شهدت علاقات الولايات المتحدة مع دول منطقة المحيطين الهندي والهادئ “الهندو–باسيفيك” في الآونة الأخيرة تطورات ملحوظة؛ الأمر الذي تمت ترجمته في سلسلة من الزيارات الرسمية، كان آخرها جولة وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” الثامنة له في منطقة الهندو–باسيفيك، والأولى إلى بابوا غينيا بشكل خاص، ثم سفره جنوباً إلى أستراليا لينضم إلى وزير الخارجية “أنتوني بلينكن” في الاجتماع مع نظرائهما في المشاورات الوزارية السنوية الثالثة والثلاثين بين أستراليا والولايات المتحدة (AUSMIN)، ليلتقي “أوستن” جنوداً أمريكيين وأستراليين يشاركون في التدريب العسكري المشترك “تاليسمان سابر” هذا العام، الذي ضم 13 دولة وأكثر من 30 ألف عسكري، ويمتد نحو أسبوعين. ومن ثم، فإن هذه الجولة كانت ضمن نشاط الدبلوماسية الرئاسية المتنامي خلال الآونة الأخيرة؛ ما عظَّم تداعياتها الملموسة ودلالتها بالنسبة إلى السياسة الخارجية الأمريكية؛ حيث يبدو أن واشنطن حريصة على تكريس نفوذها في المنطقة.
دلالات متعددة
منذ بداية ولايتها، اتخذت إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” خطوات تاريخية لاستعادة الريادة الأمريكية في منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ؛ حيث يبلغ عدد القوات الأمريكية في المنطقة نحو 106 آلاف جندي؛ لذلك كانت لجولة “أوستن” العديد من الدلالات؛ أبرزها:
1– إيجاد بديل للنفوذ الصيني المتصاعد في المنطقة: تبذل الولايات المتحدة جهوداً متزايدة لاستعادة مكانتها في جنوب المحيط الهادئ؛ حيث يتعاظم حضور الصين دبلوماسياً وعسكرياً؛ لذلك جاءت هذه الجولة للرد على تزايد الممارسات الصينية في بحر الصين الجنوبي، فبدأت واشنطن في جذب دول جزر المحيط الهادئ من خلال الزيارات الرسمية وممارسة النفوذ السياسي. وفي مضيق تايوان، تنزعج إدارة بايدن من التهديدات الصينية المتزايدة والمناورات العسكرية حول تايوان، ولا سيما بعد أن توتَّرت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين بسبب زيارة رئيسة مجلس النواب آنذاك نانسي بيلوسي إلى تايبيه في أغسطس من العام الماضي. وزادت حدة هذه التوترات بعد أن أسقطت الولايات المتحدة بالون تجسس صينياً مشتبهاً به في فبراير الماضي بعد أن اجتاز الولايات المتحدة.
وعقب اجتماع مع وزير الدفاع الأسترالي “ريتشارد مارليس”، قال أوستن إن البلدين يشتركان في مخاوف بشأن خروج الصين عن القوانين والأعراف الدولية التي تحل النزاعات سلمياً ومن دون إكراه، متعهداً بأن تُقدِّم الولايات المتحدة الدعم للدول المتضررة.
2– تأكيد الاهتمام الأمريكي ببابوا غينيا الجديدة: جاءت زيارة وزير الدفاع الأمريكي إلى بابوا غينيا الجديدة لتؤكد الاهتمام الأمريكي بتطوير العلاقات مع هذه الدولة الجزرية المهمة في سياق الصراع على النفوذ مع بكين. وفي هذا الصدد، يبدو أن الوزير “أوستن” احتفل بلحظة تاريخية كأول وزير دفاع يزور البلاد، وهو شريك أمريكي حاسم في المحيط الهادئ؛ حيث ناقش الخطوات التالية بعد التوقيع الأخير على اتفاقيات دفاع ثنائية جديدة بين البلدين.
3– التزامن مع تصاعد التوتر بين بعض دول المنطقة وبكين: تأتي زيارة وزير الدفاع الأمريكي إلى منطقة الهندو–باسيفيك بالتزامن مع تصاعد التوترات بين بعض دول المنطقة وبكين؛ إذ طالبت أستراليا ونيوزيلندا الصين بالكشف عن تفاصيل اتفاق جديد له أبعاد أمنية أبرمته مع جزر سليمان؛ وذلك خلال زيارة أجراها رئيس وزراء جزر سليمان ماناسيه سوغافاري إلى بكين خلال شهر يوليو 2023. علاوةً على ذلك، فإن قضية تايوان لا تزال موضع اشتعال، ناهيك عن المناورات العسكرية المتنوعة التي تُجرَى في المنطقة وتؤدي إلى إذكاء التوترات.
4– رسم رؤية استراتيجية للحفاظ على المصالح الأمريكية: التقى الوزير “أوستن” في أستراليا نظراءه الدفاعيين والدبلوماسيين، فيما يواصل تحالف أمريكا غير القابل للكسر مع أستراليا فتح آفاق جديدة للسلام والأمن عبر منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وتَعتبِر الولايات المتحدة أستراليا بلداً صديقاً يمكن أن تعتمد عليه في إطار سعيها إلى ضرب هيمنة بكين في مجال الصناعات الناشئة المراعية للبيئة على غرار تصنيع السيارات الكهربائية. وتعد أستراليا من أكبر الدول المنتجة لليثيوم، وهو العنصر الكيميائي الذي يشكل مكوناً أساسياً لصناعة البطاريات القابلة للشحن؛ علماً بأنها ترسل حالياً غالبية إنتاجها الخام إلى الصين لتجهيزه للأغراض الصناعية. ومن ثم، تحاول الولايات المتحدة استكشاف إمكانية الحصول على تكنولوجيات ومكونات رئيسية من دول حليفة بدلاً من الصين.
5– تزايد الطموحات الغربية في الهندو–باسيفيك: تتماشى التحركات الأمريكية المكثفة في منطقة الهندو–باسيفيك مع تزايد الطموحات الغربية في المنطقة؛ إذ جاءت زيارة وزير الدفاع الأمريكي إلى المنطقة عقب انتهاء الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” من جولته بالمنطقة، التي شملت إقليم كاليدونيا الجديدة، وفانواتو، وبابوا غينيا الجديدة؛ لإحياء روابط بلاده بالمنطقة، وإدانة ماضيها الاستعماري؛ لطرح بديل للدور الأمريكي. وجاءت الجولة بالتزامن مع تدريبات جوية فرنسية يابانية في أجواء محافظة ميازاكي اليابانية الجنوبية الغربية.
كذلك تؤكد زيارة الرئيس “إيمانويل ماكرون” حضور فرنسا باعتبارها قوة أصيلة تمتلك حقوقاً سياسية وامتدادات إقليمية في المنطقة تؤهلها لإعادة التموضع في المنطقة التي تمثل مركز ثقل بازغاً للاقتصاد العالمي، وموطناً لثروات وأصول استراتيجية فرنسية، خاصةً بعد حرمان باريس من اتفاق الغواصات النووية مع أستراليا.
6– طمأنة حلفاء واشنطن في المنطقة: تأتي الرحلة الثامنة لوزير الدفاع “أوستن” إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ في وقت تُواصِل فيه وزارة الدفاع تعزيز التواصل مع حلفاء وشركاء الولايات المتحدة، وتطوير رؤية مشتركة للسلام والاستقرار والردع، خاصةً أن منطقة جنوب المحيط الهادئ تكتسب أهمية خاصة في هذا الصدد، في حين أن الولايات المتحدة كانت قد اتجهت إلى تجاهلها بعد الحرب الباردة، وأزالت بعض سفاراتها، وقلَّصت مساعداتها للمنطقة.
لذلك حرص “أوستن”، من خلال هذه الزيارة، على تأكيد مكانة الولايات المتحدة بصفتها شريكاً وفاعلاً موثوقاً به على الساحة الدولية، وهو النهج الذي تتبعه إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” ككل؛ فمنذ بداية رئاسته، أعلن بايدن شعار “أمريكا عادت” بهدف طمأنة الحلفاء بأن الولايات المتحدة عادت إلى دورها التاريخي على المسرح الدولي بالمخالفة لسياسة “أمريكا أولاً” التي اتبعها الرئيس السابق “دونالد ترامب”.
مخرجات حيوية
لا شك أن هناك العديد من المخرجات المحورية التي انطوت عليها جولة “أوستن” إلى منطقة المحيطين، وهي المخرجات التي يمكن تناول أبرزها فيما يلي:
1– توسيع الوجود الأمني في المنطقة: لا شك أن الحضور العسكري في منطقة الهندو–باسيفيك بات يكتسب أهمية كبرى؛ ليس فقط للدفاع عن السيادة الإقليمية الأمريكية، بل في إعادة تقديم بلاده باعتبارها رأس حربة للوجود في المنطقة التي يتزايد القلق بشأن تغير بيئتها الأمنية وتأثير هذا التغير على سلاسل الإمداد الحيوية.
كذلك أجرت الولايات المتحدة وأستراليا، بمشاركة 30 ألف عسكري من 13 دولة، تدريبات عسكرية واسعة النطاق وهي التدريبات الأكبر على مستوى سلسلة التدريبات المعروفة بـ”تاليسمان سابر”؛ إذ بدأت سلسلة التدريبات العسكرية بين أستراليا والولايات المتحدة منذ عام 2005؛ لذلك تُعَد هذه التدريبات العاشرة والأكبر فيها، أو كما وصفها الكولونيل “برايان بالدوين” قائد الجناح الثالث عشر للرحلات الاستكشافية الجوية، في وقت سابق، فإنها ليست فقط أكبر تدريب للمكونات الجوية، بل الأكثر تعقيداً وهي التدريبات المتعددة المجالات حتى الآن.
وفي سياق ذي صلة، أعلن وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن”، خلال الزيارة، أن الولايات المتحدة ستنشر سفينة خفر سواحل أمريكية في بابوا غينيا الجديدة في أغسطس 2023. وأوضح “أوستن” أن السفينة ستُساعد بابوا غينيا الجديدة على وقف نهب مواردها البحرية، ووقف أنشطة غير شرعية، مثل الصيد غير المشروع، والاتجار بالبشر.
2– التعاون في الصناعات الدفاعية: كانت زيارة وزير الدفاع الأمريكي بمنزلة فرصة لتحديد تفاصيل اتفاق “أوكوس” الدفاعي الجديد بين أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا، الذي سيشهد استحواذ أستراليا التاريخي على غواصات مسلحة تعمل بالطاقة النووية، بالإضافة إلى التعاون المتقدم بشأن القدرات المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي، والحرب السيبرانية، والحرب الكهرومغناطيسية، ومضادات فرط الصوت، والحوسبة الكمومية. وبالإضافة إلى ذلك، شدد الوزير “أوستن” على تعزيز دعم الولايات المتحدة مؤسسة الأسلحة الموجهة والذخائر المتفجرة الأسترالية (GWEO) التي تسعى إلى مساعدة أستراليا في تطوير قدرات إنتاج الذخائر الموجهة بدقة وصيانتها.
3– تأكيد الدعم التسليحي الأمريكي للحلفاء: كشفت الجولة عن حرص واشنطن على الدعم التسليحي لحلفائها بالمنطقة؛ فعلى سبيل المثال، قال وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن”، إن الولايات المتحدة ستساعد أستراليا في إنتاج أنظمة صواريخ موجهة متعددة الإطلاق بحلول عام 2025؛ وذلك في إطار وجود عدة مبادرات متبادلة المنفعة في صناعة الدفاع الأسترالية. وأوضح “أوستن” أن الولايات المتحدة تعمل أيضاً على تسريع وصول أستراليا إلى الذخائر ذات الأولوية من خلال عملية اقتناء مبسطة.
4– تعزيز التكامل الأمني الإقليمي: وذلك من خلال الجهود المستمرة التي تبذلها الولايات المتحدة وأستراليا واليابان لتوسيع نطاق وتعقيد التدريبات الثلاثية، وتعزيز التعاون العلمي والتكنولوجي، واستكشاف طرق لإدخال اليابان في التدريب بين الولايات المتحدة وأستراليا، وممارسة التعاون في شمال أستراليا؛ لذلك اتفق الجانبان الأمريكي والأسترالي على تعزيز جهود التحالف بين الولايات المتحدة وأستراليا للتواصل مع الشركاء المتشابهين في التفكير، بما في ذلك الهند وإندونيسيا والفلبين وجمهورية كوريا، وبناء القدرات في جنوب شرق آسيا وجزر المحيط الهادئ.
5– طرح آليات التعاون الاستخباراتي بين واشنطن والحلفاء: اتفقت الولايات المتحدة وأستراليا على تشكيل مركز استخبارات مشترك، داخل منظمة استخبارات الدفاع الأسترالية بحلول عام 2024، وستكون مهمته تحليل القضايا ذات الاهتمام الاستراتيجي المشترك في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ.
6– ضمان اتساق الحلفاء مع الموقف الأمريكي تجاه الحرب الأوكرانية: إذ تُعَد هذه القضية مصدر قلق الجانب الأمريكي طوال استمرار الحرب، فكان من أهم الأهداف غير المباشرة هو التأكد من أن معظم حلفاء واشنطن في الهندو – باسيفيك ما زالوا يُدينون الحرب في أوكرانيا اتساقاً مع المعسكر الأمريكي. وفي هذا الصدد، لا تزال أستراليا تتبنَّى خطاباً سلبياً حاداً تجاه موسكو، ولعل هذا ما اتضح – على سبيل المثال – من تأكيد الحكومة الأسترالية، في شهر يونيو الفائت، أنها ستمنع روسيا من بناء سفارة جديدة في كانبيرا. وذكر رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي أن “الحكومة تشاورت مع أجهزة الاستخبارات، وتلقَّت نصائح أمنية واضحة للغاية بشأن المخاطر التي يُشكِّلها وجود روسي جديد في مكان قريب لهذه الدرجة من مبنى البرلمان”.
وإجمالاً، تأتي جولة وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” إلى منطقة الهندو – باسيفيك ضمن الصياغة الجديدة لمنظومة التفاعلات الخارجية التي تتحرَّك في إطارها الولايات المتحدة لإعادة صياغة دورها في منطقة المحيطَين باعتبارها قوةً أصيلةً ذات مصالح وامتدادات إقليمية يمكن أن تساهم في إيجاد مسار بديل للتنافس مع الصين، من خلال تفعيل اقتراب المكسب للجميع (Win–Win Approach) حتى تجد دول منطقة المحيطين مصالحها في التعاون مع الولايات المتحدة وبناء علاقات مستقرة بدلاً من الصين.