كان يوما من ايام كانون الاول اواخر الثمانينات وكان الاتحاد السوفياتي ما زال موجودا والبلاد موحدة انما رياح الغرب الرمادية الملوثة كانت تلوح من وراء الافق وتعصف ببعض جوانب الامبراطورية التي نخرها السوس. في ذلك اليوم المشهود كانت الحافلة تسير بنا بهدوء في رحلة بين رحاب روسيا البيضاء الى قرية وادعة غارقة في غابات تلفها من كل الجهات، هذه القرية هي خاتين. وصلنا هناك ولم نجد بيوتا ولا سكانا كان هناك صمتا قويا لا يخرقه سوى صوت جرس يدق كل برهة دقات حزينة تخرق الروح لما فيها من آلم وعذاب، يضاف اليها ارتعاش الجسد من شدة الصقيع والجليد المحيط بروعة المكان والذي يزيده روعة ليس بعدها روعة، وسكون عميق يخرقه صوت نقار الخشب الاتي من الغابات ما يضفي على المكان جمالية آخاذة. وبين الواقع والتاريخ تعود بك الايام الى سنين الحرب العالمية الثانية واجتياح الهتلريين لهذه القرية البيلاروسية، وانت غارق في افكارك ورهبة هذا الصمت، تظهر امامك فجأة قبة الجرس وتمثال كبير لرجل يحمل طفلا بين يديه.
في هذه القرية نفذ النازيون مجزرة رهيبة اذ جمعوا ابناءها داخل حظيرة كبيرة (سراي) وألقوا عليهم البنزين واحرقوهم وهم احياء، ومن حاول الخروج منهم كان النازيون المحيطين بالسراي بانتظاره من كل الجهات يطلقون عليه صليات من اسلحتهم الرشاشة ويسقطوه صريعا في مشهد سوريالي حزين. أسفرت المجزرة عن استشهاد 149 قرويًا، بينهم 75 طفلاً دون سن الـ 16 عامًا، تمكنت فتاتان (ماريا فيودروفيتش ويوليا كليموفيتش) من الخروج بأعجوبة من الحظيرة المحترقة والزحف إلى الغابة، حيث احتضنهما سكان قرية خفوروستيني المجاورة التي احرقت فيما بعد من قبل الغزاة وماتت الفتاتان، وتم تدمير هذه القرية ايضا بالكامل.
من الأطفال الذين كانوا في الحظيرة، نجا فيكتور زيلوبكوفيتش البالغ من العمر سبع سنوات كان قد اختبأ تحت جثة والدته التي غطت ابنها بنفسها؛ كان الطفل المصاب في ذراعه يرقد تحت جثة أمه حتى غادر الجلادين القرية وبقي شاهدا حيا على المجزرة النازية الى ان وافته المنية منذ زمن غير بعيد في العام 2020.
من سكان القرية البالغين، نجا ايضا رجل واحد هو حداد القرية يوسف كامينسكي 56 عامًا بعد تعرضه للحروق والجروح، استعاد وعيه في ساعة متأخرة من الليل بعد ان غادرت الفصائل العقابية النازية القرية. كان عليه أن يتحمل ضربة قوية أخرى اذ وجد ابنه آدم ينازع فسارع لحمله لكنه أسلم الروح بين ذراعي والده. هذا النصب المرتفع في المجمّع التذكاري وسط هذه الغابة هو ليوسف كامينسكي مع ابنه آدم. في تلك الفترة قيل لنا ان النازيين القتلة كانوا من الغزاة الهتلرين الالمان، كان ذلك في العام 1943.
تمر السنوات ويحدث انقلابا برعاية غربية - اسرائيلية في اوكرانيا العام 2014 بقيادة ميدانية مباشرة من فيكتوريا نولاند (اليوم هي مساعدة وزير الخارجية الاميركي) وللمفارقة تتكرر مجزرة خاتين في منطقة اخرى، هذه المرة في مدينة اوديسا لؤلؤة البحر الاسود حيث يحاصر الانقلابيون من المتطرفين الأوكران من مجموعات OUN-UPA احفاد النازي الاوكراني بانديرا عددا من المواطنين المسالمين المعارضين للانقلاب من نساء واطفال وشيوخ في دار النقابات وسط المدينة ويحرقونهم احياء، ومن حاول الهرب كانت هذه الجماعات النازية تطلق عليه النار او تدق عنقه بالات حادة امام انظار الشرطة، فتم احراق 42 شخصا حتى الموت فيما استطاع 250 اخرين النجاة مع اصابات بالغة وحروق من الدرجة الثالثة، والى الان لم تلق محاكم النظام النازي في كييف القبض على اي من المجرمين المنفذين المعروفين بالأسماء وبالصور.
وفي البحث في الارشيف وجدنا ان التحريض النازي لم ينته مع القضاء على هتلر واعوانه، اذ وجد له في اوكرانيا انصارا بقيادة بانديرا وساهم بهذا الامر مرسوم صدر بطلب من نيكيتا خروتشييف العام 1947 بالغاء عقوبة الاعدام عمن ارتكب أعمال الإبادة الجماعية وجرائم الحرب الجسيمة بشكل خاص خلال الحرب الوطنية العظمى وفي فترة ما بعد الحرب، فساعد هذا المرسوم عشرات الآف المواطنين السوفيات المتواطئين مع النازيين على التهرب من العقاب والتخفي لاعادة الظهور فيما بعد. في ايلول العام 1955 جرى الافراج عن المواطنين السوفيات المتواطئين مع النازيين والذي خدموا في الجيش الألماني والشرطة والتشكيلات الألمانية الخاصة من أماكن الاحتجاز وحُرروا من اجراءات العقوبات الأخرى. علاوة على ذلك، لم يتم العفو عنهم فحسب، بل تم تنظيف سجلاتهم الجنائية وهذا الامر ساعدهم على العودة كمواطنين كاملي الحقوق للتغلغل في الهيئات السوفياتية والحزبية وأصبحوا كقنبلة موقوتة انفجرت فيما بعد في التسعينات في الفضاء السوفياتي. هم لم يكونوا فقط من الاوكران، بل من كل الاثنيات الاخرى وخاصة البلطيقية. في اوكرانيا وحدها بقي منهم على قيد الحياة 130 الفا.
وبالعودة الى قرية خاتين اكتشفنا في الوثائق ان من بين 300 جلاد من جلادي خاتين النازيين الذين نفذوا المجزرة في 22 اذار العام 1943، كان هناك 100 فقط من الألمان النازيين، و 200 من المتطرفين الأوكران من منظمة OUN-UPA بقيادة غيورغي فاسيورو، الذين كانوا جزءًا من لواء شرطة Schutzmannschaft جنبا إلى جنب مع النازيين، وهم دمروا أكثر من 600 قرية في بيلاروسيا وحدها مع سكانها. حينها لم يتم الكشف عن هذه الحقيقة بطلب من الامين العام للحزب الشيوعي الاوكراني شيربيتسكي معللا طلبه بعدم إفساد الصداقة بين الشعوب الشقيقة، وقُبل طلبه. في الواقع فإن التستر على مشاركة النازيين الاوكران في المذابح التي استهدفت مواطنيهم حمت من ناحية الترابط والصداقة بين الشعوب وابعدت اعمال الثأر، ومن ناحية أخرى ساهمت في نمو النازية الجديدة في أوكرانيا.
لقد أنشأ النازيون الأوكران خلال الحرب الوطنية العظمى، دور طباعة حيث تمت طباعة صحفهم وكتيباتهم ونداءاتهم إلى السكان لمحاربة السلطة السوفياتية. في العهد السوفياتي اشتكى عدد من القوميين الاوكران من الهيمنة الثقافية الروسية، لكن في الحقيقة وعلى سبيل المثال في مدينة خاركوف ثاني أكبر المدن الاوكرانية من بين خمس صحف إقليمية كان هناك واحدة فقط باللغة الروسية، وكان البث التلفزيوني والإذاعي المحلي يتحدث الأوكرانية بالكامل، هذا في مدينة تعتبر واقعيا روسية! لم يكن هناك سوى مجلة أدبية روسية واحدة في جميع أنحاء أوكرانيا "قوس قزح"، وتم إحباط جميع المحاولات لإنشاء شيء آخر في مهدها. لذا فإن التعدي على اللغة الروسية والمواطنين الناطقين بالروسية لم يبدأ في عهد بوروشنكو، بل قبل ذلك بكثير.
خلال سنوات البيريسترويكا، كثف المتطرفون الاوكران من نشاطهم، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي خرج النازيون الى العلن وبدأت المنظمات الفاشية والنازية باعادة تنظيم نفسها بدعم مباشر وكلي من الغرب وكل ما تظهره الدول الاوروبية من عدم ملاحظة النازية في اوكرانيا هو مزيف، فهي من شجّع وموّل وساعد الى ان خرجت النازية بابشع حللها بعد الانقلاب العام 2014 وراحت هذه الجمعيات تنظم مسيرات المشاعل على الطراز النازي وتحمل اعلامهم وتمجد النازية وتبني لمجرميها النصب، ولا سيما لبانديرا وشوخيفيتش المدانان بجرائم ابادات جماعية بحق مواطنيهما ومواطني الدول المجاورة وهما من تعاون مع النازيين واقسما يمين الولاء لهم. كما قام النازيون الجدد بتدمير نصب القادة العسكريين والسياسيين السوفيات الذين حرروا اوكرانيا واوروبا من نير العبودية النازية.
هذه النازية الجديدة التي تقود الشعب الى الهلاك وترمي بشبابه في اتون النار والحرب حاليا لان الصهيونية العالمية والغرب المتوحش قررا ان على هذه الدولة ان تخرج من تاريخها ومن جغرافيتها وتقاليدها وشعبها وعاداتها وهذا شيء من رابع المستحيلات، ما الحق بالبلاد والعباد كوارث سيصعب الخروج منها. وسيحل اليوم الذي سيتعين فيه على كل أعضاء المنظمات والجماعات النازية الجديدة والقديمة، الوقوف امام القانون وتحمل المسؤوليات عما اقترفت ايديهم وسيكون هناك استئصال وحظر للروايات النازية الاجرامية وتمجيد النازيين في البرامج السياسية وفي أنشطة الدولة ووكالات إنفاذ القانون، ومن المناهج التعليمية ووسائل الإعلام. بالطبع سيتم ايضا حظر أنشطة المنظمات النازية الجديدة وستتم مصادرة ممتلكاتهم وأصولهم المالية، وسيمنع الأشخاص ذوي المواقف المتطرفة أو المدانين بجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب من تولي المناصب الحكومية والقيادية وسيعاقبون على جرائمهم، ولكن هذه المرة لن يتكرر خطأ العام 1947 والأهم من ذلك، أن نزع النازية سيكون مكرسًا الى الابد في الدستور الأوكراني.