدس عاصمة فلسطين...
كلمة د. عبد الحليم فضل اللّه
أوّد في بداية هذه المداخلة أن أتوجّه بالشكر الجزيل إلى الإخوة المنظّمين لهذه الندوة الفكريّة الهامّة بموضوعها وعنوانها ومناسبتها: "الذكرى 60 لليوم العالمي لإفريقيا"، وأيضا لجميع المشاركين والمشاركات. وأهمية هذه الندوة تمكن أنّها تنطلق من كون إفريقيا مدخلا أساسيّا لفهم مستقبل العالم، إذ يجسّد الصراع على إفريقيا صراعا على النظام العالمي الجديد، وبالخصوص بين القوى الصاعدة عالميّا وإقليميّا والقوى المتراجعة عالميّا بسبب المنافسة على الموارد النّادرة والموارد الحيويّة التي تشكّل إفريقيا موضعا أساسيّا لها، خاصّة وأنّ هذه المواد لم تعد تُستعمل لأغراض الإنتاج التقليدي بل للتقنيات الجديدة والتكنولوجيات الدقيقة. ويعتمد الغرب في صراعه هذا على إفريقيا أسلوب الحرب الهجينة والمركّبة التي تتداخل فيها الأساليب السياسيّة والثقافيّة والعسكريّة، محاولا بذلك تخطّي حقائق التّاريخ والجغرافيا والضوابط التّاريخيّة العميقة التي تجمع بين الشعوب والدّول والمجتمعات العالميّة، ولا سيّما تك المتجاورة التي يربطها جذر تاريخــي موحّد، ومصالح ومبادئ مشتركة.
يدافع النظام القديم الآن عن نفسه، ويحاول ان يجدّد صلاحيته من خلال إنتاج المبادئ والركائز والمفاهيم التي قام عليها. ونحن الآن نواجه ثلاثية جديدة هي الاستعمار الجديد، والعنصريّة الجديدة وإلى جانبها خاصّة في هذه المنطقة (منطقة جنوب غرب آسيا) الصهيونية الجديدة.
الاستعمار الجديد لا يعمد إلى استغلال الشعوب بصورة سافرة ومباشرة- كما فعل ذلك طوال قرنين من الزمن- بل خلال القرون الممتدّة في التاريخ منذ عصر العبوديّة الذي استهدفت فيه بدرجة أولى إفريقيا، وأيضا السكان الأصليين في أقاليم وأماكن مختلفة، بما في ذلك أمريكا الشماليّة خصوصا.
يقسّم الاستعمار الجديد العالم الآن والمجتمعات إلى قسمين: القسم الأوّل يشكّل خطرا عليه بمجرّد أنّه دول تبحث عن الاستقلال الاقتصادي والسياسي، وتحقيق السيادة التكنولوجية والطاقاويّة. ولدينا -على سبيل المثال على المستوى الدّولي- الصين. وكان السؤال التي يطرحه الغرب والأدبيات الغربيّة دائما هو لماذا لا يكون صعود الصين سلميّا كأنّهم يقولون: إنّ صعود الصين إذا كان سلميّا بنظر الصين نفسها ينبغي أن لا يكون كذلك بنظر الغرب الذي يرى أي صعود لقوة أو لدولة عالميّة، ولو على المستوى الاقتصادي، وليس العسكري ولا الأمنـي، تهديدا لقيادته، ولاحتكاره لقيادة النظام الدّولي وانفراده به، كما فعل منذ بداية التسعينيات. والمثال الإقليمي يتحدّد في الجمهوريّة الإسلاميّة التي تبحث فقط عن سيادتها الاقتصاديّة وعن استقلالها السياسي، ولذلك استهدفت بأكبر عاصفة وموجة في التّاريخ من العقوبات. ويمكن التذكير في هذا السياق تعرّض إيران وبعض الدّول بالمشرق العربي لأكثر من نصف العقوبات الغربيّة الأمريكيّة. ونتحدّث هنا عن أكثر من 10.000 آلاف عقوبة لمجرّد أنّها تبحث عن استقلالها، وذلك حتى بدايات الحرب الأوكرانيّة لتصبح روسيا مستهدفة أكثر من غيرها، والتي هي المثال الثالث لاستهداف دولة بمجرّد امتلاكها لمدخّرات تسمح لها بالاستقلال، وحضورها البارز على المستوى العسكري.
أما النوع الثاني من الدّول التي يستهدفها الاستعمار هي تلك التي يمنع عليها تحقيق النموّ والتّنميّة والرفاهيّة، لتبقى فقط منجم العالم للموارد الأوّليّة. هذا ما فعلته الولايات المتّحدّة والغرب مع الدّول النفطيّة منذ عام 1925م، حينما حصلت على الموارد النفطية بأبخس الأثمان. وهذا ما يتمّ فعله بإفريقيا، تُمنع من النموّ حتى تبقى فقط مصدر للمواد الأوليّة التي يراد من الاستحواذ عليها كسب السباق نحو النظام العالمي الجديد.
الركن الثاني هو العنصريّة الجديدة. لم تعد العنصريّة تستند إلى نظريات تبرّر التمييز تارة بحسب العرق، وطورا بحسب اللّون أو البيئة الجغرافيّة أو الدّين، إنّما صارت الآن - من خلال حربها الناعمة والممتدّة عبر العالم- تركّز على الانقسامات الثقافيّة وعلى التمييز الثقافي. وتقسّم العالم إلى ثقافات وحضارات متخلّفة وأخرى متطوّرة، وتعجّ هذه الرؤية الحضاريّة الغربيّة بالنظرة الدّونيّة إلى القيم والمبادئ والخيارات القيميّة للحضارات والثقافات الأخرى. وكما فعل الاستشراق والاستعمار القديم عندما عملا على إعادة إنتاج صورة الآخر وصورة الشعوب التي سيطر عليها، فإنّ العنصريّة الجديدة تعيد إنتاج المجتمعات، بل تفكيكها وإعادة تركيبها بما يتوافق ومصالح النظام العالمي القديم. وأجلى مثالا على ذلك ما يسمّى بـ "الهندسة الاجتماعيّة" التي أتى بها المحافظون الجدد، عندما وصلوا إلى السّلطة في الوليات المتّحدّة الأمريكيّة في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، سعوا من خلال هذه الهندسة إلى التلاعب بمركّبات المجتمعات التي يُراد استعمارها والسّيطرة عليها. لذا نرى أنّ اليمين الغربي الجديد حينما يقوم على هذا النّوع من العنصريّة الجديدة التي تميّز بين الشعوب والمجتمعات والحضارات على أساس ثقافي.
أما العنصريّة الجديدة فنراها استكمالا للمسار الاستعماري العنصري الذي بدأ قبل أكثر من قرن من الزمن، ولمسار الحركة الصهيونيّة التي قامت على الإبادة الثقافيّة والهويّاتيّة والبشريّة والماديّة والسياسيّة والجغرافيّة والحضاريّة لأمّة بأكملها، أي الشعب الفلسطيني العربي. وها هي الآن تحاول استكمال هذا المسار من خلال موجة تطبيع جديد الذي يستند إلى مشروع مزعوم كهيكلهم والدّيانة الإبراهيميّة أو المشروع الإبراهيمي، الذي يراد من خلاله- ليس فقط نسيان القضيّة الفلسطينيّة، وتأبيد الهيمنة السياسيّة والاقتصاديّة بالمنطقة، وإنّما إعادة إنتاج هويّة المنطقة بما لا يتناسب مع تاريخها ومع جذورها الضاربة في هذا التّاريخ
إنّ المنطقة المستهدفة من هذا النّظام القديم الذي يعيد إعادة إنتاج نفسه من جديد تضمّ العالم العربي، وآسيا، وشمال إفريقيا وإفريقيا بأكملها وأمريكا الجنوبيّة. لذا فإنّ هذه المنطقة مدعوّة للتضامن فيما بينها ولتتوحّد لمواجهة هذا المشروع العنصري الاستعماري الجديد. وينبغي أن يبدأ هذا التضامن مع إفريقيا التي كانت بداية العصور الاستعماري وتمثّل اليوم بارقة الأمّل للمستقبل. وكلّنا مدرك بما تختزنه هذه القارة من إمكانات بشريّة وماديّة وحضاريّة وثقافيّة تمكّنه من أن تكون جنبا إلى جنب مع باقي شعوب العالم الباحثة عن التحرير والتحرّر. أقول ذلك ونحن في مناسبة تتقاطع مع الذكرى الستّين لإفريقيا وهي عيد المقاومة وتحرير لبنان الذي يجسّد الانتصار الأبرز، وربّما الأوّل في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي الذي مكّن من تحرير أرضي احتلتها الآلة الصهيونيّة الإسرائيليّة، والذي استكمل في عام 2006 بالنصر المبين على الآلة العسكريّة الإسرائيليّة الأمريكيّة التي أرادت من خلال استهداف لبنان، في حرب استمرّت أكثر من شهر، إعادة إنتاج النظام الدولي الجديد من خلال بناء الشّرق الأوسط الجديد. وهذا ما تمكّنت المقاومة في لبنان من إفشاله ومن القضاء عليه، ليدفع المشروع الاستعماري ثمنا باهظا بهذه الهزيمة التي تلقّاها.
كلمة د. عمر بـمبا
أشكر بداية كلّا من فضيلة الدّكتور فوزي العلوي، رئيس مركز مسارات للدّراسات الفلسفيّة والإنسانيات بتونس، والدّكتور موديبو دانيون مدير وحدة الدّراسات الإفريقيّة بالمركز، والدكتور سليمان منغانـي منسّق الوحدة، وكلّ المنتسبين إلى مركز مسارات، وكذلك شريكته الرّابطة الدّوليّة للخبراء والمحلّلين السياسيين على الاهتمام وتنظيم هذه النّدوة الفكريّة الدّوليّة بمناسبة الذكرى الستّين لليوم العالمي لإفريقيا، والتي تأتي استجابة لما تشهده إفريقيا من تحوّلات جيو-استراتيجيّة ومقاومة الاستعمار والعنصريّة والصهيونيّة. وتنحصر مداخلتي حول دور المؤسّسات الدّينية في إفريقيا في مواجهة الاستعمار والعنصريّة.
وإذا ما تحدّثنا عن دور المؤسّسات الدّينية في مواجهة الاستعمار في إفريقيا، فإنّنا نستحضر طبيعيّا دور كلّ من الزيتونة بتونس والقرويين بالمغرب، وسنكوري وجنغربر وسيدي يحي التادلسي بتمبكت التي كانت تضاهي جامعات الغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط، وكذلك المدارس القرآنيّة والكتاتيب وزوايا الطّرق الصوفيّة التي كانت تدار من قبل المجاهدين من زعماء الدّين بالمنطقة، وغالبا ما لا يتمّ الحديث عنهم مثل الحديث عن المجاهدين الكبيرين الشيخ حماه اللّه الذي تمّ نفيه إلى فرنسا، والشيخ محمّد الأمين درامـي. وكلّهم قاموا الاستعمار عسكريّا من خلال الجهاد، وفكريّا عبر المدارس والكتاتيب القرآنيّة.
ومعلوم أنّ الاستعمار في إفريقيا قد خلّف خرابا في كلّ المجالات. فقد حطّم اللّغات المحلّية والإرث الثقافي والحضاري والنظم التعليميّة للأمم المستعمَرة. بالإضافة إلى نهب للثروات الماديّة وتمزيق للمجتمعات، ليخلق منها عالما يسيطر عليه الجهل، والفقر أطلق عليه اسم "العالم الثالث". وممّا زاد الأمر خطورة تولّي نخبة إفريقيّة مواليّة للغرب الحكم فيما بعد زرعها المستعمر قبل المغارة. ناهيك عن فرضه للغته الذي أسهم في تدنّي مستوى النظم التعليميّة الإفريقيّة. لذا، فإنّ شعوب بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، وخاصّة المسلمة منها كانت من أشدّ الشعوب تأثّرا بمخلّفات الاستعمار. الأمر الذي أفرض عليها مقاومة شديدة خوفا من ضياع هويّتها، وذوبان حضارتها، وذلك تزامنا مع تصاعد العدوان والمؤامرات الاستعماريّة، وفي ظلّ الهجوم الجائر ضدّ كلّ ما يؤسّس للوحدة الإسلاميّة والرّابطة العالميّة اللغويّة بين الشعوب المسلمة في جميع أنحاء العالم الإسلامـي.
فقد كانت المؤسسّات التعليميّة في إفريقيا في ظلّ الاستعمار حاجزا متينا أمام محاولات مسخ هويّة الأمّة ودينها ولغتها كي لا تصبح فريسة للقوى الاستعماريّة والدوائر التّابعة لها. مما يعنّي أنّ المدارس القرآنيّة في إفريقيا اضطلعت بدور عظيم في مواجهة المدّ الاستعماري من أجل الحفاظ على هوية الشعوب الإفريقية والإسلاميّة عموما في كلّ الأصقاع. بل يمكن القول إنّ تلك الكتاتيب القرآنيّة تمكّنت -من خلال فرض لغتها- أن تمثّل تحدّيا حقيقيّا للممانعة ضدّ الاستعمار الفرنسي الثقافي والدّيني واللغويّ، ومواجهة لغته وعنصريته. والمستعمر نفسه كان يعي جيّدًا هذه الحقيقة، ويدرك مدى تجذّر هذا النوع من التعليم في عمق المجتمع رغم كلّ الظروف الصعبة التي كانت تمرّ بها المجتمعات الإفريقيّة آنذاك، كما يشير إلى ذلك بعض المسؤولين والمشرفين على المدارس القرآنيّة في إفريقيا الغربيّة الفرنسيّة خلال تلك الفترة في كلّ من مدينة جِنّى بمالي وكانكا في غينيا..
هذا الدّور الذي اضطلعت به المدارس القرآنيّة خلال الحقبة الاستعماريّة يمكن اعتباره أنموذجا يُقتدى به في نشر التّعليم والدّين الإسلامـي، وفي مواجهة المدّ التغريبي الاستعماري والعنصري الذي كان في أوّجه وقوّته، ليس فقط في إفريقيا جنوب الصحراء بل في العالم الإسلامي عموما، ولا يزال هذا الدّور متواصلا إلى اليوم من خلال تعميم اللّغة العربيّة، وخاصّة لدى الناشئة قبل التحاقهم بالمدارس النموذجيّة أو الحكوميّة، وكذلك من خلال برامج تعليم الكبار ومحو الأميّة...
والسؤال المطروح اليوم هو هل المسلمون الأفارقة وغيرهم واعون حقّا بالدّور التّاريخي الذي قامت بها هذه المؤسسات في حماية اللغة والهويّة العربيتين بالقارّة؟ وما هي المساعي والجهود الممكنة التي يجب اتّخاذها للمحافظة على هذا الدّور؟ خاصّة في ظلّ تواصل هجمات التغريب والتهويد ضدّ القارّة السمراء، ومن بينها البحث عن جذور يهوديّة لأفارقة في بعض البلدان الإفريقيّة، ومحاولة إيجاد روابط عرقيّة وثقافيّة بينهم وبين اليهود، ليتمّ ترحيلهم فيما بعد إلى "إسرائيل" تطبيقا لسياستها الاستيطانيّة التي تنتهجها منذ تأسيسها.
نشكر مجدّدا كلّ منظّمي هذا اليوم العالمي لإفريقيا التي ستظلّ مقاومة لكلّ القوى الاستعماريّة التي لا تزال تواصل سيطرتها على القارة سياسيّا وثقافيّا وفكريّا بل ودينيّا من خلال سيطرتها على المؤسسات الدّينية.
كلمة مونغان والي سيروتي
إنّ من البديهي عندما نتحدث عن القارة الإفريقية تأكيد العنصرية والإمبريالية والاستعمار القديم والحديث، لأنّ وجود مثل هذه الأساليب هو للهيمنة على كلّ مقوّمات هذه الدول وقوّتها، واستغلال لكلّ مقدّراتها، ومن حقّها في الوجود بين الدول كدول قائمة الذات. لذلك، يجب على إفريقيا أن تنظر نحو مستقبلها نظرة سيادية قوامها التعويل على الذات. وهناك أمثلة حيّة في الاعتماد على الذات ممثّلا في كلّ من كوبا والاتّحاد السوفياتي سابقا، واللذين يملكان خبرة في هذا المخال، حيث عانا كثيرًا من الضغوطات والظلم والاستعمار الذي طال أمده.
وهنا، يجب الإشارة إلى أن ّالدول الإفريقية التي تتقاسم نفس المآلات يبدو في الظاهر أنّها ذات سيادة، وتملك حرية اختيار شركائها. لكنها في الواقع بخلاف ذلك تمام، حيث أنها تعيش ضغوطات سياسية قوية من طرف الغرب. والسؤال هنا: ماذا يتوجب على دول إفريقيا أن تفعله؟
يبدو أن الجواب على شكل سؤال آخر: كيف لهذه الدول التحرر من سائر القيود المفروضة عليها عبر التركيز على تجارب دول مثل روسيا وكوبا كيف قاومت الاستعمار، وهيمنة الغرب، والاقتداء بهما حتى تصبح دولا حرة وذات سيادة؟
هنا، يجب البحث عن شركاء جدد، والتخلص من عنصرية الدول الغربية وهيمنتها، وإرساء شراكة جديدة تجعل من الدول الإفريقية على قدم المساواة مع بقية دول العالم، ومقاومة الغرب تخت قيادة الولايات المتحدة الأميركية. نحن في مواجهة هذا التحدي الغاشم، وأخذ الدروس منه لمواصلة بناء دول إفريقية ذات سيادة حقيقية، واقتصاد لا يخضع لأي إكراه وضغوط حتى تكون 54 دولة إفريقية حرة. وعلى إفريقيا البحث عن وسيلة للتخلص من هيمنة الدولار الأمريكي، وتحرير العملات الإفريقية حتى تصبح عملات قوية معتمدة على ثرواتها الذاتية.
ختامًا، يجب النظر إلى شركاء جدد لإفريقيا مثل الصين، وتحويل الوجهة إلى دول البريكس مثل البرازيل.
وإضافة إلى هذه الكلمات، استقبلت الندوة عددا من برقبات الشّكر والتّقدير، أبرزها برقبة مؤسّسة ميراندا الدّولي للدّراسات الاستراتيجيّة بكاراكاس- فنزويلا. وفيما يلي نصّ البرقية:
برقية مؤسّسة ميراندا الدّولي للدّراسات الاستراتيجيّة في كاراكاس- فنزويلا
إنّه لمن دواعي سروري أن أخاطبكم، نيابة عن جميع الموظّفين الذين يعملون في مركز ميراندا الدّولي (CIM) ، لأرسل إليكم تحية أخوية بوليفارية، ومناهضة للإمبريالية وشافيزية بشدّة.
يتشرّف مركز ميراندا الدولي ويسعده أن يشكر مركز مسارات للدراسات الفلسفية والإنسانيات بالجمهورية التونسية، والرابطة الدّوليّة للخبراء والمحلّلين السياسيين بتنظيمهما المشترك للندوة الدّوليّة: "التحوّلات الجيو-استراتيجيّة في إفريقيّا: ومقاومة الاستعمار والعنصريّة والصهيونيّة".
يحتفل مركز ميراندا الدّولي بهذا النشاط عبر مشاركة سفارة جمهورية فنزويلا البوليفارية في تونس، ويمثّل ذلك حافزًا للتّفكير ودراسة الجوانب التي تميّز البحث الضروري حول الأفكار والحركات والقوى السياسية والاجتماعية والثقافية الممثّلة لإفريقيا ولتوقعاتها المستقبلية.
وإنّني إذ أشكركم على وقتكم واهتمامكم المطلق، فإنّي أرجو منكم أن تتقبلّوا سيدي أطيب تحيّاتي.