• اخر تحديث : 2024-04-29 01:16

نشرت وكالة أنباء الصين الجديدة “شينخوا”، في الرابع من يونيو مقالاً تحت عنوان “رحلة معاناة المراسلين الصينيين في سبيل الحصول على الفيزا في الهند”. وقد كتب هذا المقالَ “هو شيومينج” رئيس مكتب الوكالة في نيودلهي منذ عام 2017؛ لتسليط الضوء على التحديات الكبيرة التي يواجها الصحفيون الصينيون في نيودلهي؛ حيث أصبح من المستحيل على الكثير منهم تجديد تأشيرات الإقامة والاستمرار في البقاء على رأس عملهم في الهند. ويأتي هذا المقال عقب نشر عدد من المنصات الصحفية أخباراً تفيد برفض الهند منح تأشيرة الإقامة لآخِر صحفيَّين صينيَّين يعملان لصالح المنصات الإعلامية الحكومية الصينية خلال شهر يونيو. وفي حين وصفت وزارة الخارجية الصينية القرار الهندي بالسلوك التمييزي غير المقبول، أعادت عدد من الصحف والمنصات الإعلامية الهندية تناوُل القضية من منظور صانع القرار الهندي، مؤكدةً أن الهند لم تتخذ القرار لتقييد عمل الصحافة، وإنما هو جاء ردَّ فعل على اتخاذ الصين إجراءات مماثلة ضد الصحفيين الهنود في وقت سابق. ويطرح هذا التطور الأخير في العلاقات الهندية–الصينية العديد من التساؤلات حول مستقبل هذه العلاقات وتأثيرها على الاستقرار في منطقة ما وراء المحيطَين الهندي والهادئ.

خلفيات التوتر

سلَّطت العديد من الصحف الأجنبية والمحلية الضوء على قضية الصحفيين الهنود والصينيين لدى الجانبين، وفي حين اعتبرها البعض حلقةً جديدةً تُضَاف إلى سلسلة الأزمات المطردة والمتواصلة بين نيودلهي وبكين، اعتبرها البعض الآخر مستوى جديداً من التصعيد يُنذِر بمزيد من التدهور في العلاقة بين القوتَين الآسيويتين، وهو ما ينذر باقتراب وتصاعد حدة حالة عدم الاستقرار في القارة الآسيوية. وعليه يمكن تناول ملامح التوتر بين الدولتين على النحو التالي:

1رفض الهند تجديد تأشيرات الصحفيين الصينيين: بدأت وسائل الإعلام الصينية تُسلِّط الضوء على ما سمَّته تعنُّت السلطات الهندية في التعاطي مع الصحفيين الصينيين المقيمين على أراضيها منذ أوائل شهر يونيو. وعلى سبيل المثال، قال “هو شيومينج” رئيس مكتب وكالة “شينخوا” القائم في نيودلهي منذ عام 2017، في أحد مقالاته المنشورة عبر الوكالة، إن الحكومة الهندية رفضت تجديد تأشيرته في مارس، تحت دعوى أنه قد بقي في البلاد لفترة طويلة جدّاً، مضيفاً أن “المعاملة الوحشية للحكومة الهندية فرضت ضغوطاً نفسيةً هائلة على الصحفيين الصينيين في الهند”، كما أكد أن فرع نيودلهي الحالي في شينخوا “لديه الآن صحفي واحد فقط، يعمل بتأشيرة صالحة داخل البلاد، مع تأكيد أنه في حالة استمرار الحكومة الهندية في تبني مثل هذه السياسات، سينتهي”.

ومن جانبها، لم تَرُد الهند رسميّاً على هذه الاتهامات الصينية؛ إذ رفض متحدث باسم وزارة الخارجية الهندية، في السادس عشر من يونيو، التعليق على عدد الصحفيين الصينيين في البلاد عندما سُئل في إفادة منتظمة حول هذه القضية.

2تصعيد صيني تجاه الصحفيين الهنود: أمرت الصين، وفقاً للتقارير، آخِر صحفي هندي الذي كان يعمل لدى وكالة “برس ترست” الهندية، بمغادرة البلاد؛ وذلك رداً على طرد نيودلهي صحفيين صينيين يعملون هناك. وبهذه الخطوة محت الصين أي وجود إعلامي لها في الهند؛ ما يُقلِّل بقدر أكبر من قنوات الاتصال المتوافرة بالفعل بين البلدين.

3تباين التعاطي الإعلامي مع الواقعة: اختلفت التحليلات الصحفية في تتبعها لمسار أزمة الصحفيين لدى البلدين، وتحديد هوية الدولة التي بدأت تتبع سياسات متشددة تضعف من إمكانية استمرار ممارسة الصحفيين الأجانب أنشطتهم عبر أراضيها؛ فعلى سبيل المثال، أكدت “سي إن إن”، في تقرير موسع، أن الصين هي من اعتمد مثل هذه السياسة في تعاطيها مع الصحفيين الأجانب؛ حيث تمتلك بكين سجلّاً سيئاً عندما يتعلق الأمر بالسماح للصحفيين الأجانب بالوجود والعمل بحرية عبر أراضيها. يُضاف إلى ذلك، قيامها في عدد من الحالات بطرد صحفيين أمريكيين وأوروبيين للرد على أي عقوبات أو سياسات غربية وأمريكية غير محبذة تجاهها. في الوقت نفسه، رفضت الصحافة الصينية هذه الرواية، وأكدت أن الهند خلال السنوات الأخيرة تبنَّت سياسات تقوم على التضييق على كل ما هو صيني، بما في ذلك التطبيقات التكنولوجية والصحفيون العاملون على الأرض.

4استكمال حلقة التوترات الصينية–الهندية: يُذكَر أن العلاقات بين الهند والصين تعاني من حالة من التوتر الدائم؛ وذلك على خلفية وجود بعض الخلافات الحدودية فيما بين البلدين؛ فقد شهدت المنطقة الحدودية بينهما، وتحديداً في شهر ديسمبر لعام 2022، اشتباكات يُنظَر إليها باعتبارها الأسوأ منذ أعوام؛ حيث أودت بحياة عشرين جنديّاً هنديّاً وأربعة جنود صينيين على الأقل. ومنذ ذلك الحين، يعمل الجيشان على زيادة قوتهما العسكرية، وفرض سيطرتهما على الحدود، ولم يُظهِرا أيَّ مؤشرات للتراجع؛ ما يجعل الوضع متوتراً حتى يومنا هذا.

الجدير بالذكر أن وزير الخارجية الصيني السابق “وانج يي” أجرى جولة في دول جنوب شرق آسيا، شملت باكستان والهند ونيبال خلال مارس 2022. وقد تضمنت جولته زيارة مفاجئة إلى الهند، وهي أول زيارة يجريها مسؤول صيني رفيع المستوى إلى الهند عقب المناوشات الحدودية التي جرت عام 2020. وعلى الرغم من هذه الزيارة، لم تشهد العلاقات الصينية–الهندية تحسناً ملحوظاً، كما علَّق وزير الخارجية الهندي “سوبرامنيام جايشانكار” على الزيارة بالقول إن العلاقات بين الهند والصين مرهونة بالوضع على الحدود بين البلدين، مؤكداً أن العلاقات لم تَعُد إلى طبيعتها المعتادة، وأن الجيش الصيني يجب أن يتراجع ويعود إلى الخطوط المحدد لها مسبقاً على الحدود الهندية–الصينية، حتى تعود العلاقات بين بكين ونيودلهي إلى طبيعتها التي كانت عليها قُبيل عام 2020. وقد أشارت عدد من التقارير الإعلامية الهندية إلى أن وزير الخارجية الصيني آنذاك “وانج يي”، قد أبدى رغبته في لقاء رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي”، إلا أن نيودلهي قد رفضت طلبه، وانتهت زيارته بمقابلة وزير الخارجية الهندي، ومستشار الأمن القومي “أجيت دوفال”.

وقد عاد وزير الخارجية المعين حديثاً “تشين جانج” إلى زيارة الهند للمشاركة في أعمال قمة العشرين على مستوى وزراء الخارجية، وهي القمة التي استضافتها العاصمة الهندية نيودلهي في فبراير 2023، إلا أن هذه الزيارة لم تُفْضِ إلى إجراء محادثات رفيعة المستوى مع المسؤولين الهنود.

تبعات محتملة

تعتبر عملية طرد الصحفيين تطوراً هاماً يثير مخاوف بشأن حرية الصحافة، والقدرة على الكتابة بموضوعية حول القضايا الهامة القائمة في كلٍّ من الصين والهند. ومع غياب وجود الصحفيين في البلدين، سيكون تدفق المعلومات بينهما محدوداً للغاية؛ ما يعوق وصول الجمهور إلى وجهات النظر المتنوعة والتقارير المتوازنة حول المسائل ذات الاهتمام المشترك. إلا أن تبعات مثل هذه التحركات، لن تقتصر على الشق الإعلامي والصحفي، بل تمتد لتُسلِّط الضوء على عدد من التطورات التي شهدتها الساحة السياسية فيما بين الدولتين، والتي تؤكد حالة التراجع في العلاقات بين أكبر قوتين في آسيا. وبوجه عام، يمكن أن تفضي الأزمة الراهنة إلى عدد من التداعيات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1تراجع الهند عن خططها لاستضافة أعمال قمة شنجهاي: قررت الهند أن تستضيف أعمال قمة شنجهاي للتعاون (SCO) عبر تقنية الفيديو كونفرانس خلال 4 يوليو 2023. وقد كان القرار بمنزلة مفاجأة للكثيرين؛ حيث كان من المتوقع أن يحضر قادة جميع دول منظمة شنجهاي للتعاون القمة فعلياً في نيودلهي، على غرار اجتماع وزراء خارجية منظمة شنجهاي للتعاون الذي عُقد في مدينة جوا الهندية في وقت سابق من هذا الشهر. ويرى المحليون أن القرار الهندي جاء لتفادي استضافة كل من الرئيس الروسي والصيني والباكستاني على أراضيها، والاضطرار إلى تبرير هذه الخطوة للدول الغربية؛ هذا بالإضافة إلى استمرار سيطرة التوتر على علاقتها ببكين التي تعد من أبرز الداعمين لاستمرارية وفاعلية عمل منظمة شنجهاي عبر أراضيها.

2استمرار خطوط التواصل بين بكين ونيودلهي: بالرغم من التوترات الأخيرة بين الدولتين، ناقشت الصين والهند، يوم 14 يونيو الجاري، انسحاب القوات الهندية والصينية من بؤر التوتر في جبال الهيمالايا بصورة متبادلة، كما تم الاتفاق على عقد اجتماع مرة أخرى بين الطرفين للاتفاق على مزيد من سبل وسياسات التهدئة. وقالت الهند إن الجيشين اتفقا على إجراء محادثات جديدة من أجل “استعادة السلام والهدوء في المناطق الحدودية”، وأضافت أن “استعادة السلام والهدوء ستخلق ظروفاً لتطبيع العلاقات الثنائية”.

3تراجع الاستقرار في المنطقة: ويأتي التحدي الأكبر في صعوبة الحفاظ على حالة الاستقرار في القارة الآسيوية، خاصةً مع تصاعد التوترات بين الهند والصين والاضطراب السياسي والاقتصادي في باكستان، وعودة المنافسة بين القوى العظمى. وبالرغم من أنه لا يزال من غير المرجح أن يصل حدة التصعيد إلى العتبة النووية، فإن بكين وعدداً من الدول الأخرى تُظهِر اهتماماً متصاعداً بحشد وتعبئة وتوسعة حجم ترسانتها النووية؛ فخلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي، صرَّح الرئيس الصيني “شي جين بينج” بأن بلاده بحاجة إلى بناء نظام ردع استراتيجي قوي؛ ما يشير إلى رؤية بكين السلبية المتزايدة تجاه البيئة الدولية. ويقترن هذا التصور للتهديد بترسانة بكين النووية الموسعة، والاستثمارات في أنظمة الاتصال المتقدمة، وهو ما قد يُغذِّي أيضاً رغبة نيودلهي لزيادة قدراتها النووية، مع تزايد مستويات عدم الثقة المتبادلة بين الدولتين.

4تداخل واشنطن في مشهد التوترات الهندية الصينية: ومع تصاعد التوترات بين بكين ونيودلهي، عملت الهند على تعزيز شراكتها الاستراتيجية مع واشنطن والدول القائمة في منطقة ما وراء المحيطَين الهندي والهادئ. وسيؤثر ذلك – بلا شك – في خيارات السياسات الخارجية للحكومة الهندية؛ ما يُضفِي تحديات جديدة للنزاعات الحدودية بين البلدين في المستقبل. ويشير الخبراء والمحللون المهتمون بالعلاقات الهندية–الصينية–الأمريكية إلى أن الولايات المتحدة تمتلك بعض الفرص لإدارة السياسة الحازمة من جانب نيودلهي والإدارة المتعنتة في بكين؛ إذ يمكن لواشنطن معارضة المحاولات الأحادية من قبل أيٍّ من الجانبين تغيير الوضع الإقليمي الراهن، فضلاً عن دعم جهود الهند الخاصة نحو خفض التصعيد، وهذا من شأنه أن يساهم في بناء الثقة والمصداقية في الشراكة بين الولايات المتحدة والهند.

كما يمكن للولايات المتحدة أيضاً أن تعزز تنسيقها الأمني والاستخباراتي مع نيودلهي، من خلال المراجعات الاستخباراتية المشتركة، والمتابعة الثنائية المشتركة لأنشطة ونوايا جيش التحرير الشعبي على طول الحدود. مثل هذا الإجراء من جانب واشنطن من شأنه أن يدعم بشكل استباقي وحازم محنة نيودلهي دون تأجيج نيران الصراع أو الخلط بين القضية والتوترات المستمرة في علاقتها مع الصين.

خلاصة القول أن التوترات الأخيرة بين الصين والهند تعكس سياقاً طويلاً من التأزم الموروث بين الدولتَين، ومع ذلك فإن من المتوقع أن تستمر المحادثات والمناقشات بين الصين والهند لمنع الانجراف إلى مضمار المواجهة العسكرية المباشرة مرةً أخرى فيما بينهما، إلا أنه من غير المرجح في الوقت ذاته أن تتوصل الدولتان إلى تسوية تساهم في إنهاء حالة التوتر والنزاعات الثنائية المشتركة فيما بينهما على نطاق واسع، وهو ما يزيد الضرورة الملحة لتدخلات جذرية تساهم في منع تصاعد إطار التوتر في المنطقة ككل.