• اخر تحديث : 2024-04-29 01:16
news-details
قراءات

مع اتساع المجال البحري لأفريقيا الذي يعد بمثابة شريان الحياة للاقتصادات الأفريقية، ومصدر أساس لثنائية الأمن الغذائي والتنمية في القارة الأفريقية، وفي ضوء اعتمادها -وهي الغنية بالموارد والثروات الطبيعية- في أكثر من 90 % من تجارتها مع العالم الخارجي على البحر، إلا أن الأمن البحري الأفريقي يواجه خلال السنوات الأخيرة جملة من التحديات الأمنية واسعة النطاق؛ بحيث أضحى أحد مهددات الأمن الإقليمي في القارة، لا سيما أن العقد الماضي قد شهد سلسلة متتالية من التهديدات الأمنية والجرائم البحرية على طول السواحل الأفريقية البالغ نحو 48 ألف كيلومتر تقريبًا، والتي كان لها تأثيراتها على أمن واستقرار الدول الأفريقية، وإن كانت بعض التقارير الغربية تشير إلى تحسن تدريجي في مواجهة هذه التهديدات ببعض المناطق الأفريقية خلال السنوات الأخيرة.

ومع ذلك، تتزايد المخاوف من تفاقم مهددات الأمن البحري في أفريقيا جنوب الصحراء في ضوء الإخفاق في معالجة عوامل ومسببات تصاعد تلك التهديدات خلال الفترة الأخيرة. وهو ما يعزز حالة عدم الاستقرار الأمني في الدول الأفريقية، ويمثل ذريعة قوية للقوى الدولية الطامحة في إيجاد مدخل للانخراط في القارة؛ لتحقيق أهدافها الخاصة على حساب مصالح وثروات القارة الأفريقية، وهو ما يستدعي مناقشة هذه المقالة لأبرز مهددات الأمن البحري في أفريقيا جنوب الصحراء، والعوامل التي تسهم في تنامي تهديدات الأمن البحري في القارة الأفريقية، بالإضافة إلى تناول التداعيات المحتملة لتصاعد مهددات الأمن البحري على الصعيد الأفريقي.

أولًا: مفهوم الأمن البحري من المنظور الأفريقي

يُضفي الموقع الاستراتيجي الذي تتميز به القارة الأفريقية أهمية خاصة لحركة الملاحة والتجارة الدولية؛ حيث تقع القارة عند تقاطع طرق التجارة الرئيسة التي تربط أوروبا وآسيا والأمريكيتين، وتبلغ مساحتها الإجمالية نحو 43 مليون كيلومتر مربع -بما في ذلك 13 مليون كيلومتر مناطق اقتصادية خالصة لدول القارة- وهي محاطة بالأساس بأربعة مسطحات مائية لها أهمية تاريخية بالنسبة للقارة من حيث التجارة والهجرة والقرصنة، وهي تتمثل في البحر الأبيض المتوسط في ناحية الشمال، والبحر الأحمر في ناحية الشرق، والمحيط الهندي وقناة موزمبيق في ناحية الجنوب، والمحيط الأطلنطي في ناحية الغرب، ويبلغ طول السواحل الأفريقية نحو 26 ألف ميل بحري بما يوازي 48 ألف كيلومتر تقريبًا، تتقاسمها نحو 38 دولة أفريقية ساحلية غنية بالموارد والثروات الطبيعية (انظر خريطة رقم 1).

كما أن أفريقيا لديها بعض الممرات المائية الأكثر استراتيجية عالميًّا مثل: قناة السويس، ومضيق باب المندب، وقناة موزمبيق، وخليج غينيا الذي يعد طريقًا حاسمًا للطاقة العالمية، فيما تمتلك أفريقيا أكثر من 100 ميناء بحري استراتيجي تتعامل مع 6 % من إجمالي الشحن البحري العالمي، و3 % من الحركة العالمية للحاويات، بالإضافة إلى السفن بنسبة 1.2 % من سفن العالم، يأتي ذلك في الوقت الذي تشير فيه التوقعات إلى مضاعفة اقتصاد البحار والمحيطات في أفريقيا بحلول عام 2030 مقارنة بعام 2010، إضافة إلى توفير الملايين من فرص العمل للأفارقة، وهو ما يعكس أهمية تعزيز الأمن البحري لأفريقيا خلال المرحلة المقبلة.

وتتعدد الرؤى الغربية حول مفهوم الأمن البحري، حيث تشير إحداها إلى التحرر من أو عدم وجود تلك الأفعال التي يمكن أن تؤثر سلبًا على السلامة الطبيعية والمرونة لأي ممر مائي صالح للملاحة، أو تقويض سلامة الأشخاص والهياكل الأساسية والبضائع والسفن البحرية ووسائل النقل البحري.

ويشير مفهوم أخر للأمن البحري إلى حماية الأراضي الوطنية من الهجمات عبر البحر، كما يشير مفهوم ثالث إلى أنه يشمل الأنشطة التي تهدد أو من المحتمل أن تعرض الأمن القومي للدول الأفريقية للخطر وصناعة النقل البحري وسلامة البشر، فيما يشير اتجاه أخر إلى حماية السفن البحرية داخليًّا وخارجيًّا من الأنشطة الخارجة عن القانون مثل السطو المسلح والاتجار بالبشر، والبضائع، والإرهاب، والقرصنة.

بينما يركز مفهوم الأمن البحري من المنظور الأفريقي -وفقًا للاستراتيجية البحرية المتكاملة لأفريقيا 2050 - على “تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة، وتكون فيه الحالة التي تعكس حرية الكيانات العامة والخاصة للقيام بأنشطة مشروعة مثل: ممارسة الحقوق السيادية والقضائية، واستخراج الموارد والتجارة والنقل والسياحة، خالية من التهديدات أو الخسائر الناجمة عن الأفعال غير المشروعة أو العدوان، وذلك من أجل أفريقيا متكاملة ومزدهرة”.

وتكمن فلسفة المنظور الأفريقي لمفهوم الأمن البحري في إدراك الأفارقة لأهم مسببات تصاعد تهديدات الأمن البحري في العديد من الدول الأفريقية، والتي تتعلق بأسباب اجتماعية واقتصادية تسهم بشكل واضح في تفاقم النزاعات والصراعات المسلحة في الداخل، وسرعان ما تمتد آثارها إلى النطاق البحري، رغبة في السيطرة على الثروات، والموارد وتهديد أمن الدول الأفريقية، التي تحركت بقوة نحو تدشين استراتيجية بحرية متكاملة للحد من والقضاء على التهديدات التي تواجهها بحرًا، وقد اعتمد الاتحاد الأفريقي هذه الاستراتيجية في يناير 2014، والتي تمثل خطة بحرية متكاملة على مستوى القارة تهدف إلى التعامل مع ملف الأمن البحري على كافة المستويات بما لا يقتصر على جرائم القرصنة والسطو المسلح بحرًا، وإنما تتجاوز للتصدي للأنشطة غير المشروعة في البحر، وتركز بشكل أساس على التنمية المستدامة للاقتصاد الأزرق الأفريقي، وهي تتضمن نحو 11 برنامج استراتيجي، وخطة عمل تتضمن 21 غاية و61 هدف إجرائي، و65 مقياس للمخرجات بهدف مساعدة وتقدير ومراقبة تأثير الاستراتيجية.

ثانيًّا: خريطة مهددات الأمن البحري

تظل أفريقيا جنوب الصحراء واحدة من أبرز المناطق عرضة للتهديدات البحرية خلال السنوات الماضية، وهو ما يعزز انعدام الأمن الإقليمي في القارة، ويهدد أمن واستقرار الدول الأفريقية، ويمكن الإشارة إلى خريطة أبرز مهددات الأمن البحري في أفريقيا جنوب الصحراء على النحو التالي:

1 - القرصنة البحرية

شكلت أخطر التهديدات البحرية في أفريقيا على مدار العقدين الماضيين، فقد برزت الممرات المائية الأفريقية في السنوات الأخيرة باعتبارها من أخطر الطرق للسفن في العالم؛ بسبب هجمات القراصنة، إذ وصل خطر القرصنة لأعلى مستوياته في منطقة القرن الأفريقي في عام 2008، وتم تصنيف منطقة غرب أفريقيا كمنطقة شديدة الخطورة في عام 2012 بسبب تزايد أعداد هجمات القراصنة قبالة سواحل غرب أفريقيا، حيث أضحت منطقة خليج غينيا على مدار ما يقرب من العقدين واحدة من النقاط الساخنة على الصعيدين الأفريقي والعالمي للقرصنة البحرية، حتى إنها تجاوزت شرق أفريقيا التي تحسن الوضع فيها تدريجيًّا في السنوات التالية.

وتجدر الإشارة إلى أن عمليات القرصنة في أفريقيا جنوب الصحراء تتركز بالأساس في ثلاث مناطق رئيسة هي: الساحل الصومالي، وخليج عدن على طول ساحل شرق أفريقيا، وهي تمثل منطقتين خطيرتين على الملاحة البحرية في البحر الأحمر والمحيط الهندي، إضافة إلى منطقة خليج غينيا بما في ذلك المياه الإقليمية لنيجيريا في غرب أفريقيا، إلى جانب قناة موزمبيق وطريق كيب البحري في الجنوب الأفريقي (انظر خريطة رقم 2).

ولا تزال مياه غرب أفريقيا تعد منطقة ساخنة لهجمات القراصنة التي تمثل تحديًّا رئيسًا هناك، حيث تشير تقديرات المكتب البحري الدولي إلى أن منطقة خليج غينيا قد شهدت زيادة في حوادث القرصنة بنسبة 50 % بين عامي 2015 و2019، وزيادة بنسبة 10 % بين عامي 2019 و2020 في حوادث الاختطاف، للحصول على فدية، فمن بين 135 عملية اختطاف بحرية وقعت في العالم خلال عام 2020، هناك 130 عملية شهدتها منطقة خليج غينيا، ووقعت أكثر من 40 % من حوادث القرصنة المبلغ عنها في خليج غينيا بواقع 81 حادث من أصل 195 حادث على مستوى العالم، ففي مارس 2019، سجلت الكاميرون ثلاث حالات للقرصنة على السفن في مياهها الإقليمية، كما تعرضت توجو في ديسمبر 2019 لحادثين قرصنة قبالة سواحلها برغم ندرتها هناك، وتعرضت أيضًا المياه الإقليمية لغانا لهجمات القراصنة على السفن للاستيلاء على البضائع، فيما لا يزال الأمن البحري في المياه النيجيرية مصدر قلق نظرًا لحوادث القرصنة قبالة لاجوس وبوني، وهي التي تتعرض لهجمات منسقة ضد السفن والناقلات البحرية، كما شهد عام 2018 نحو 201 حادث قرصنة بالمنطقة، مقارنة بنحو 180 حادث في عام 2017.

وقد أدى نشاط القراصنة على طول السواحل الأفريقية إلى تكبيد المزيد من الخسائر المادية على مدار السنوات الماضية، ففي الفترة بين عامي 2005 و2012 حصل القراصنة في خليج عدن بشرق أفريقيا على فدية بقيمة 500 مليون دولار عقب اختطاف أكثر من 2000 بحار، بينما أشارت دراسة أجرتها الأمم المتحدة في ديسمبر 2021 إلى أن إيرادات الفدية لعصابات القرصنة في خليج غينيا تبلغ نحو 5 ملايين دولار سنويًّا، فيما بلغت آثار القرصنة على التجارة -تكاليف مباشرة وغير مباشرة- نحو 1.9 مليار دولار سنويًّا لاثنتي عشرة دولة في خليج غينيا.

ومع ذلك، يرى البعض أن هناك تراجعًا واضحًا خلال العامين الماضيين في معدل القرصنة على الصعيد الأفريقي؛ إذ يشير تقرير القرصنة السنوي الصادر في عام 2022م عن المكتب البحري الدولي التابع للمحكمة الجنائية الدولية إلى وصول حوادث القرصنة العالمية إلى أدنى مستوى لها خلال العقود الثلاثة الماضية، وأنها تتراجع للعام الثاني على التوالي، حيث يظهر التقرير انخفاضًا بنسبة 13 % من إجمالي الهجمات في عام 2022 مقارنة بعام 2021، والتي بررها بانخفاض نشاط القراصنة في خليج غينيا بشكل أساس الذي شهد نحو 19 حادث قرصنة في عام 2022 مقارنة بنحو 35 حادث في عام 2021 و84 حادث في عام 2020، وتشير التقديرات إلى استمرار النشاط في الانخفاض هناك خلال الربع الأول من عام 2023 حيث وقعت نحو 5 حوادث قرصنة فقط مقارنة بنحو 8 حوادث في نفس الفترة الزمنية من عام 2022. كما تحسنت الحالة الأمنية المتعلقة بمخاطر القرصنة في منطقة المحيط الهندي اعتبارًا من يناير 2023 بفضل جهود مكافحة القرصنة.

وبرغم ما تقدم، تظل القرصنة أزمة مستمرة وخطيرة على الصعيد الأفريقي، خاصة مع تحذيرات العديد من الجهات الدولية مثل: مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي الذي حذر من أن التهديدات البحرية في خليج غينيا لا تزال قائمة خاصة بعد الحادثين اللذين وقعا في الربع الأخير من عام 2022 عقب اختطاف سفينتين مع 29 شخص من طاقمهما، ويرتبط بذلك أيضًا استمرار مسببات حوادث القرصنة، كما أن العديد من الجهات المتورطة في حوادث القرصنة على مدار العقدين الماضيين لا تزال متورطة في العديد من الجرائم البحرية حتى الآن، وهو ما يعني الحاجة للمزيد من الجهود الدولية والإقليمية المتواصلة؛ لضمان استمرار سلامة الأمن البحري في أفريقيا.

2 - تهديدات التنظيمات الإرهابية

يرتبط نشاط التنظيمات الإرهابية في عدد من المناطق الأفريقية بتهديدات الأمن البحري، حيث تمتد النزاعات المسلحة (البرية) لتشمل مكونًا بحريًّا، وهو الذي تجلى في تهديدات تنظيم داعش شمالي موزمبيق بإقليم “كابو ديلجادو”، والتي كانت لها تأثيرًا غير مباشر على تهديد العناصر الإرهابية للأمن البحري لموزمبيق، والاستفادة من الموارد البحرية للبلاد، باعتبارها أحد القنوات لمختلف أشكال التجارة غير المشروعة.

إذ تعتمد العديد من التنظيمات الإرهابية في أفريقيا على البحر في زيادة إيراداتها المالية؛ لتعزيز نشاطها في الدول الأفريقية واستقطاب المزيد من العناصر والموالين، وتشكل تجارة الأسلحة عن طريق البحر مصدرًا مهمًا للربح لتلك التنظيمات بسبب زيادة الطلب على السلاح في البيئات المتضررة أمنيًّا، ففي غرب أفريقيا، أضحت منطقة دلتا النيجر ملجأً للتنظيمات الإرهابية بما يعزز مشكلات الأمن البحري في منطقة خليج غينيا التي تشكل حوادث القرصنة والسطو المسلح والهجمات على السفن التجارية فيها بمثابة فرصة؛ لتمويل الجماعات الإرهابية.

وفي شرق أفريقيا، يوفر طول السواحل غير الخاضعة للرقابة فرصة لبعض التنظيمات الإرهابية لزيادة تدفقاتها من الأسلحة والمقاتلين والتجارة غير المشروعة، مما يعزز نفوذها في مناطق سيطرتها، إذ تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى تورط حركة الشباب المجاهدين الصومالية في تجارة الفحم غير المشروعة مع بعض الأطراف الإقليمية بما يدر لها نحو 7 ملايين دولار تقريبًا سنويًّا، إضافة إلى رصد بعض القوارب البحرية التي تقوم بنقل الأسلحة إلى الداخل الصومالي عبر البحر في إشارة إلى وجود علاقة تربط بين جماعة الحوثي اليمنية وحركة الشباب المجاهدين الصومالية، كما تشير تقديرات استخباراتية إلى تزايد شبكات التهريب عبر الحدود بين بعض التنظيمات الإرهابية مثل: حركة الشباب وتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي في غرب أفريقيا والساحل، ما يعكس صلات قوية تربط بين التنظيمات الإرهابية في القارة الأفريقية خلال السنوات الماضية.

وفي سياق متصل، لعبت الحرب الأهلية في الحالة اليمنية وصعود دور بعض الفواعل من غير الدول (جماعة الحوثي) دورًا في تزايد انعدام الأمن الإقليمي بما في ذلك زيادة التوتر حول مضيق باب المندب وتهديد أمن البحر الأحمر، والوصول لدرجة مبتكرة من الإرهاب البحري في البحر الأحمر بما في ذلك قوارب القنابل التي يتم التحكم فيها عن بعد، والتي تشكل تهديدًا للتجارة الدولية والملاحة البحرية والبنية التحتية البحرية هناك.

3 - الصيد غير القانوني

أضحى الصيد غير المشروع يشكل التهديد الأول للأمن البحري في المياه الأفريقية، فقد شهد العامان الأخيران استمرار سفن الصيد في سرقة كميات كبيرة من الأسماك، وتضم أفريقيا نحو 10 ملايين شخص يعتمدون على الصيد في توفير دخل لهم، كما أن هناك نحو 200 مليون أفريقي يعتمدون على الأسماك كوجبة رئيسة في نظامهم الغذائي، في الوقت الذي تبلغ عائدات مصايد الأسماك نحو 24 مليار دولار للاقتصادات الوطنية في أفريقيا.

ويوجه الغرب اتهامات لكل من روسيا والصين برعاية سفن بحرية تتورط في ممارسات الصيد غير القانوني قبالة السواحل الأفريقية؛ إذ تشير تقديرات غربية إلى أن حجم الأسطول البحري الصيني يصل إلى 3000 سفينة ويتورط في نهب كميات كبيرة من الثروة السمكية قبالة سواحل غرب أفريقيا، كما تتورط عدد من الدول في هذه العمليات، حيث يشير تقرير صادر عن الأمم المتحدة إلى تورط نحو 180 سفينة إيرانية و300 سفينة يمنية غير قانونية في القيام بعمليات الصيد غير المشروع قبالة سواحل ولاية “بونت لاند” الصومالية، بالإضافة إلى تورط عدد من السفن الكورية والأوروبية، وتعاني دول غرب المحيط الهندي من عمليات الصيد غير المشروع، واستغلال الموارد الطبيعية في البحار، وهو ما يمثل تهديدًا للمجتمعات الساحلية هناك.

وبالتالي، يؤدي الصيد غير المشروع في أفريقيا إلى تفاقم نضوب الأرصدة السمكية بما يؤثر سلبًا على الاقتصادات الوطنية، كما يشكل تهديدًا كبيرًا للأمن الغذائي والاقتصادي للدول الأفريقية لا سيما أن مصايد الأسماك تعد مصدرًا رئيسًا للعمالة في المجتمعات الساحلية، وتسهم بشكل ملحوظ في تخفيف حدة الفقر، ويمكن للصيد غير القانوني أن يقوض الاقتصاد الأزرق الأفريقي الذي يشمل مصايد الأسماك، والسياحة، وتربية الأحياء المائية، والموانئ البحرية، والنقل البحري. إذ تكلف عمليات الصيد غير الشرعي القارة أكثر من مليار دولار سنويًّا.

ففي غرب أفريقيا، تعد منطقة خليج غينيا من أغنى مناطق الصيد في العالم حيث تمتلك 4% من الإنتاج العالمي للأسماك، ومع ذلك تكلف عمليات الصيد غير القانوني دول المنطقة نحو 1.5 مليار دولار سنويًا، فيما تبلغ خسائر عمليات الصيد غير المشروع في دول جامبيا وغينيا وموريتانيا وغينيا بيساو والسنغال وسيراليون نحو 2.3 مليار دولار سنويًّا، كما أن عمليات الصيد غير القانوني تتسبب في ضياع نحو 300 ألف فرصة عمل سنويًّا وفقًا لإحصاءات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو).

4 - سرقة النفط

تمتلك أفريقيا نحو 203 مليار برميل من النفط قابلة للاستخراج، وهي التي شكلت بين عامي 2009 و2014 نسبة 30 % من اكتشافات النفط والغاز على مستوى العالم، إلا أن غياب الأمن وتنامي عمليات السرقة تهدد هذه الثروة النفطية في عدد من الدول الأفريقية، خاصة أنها تعيق عمليات إنتاج النفط والغاز، وذلك من خلال الهجمات المسلحة المنظمة على السفن البحرية، مما يكلف الاقتصادات الوطنية أموالًا طائلة.

ففي منطقة خليج غينيا التي تمثل طريقًا الوصول الرئيس من وإلى أكبر منتجيْن اثنيْن للنفط والغاز في أفريقيا، وهما نيجيريا وأنجولا، حيث تمتلك نحو ثلثي إنتاج النفط في أفريقيا، و4.5 % من احتياطيات النفط في العالم، و2.7 % من احتياطي الغاز الطبيعي في العالم؛ هناك نحو 200 ألف برميل من النفط يتم إهدارها يوميًّا في نيجيريا؛ بسبب عمليات السرقة من عصابات قطاع الطرق والتنظيمات الإرهابية التي تتورط في الهجمات على خطوط أنابيب النفط، حيث لا يصل نحو 80 % من النفط إلى المحطات البترولية؛ بسبب السرقة، كما يتم تهريب 30 % من الوقود المكرر في نيجيريا إلى بعض دول الجوار، وهو ما يكلف الدولة النيجيرية نحو ملياري دولار سنويًّا.

في سياق متصل، يعد رواج السوق السوداء للنفط في غرب أفريقيا أحد الدوافع الرئيسة للقرصنة في خليج غينيا، حيث تتسبب سرقة النفط في خسارة 6- 10% من إنتاج نيجيريا من النفط الذي يشكل نحو 75% من إيرادات الدولة و90% من صادراتها.

5 - الاتجار بالمخدرات

تعد قارة أفريقيا محطة عبور رئيسة لتجارة المخدرات خلال السنوات الماضية. فقد تزايد حجم الاتجار في مخدر الكوكايين المُهرَّب من أمريكا الجنوبية إلى أوروبا عبر منطقة غرب أفريقيا في العقد الأول من القرن الحالي، وبلغ ذروته في عام 2007 بتهريب ما يقدر بنحو 47 طن من الكوكايين عبر المنطقة.

وقد تزايد انتقال المخدرات وبخاصة الهيروين في الدول الجزرية الأفريقية الواقعة شرق المحيط الهندي بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، مما يهدد بتعزيز شبكات التهريب العابرة للحدود الوطنية، ولا تزال التحذيرات من تفاقم هذه التجارة قائمة، خاصة بعدما تم ضبط كميات كبيرة خلال الفترة بين عامي 2019 و2021 في منطقتي الغرب والجنوب الأفريقيين حيث يستهدف التجار الموانئ والمطارات والطرق البرية التي تشهد غيابًا للوجود الأمني؛ لنقل المخدرات عبر القارة.

ففي أبريل 2023 ضُبط نحو 507 كيلوجرام من المخدرات بقيمة 23 مليون دولار على متن قارب في مياه المحيط الهندي. وفي يناير 2021، صادرت الأجهزة الأمنية نحو 2.9 طن من مخدر الكوكايين داخل حاويات في ميناء بانجول بجامبيا، كما ضبطت قوة بحرية فرنسية في يناير 2021 نحو 444 كيلوجرام من مخدر الهيروين بقيمة 40 مليون دولار في قناة موزمبيق. وتشير تقارير إلى مرور كميات كبيرة من المخدرات التي يتم تهريبها من أفغانستان عبر المحيط الهندي على طول الساحل الجنوبي الأفريقي وصولًا إلى أوروبا، وفي مارس 2019، تم ضبط نحو 789 كيلوجرام من المواد المخدرة بين دولتي السنغال وغينيا بيساو، وفي نوفمبر من نفس العام ضبطت الأجهزة الأمنية نحو 750 كيلوجرام من مخدر الكوكايين في السنغال على متن قارب صيد.

6 - التنافس الدولي على الموانئ البحرية

يشكل تزاحم القوى الكبرى عند المضائق المائية الاستراتيجية في السواحل الأفريقية مصدرًا تهديدًا للأمن البحري للقارة، لما ينطوي عليه من تزايد عسكرة المنطقة، إضافة إلى نشاط سفن القوى الكبرى في عمليات الصيد غير الشرعي في المياه الأفريقية، إلى جانب السيطرة على المناطق الاقتصادية الخالصة للدول الأفريقية لا سيما فيما يتعلق بمصايد الأسماك، واستخراج الموارد والثروات الطبيعية، وهناك اتجاه يرى أن إبرام القوى الدولية لصفقات الموانئ والقواعد البحرية تعرض الدول الأفريقية لمخاطر على ثلاثة مستويات تتعلق بتمويل القوى الكبرى الذي يحقق أهدافها في بسط نفوذها والحصول على امتيازات عديدة على حساب الدول الأفريقية، التي ربما تخضع لإرادات تلك القوى؛ بسبب الديون المثقلة على كاهلها لصالح الأخيرة، علاوة على استغلال الموانئ الأفريقية في جمع المعلومات الاستخباراتية للمنافسين الاستراتيجيين، وهو ما يشكل تهديدًا لسيادة الدول الأفريقية (انظر خريطة رقم 3).

ثالثًا: عوامل تصاعد التهديدات البحرية في أفريقيا

هناك العديد من العوامل التي تسهم في تنامي تهديدات الأمن البحري في القارة الأفريقية، يتمثل أبرزها فيما يلي:

1 - ضعف سيطرة بعض الحكومات الأفريقية

وهي أزمة مستمرة في السياق الأفريقي؛ نتيجة تضافر عدد من العوامل على رأسها ضعف القدرات الأمنية للجيوش الوطنية، وعدم قدرتها على السيطرة على كافة حدود الدولة، مما يمنح التنظيمات الإرهابية فرصة جيدة لملء الفراغ وتوسيع نطاق سيطرتها الجغرافية، ومن ثم نفوذها حتى المجال البحري الذي تراجعت أولويته بالنسبة لبعض الحكومات الأفريقية، وهو ما ترتب عليه تفاقم عمليات القرصنة والجريمة المنظمة قبالة بعض السواحل الأفريقية مثل: الصومال خلال العقدين الماضيين في ضوء انهيار الوضع الأمني عقب سقوط نظام “سياد بري” في تسعينيات القرن الماضي.

2 - تدهور الأوضاع الأمنية

وذلك نتيجة تصاعد نشاط الإرهاب في عدد من الدول الأفريقية، وسيولة الحدود التي بات يسهل اختراقها من قبل العناصر الإرهابية، بالإضافة إلى ضعف التنسيق الأمني بين الدول الأفريقية، مما يشكل بيئًة ملائمًة لتنامي التهديدات البحرية لا سيما في غرب أفريقيا التي أصبحت معبرًا للجريمة المنظمة، وعمليات التهريب غير المشروع من الشبكات الإجرامية.

3 - ضعف الأوضاع الاقتصادية والمعيشية

تنبع التهديدات الأمنية الناشئة داخل المجال البحري من أسباب غير عسكرية وأمنية أيضًا مثل: الاضطرابات الاجتماعية، والاقتصادية، وارتفاع معدلات البطالة داخل المجتمعات الساحلية مثل: دلتا النيجر التي تعاني مستويات مرتفعة من الفقر، وبنية تحتية اجتماعية ضعيفة في التعليم والصحة والنقل وغيرها، مما يدفع قطاع كبير من الشباب للانضمام للجماعات المسلحة والتورط في عمليات القرصنة، وتهديد الأمن البحري أملًا في تحقيق أرباح مادية، وتحسين مستويات معيشتهم.

4 - الصراعات الإثنية في أفريقيا

قد تمتد تلك النزاعات من مجالها البري إلى المجال البحري في محاولة للسيطرة على الموارد البحرية، أو الضغط على الحكومات الأفريقية، أو الحصول على المزيد من الأموال عن طريق القرصنة والسطو المسلح وغيرهما، مما يهدد بتفاقم الأوضاع الأمنية على الصعيدين الداخلي والإقليمي.

5 - ضعف الوعي بالمجال البحري

وهو الذي تسبب في غياب قوة بحرية أفريقية لمواجهة التحديات الأمنية البحرية، مما أدى إلى تزايد نشاط التجارة غير المشروعة في عدد من المناطق الأفريقية مثل: شرق أفريقيا، وخليج عدن وغرب أفريقيا.

رابعًا: تأثيرات تنامي مهددات الأمن البحري

يحمل تصاعد مهددات الأمن البحري جملة من التداعيات المحتملة على الصعيد الأفريقي، ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك التداعيات على النحو التالي:

1 - زيادة التوترات الأمنية

قد تفقد بعض الدول الأفريقية القدرة على مواجهة التحديات الأمنية البحرية من توسع في عمليات القرصنة، والسطو المسلح، ونشاط الشبكات الإجرامية في المجال البحري، إلى جانب انخراط بعض التنظيمات الإرهابية في هذه العمليات من أجل تعزيز تدفقاتها من السلاح والأموال الطائلة التي تسهم في تعزيز صفوفها بانضمام عناصر جديدة لها، مما يعزز نفوذها وبسط سيطرتها على مجال جغرافي أوسع يهدد بدوره أمن واستقرار الدول الأفريقية ويؤجج الصراعات فيها بشكل أكبر.

2 - انتشار الشبكات الإجرامية

وذلك نتيجة غياب الأمن الذي يسهل بدوره نشاط الجماعات المسلحة في البر والبحر، وهو ما ينعكس على تفاقم الجريمة المنظمة في أنحاء القارة، وزيادة تهريب المخدرات، والسلاح، والاتجار بالبشر، وغيره، فضلًا عن تصعيد عمليات القرصنة والسطو المسلح على السفن الأجنبية، وما يرتبط به من تداعيات سلبية.

3 - تنامي المخاطر الاقتصادية

من شأن انعدام الأمن البحري الإضرار بالآفاق الاقتصادية للدول الأفريقية، وتهديد التجارة البحرية الأفريقية على المديين القصير والمتوسط من خلال زعزعة استقرار الدول الساحلية الأفريقية.

4 - زيادة التدخل الأجنبي في أفريقيا

تحت ذريعة حماية السفن الأجنبية والرعايا الأجانب في أفريقيا، إلى جانب الترويج؛ لمساعدة الدول الأفريقية في مواجهة التحديات الأمنية في المجال البحري، مما قد يفتح الطريق أمام استغلال القوى الدولية للموارد والثروات الأفريقية وبسط نفوذها في الموانئ البحرية بحجة حماية الأمن المائي للدول الأفريقية، وربما وصولًا إلى إبرام صفقات تأسيس قواعد عسكرية بحرية وتجارية كما هو الحال في منطقة القرن الأفريقي التي تشهد تزاحمًا دوليًّا وإقليميًّا يتجلى في القواعد العسكرية الأجنبية على طول ساحل البحر الأحمر.

5 - تهديد مجال الاتصالات الدولية

تتزايد المخاوف من تطور عمليات الإرهاب البحري لدرجة التورط في تعطيل الكابلات البحرية تحت قاع البحر، وهي التي تنقل نحو 95 % من بيانات الاتصالات بواقع تكلفة قدرها 10 تريليون دولار يوميًّا، ما يعني أن قطع مجموعة واحدة من تلك الكابلات قد يؤدي إلى حجب 33 % من شبكة الإنترنت في العالم، وهو ما يهدد الاقتصاد العالمي.

إجمالًا، في ضوء التنبؤ بمضاعفة حجم اقتصاد البحار والمحيطات خلال السنوات السبع المقبلة ليصل إلى نحو 3 تريليونات دولار، يستوجب ذلك اهتمامًا أفريقيًّا جادًّا بتشكيل نهج شامل تجاه الأمن البحري، وتحركًا سريعًا؛ لتعزيز قدراتها الأمنية لمواجهة تحديات، وتهديدات الأمن البحري الأفريقي، مع الاستعانة ببعض الخبرات الدولية في مجال تعزيز السلامة البحرية، لتكون أكثر استعدادًا لموجات التحول القادمة نحو الاقتصاد الأزرق من أجل ضمان النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية في أفريقيا التي ينبغي أن تستفيد من ثرواتها ومواردها.