في يوم 9 أغسطس 2023، وقَّع الرئيس الأمريكي جو بايدن أمراً تنفيذياً يخول لوزارة الخزانة الأمريكية حظر أو تقييد بعض الاستثمارات الأمريكية في الكيانات الصينية اعتباراً من العام المقبل؛ وذلك في ثلاثة قطاعات؛ هي: أشباه الموصلات والإلكترونيات الدقيقة، وتقنيات المعلومات الكمية، وأنظمة الذكاء الاصطناعي، بهدف منع رأس المال والخبرة الأمريكية من مساعدة بكين على تطوير تقنيات لتحديث قدراتها العسكرية وتهديد الأمن القومي للولايات المتحدة. ويُعَد هذا القرار هو الأحدث في سلسلة من التحرُّكات التي تضع مسافة أكبر بين أكبر اقتصادين في العالم؛ وذلك في خضم تصاعد الخلافات الاقتصادية والتجارية التي نشبت منذ البلدين في عام 2018.
وفي رسالة إلى قادة الكونجرس أبلغهم فيها بالأمر التنفيذي، قال بايدن إن "التزام الولايات المتحدة بفتح الاستثمار يُشكِّل دعامة في سياساتنا الاقتصادية، ويعود على الولايات المتحدة بفوائد مهمة"، وأضاف: "لكن بعض الاستثمارات الأمريكية قد تسرع وتزيد من نجاح تطوير تكنولوجيات حساسة ومنتجات في دول تصنعها بهدف مواجهة قدرات الولايات المتحدة وحلفائها".
أبعاد القرار
ثمة أبعاد متعددة تتقاطع مع قرار الإدارة الأمريكية بشأن تقييد حركة الاستثمارات الأمريكية في الصين، ويمكن تناول أبرز هذه الأبعاد على النحو التالي:
1- الوقوف أمام طموحات بكين: تعاني طموحات الصين التكنولوجية من قيود تفرضها واشنطن وحلفاؤها، وهو ما دفع السلطات الصينية إلى التوجه نحو محاولة الاستغناء عن استيراد أشباه الموصلات، وفي الوقت ذاته، العمل على تكثيف توطين هذه الصناعة محلياً، مستفيدةً من كثافة حجم الاستثمارات في هذا المجال، بيد أن القرار الأمريكي قد جاء ليمنع شراء الأسهم الخاصة الجديدة ورأس المال الاستثماري واستثمارات المشاريع المشتركة في مجال أشباه الموصلات المتقدمة وبعض تقنيات المعلومات الكمِّية في الصين، بحسب وزارة الخزانة الأمريكية.
2- الدفاع عن الأمن القومي الأمريكي: تم الترويج للقرار من قِبَل إدارة بايدن بأنه مرتبط بالأمن القومي الأمريكي؛ إذ إنه يستهدف في المقال الأول منع استفادة الصين من رأس المال والخبرة الأمريكية، وتوظيفهما في تطوير تكنولوجيا يمكن استخدامها في تهديد الأمن القومي والمصالح الأمريكية، وخاصةً أن بعض التقارير دفعت بأن الصين يمكن أن تُوظِّف الاستثمارات الأمريكية في تطوير استراتيجيتها العسكرية وعملية الابتكار العسكري.
من جانبه، أشاد الزعيم الديمقراطي في مجلس الشيوخ تشاك شومر، بأمر بايدن، قائلاً: "لفترة طويلة جداً، ساعدت الأموال الأمريكية في دعم صعود الجيش الصيني. واليوم تتخذ الولايات المتحدة خطوة استراتيجية أولى لضمان عدم ذهاب الاستثمار الأمريكي لتمويل التقدم العسكري الصيني".
3- استهداف الشركات الناشئة الصينية: أوضح محللون ومستثمرون لشبكة CNN أن القيود الجديدة على الاستثمارات الأمريكية في التكنولوجيا المتقدمة في الصين ستؤدي إلى تفاقم التراجع في حجم الصفقات المبرمة بين أكبر اقتصادين في العالم، بل إنها توجه ضربة كبيرة للشركات الناشئة الصينية، وهو ما أشار إليه أيضاً المتحدث باسم السفارة الصينية في واشنطن؛ حيث أشار إلى وجود أكثر من 70 ألف شركة أمريكية تعمل في الصين، موضحاً أن القيود الأخيرة ستضر كلاً من الشركات الصينية والأمريكية.
وعلى الرغم من أن الإجراءات الجديدة لا تزال تتشكل، فإن شركة DCM – وهي واحدة من أكبر المستثمرين الأمريكيين نشاطاً في الشركات الناشئة الصينية – قالت إن “الأمر سيغير طريقة وهيكل” استثماراتها في مجال الذكاء الاصطناعي، وأضافت أنه بينما تعتقد الشركة أيضاً أن استثماراتها المحتملة في الذكاء الاصطناعي قد لا تندرج ضمن تلك المحظورة، إلا أنها “ستُواصل ممارسة العناية الواجبة اللازمة للالتزام بالأمر التنفيذي والامتثال له”.
4- تصاعد حرب المعادن: يأتي القرار الأمريكي الأخير في إطار سلسلة من القرارات المتبادلة بين الجانبين في مجال أشباه المواصلات، والمعادن النادرة التي تدخل في صناعتها؛ فقد سبق أن قامت إدارة بايدن العام الماضي بتقييد صادرات أشباه الموصلات المتطورة ومعدات تصنيع الرقائق إلى الصين، كما شددت واشنطن من تدقيق تدفقات الاستثمارات الصينية إلى شركات التكنولوجيا الأمريكية. وقد عززت الولايات المتحدة هذه الضوابط من خلال إقناع هولندا واليابان بالحد من صادرات التكنولوجيا المستخدمة في إنتاج الرقائق إلى الصين.
بدورها، قامت بكين بفرض قيود على صادرات المعادن الضرورية للتكنولوجيات الخضراء؛ وذلك للحد من تصدير معادن أرضية نادرة تدخل في صناعة أسلحة متقدمة، من ضمنها الطائرات المقاتلة من طراز “إف–35″، لضرب صناعة الدفاع الأمريكية. ومؤخراً قررت بكين فرض قيود على تصدير اثنين من المعادن النادرة الضرورية لتصنيع أشباه موصلات، وهما معدنا الغاليوم والجرمانيوم، وسط تصاعد التنافس التكنولوجي بين البلدين.
5- التنافس الاقتصادي العالمي: تُعَد الولايات المتحدة والصين الآن أكبر اقتصادين في العالم، ويتنافسان بشكل متزايد على حصتهما في السوق العالمية في عدد من القطاعات الرئيسية، بما في ذلك التكنولوجيا والتصنيع والطاقة، وقد أدت هذه المنافسة إلى زيادة التوترات بين البلدين؛ حيث يسعى كلٌّ منهما إلى حماية مصالحه الاقتصادية؛ إذ شهدت الصين نمواً اقتصادياً سريعاً في العقود الأخيرة، وهو ما أدى إلى تحدي مكانة الولايات المتحدة باعتبارها قوة عظمى رائدة في العالم؛ لذلك تتواصل الجهود الأمريكية لتحجيم الصعود الصيني في المجالات الاقتصادية والتقنيات التكنولوجية الحساسة، التي بدأت منذ إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب؛ حيث انخرطت الولايات المتحدة والصين حينها في حرب تجارية منذ عام 2018، وهي الحرب التي تسببت – ولا تزال تتسبب – في أضرار كبيرة لكلا الاقتصادين.
6- استمرار الخلاف السياسي بين البلدين: اتصالاً بما سبق، تهدف الإدارة الأمريكية من خلال قرارها الأخير إلى وضع المزيد من الضغوط الاقتصادية على بكين؛ وذلك على خلفية تنامي حدة الخلافات السياسية بينهما في العديد من الملفات، ومنها حادثة بالون التجسس الصيني في فبراير الماضي، بجانب التوترات الجيوسياسية بشأن القضية التايوانية التي لا تزال مصدر توتر كبير بين الجانبين، وانتهاكات حقوق الإنسان في إقليم شينجيانج الصيني، ناهيك عن الدعم الصيني اللامحدود لموسكو منذ اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير 2022، على الرغم من أن بايدن أشار إلى أن الصداقة لم تمتد إلى شحن الأسلحة.
تصعيد محتمل
مما لا شك فيه أن لهذا القرار العديد من التداعيات الخطيرة على العلاقات الأمريكية–الصينية بوجه خاص، والاقتصاد العالمي بوجه عام، خاصةً في ضوء الاستياء الصيني الشديد منه، ويمكن الإشارة إلى أبرز تداعيات هذا القرار على النحو التالي:
1- تصاعد الاحتجاج الصيني: فور صدور القرار الأمريكي، سارعت بكين إلى الرد بتوجيه احتجاج رسمي لواشنطن عبر قنواتها الدبلوماسية؛ حيث ندَّد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية بالقرار الأمريكي، وذكر أن “بكين غير راضية تماماً، وتُعارِض بشدة إصرار الولايات المتحدة على فرض قيود على الاستثمار في الصين”، مضيفاً أن بلاده “قلقة للغاية بشأن هذا الوضع، وتحتفظ بالحق في اتخاذ إجراءات مضادة”، وقال أيضاً إن "الصين تعارض استخدام الولايات المتحدة المفرط للأمن القومي لتسييس وتسليح التجارة والقضايا العلمية والتكنولوجية، وتتعمَّد وضع العقبات أمام التبادلات الاقتصادية والتجارية الطبيعية والتعاون التكنولوجي".
وفي بيان منفصل، قال متحدث باسم وزارة التجارة الصينية إن المرسوم "ينحرف بشكل خطير عن مبادئ اقتصاد السوق والمنافسة العادلة التي لطالما روَّجت لها الولايات المتحدة، ويؤثر على قرارات الأنشطة التجارية العادية، ويضر بالنظام التجاري الدولي، ويُقوِّض بشكل خطير أمن سلاسل الصناعة والتوريد العالمية".
2- تباطؤ الاستثمارات الأمريكية في الصين: بالرغم من محاولات وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين طمأنة نظرائها الصينيين، خلال زيارتها الأخيرة إلى بكين، وتصريحها بأن “أي قيود على الاستثمارات ستكون مستهدفة بعناية، وموجهة بوضوح، ومحدودة لبضعة قطاعات لدى واشنطن مخاوف متعلقة بالأمن القومي بشأنها”، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن التأثير الإجمالي سيكون محدوداً؛ حيث قد تعمد شركات – وإن كانت غير مستهدفة مباشرةً بهذه القيود – إلى التفكير في نوع الاستثمارات التي تنوي ضخها في الصين، وهو ما يمكن أن يقلص حجم الاستثمارات الثنائية في المدى الطويل.
وبالرغم من استهداف القرار الأمريكي قطاعات محددة، فإنه قد يُلقِي بظلاله على وضع الاستثمارات الأمريكية بشكل كلي في الصين، التي بدأت تنضب بالفعل؛ حيث تراجعت استثمارات الأسهم الخاصة الأمريكية والمشاريع الاستثمارية في الصين إلى أدنى مستوى لها في ثماني سنوات خلال عام 2022، وهو اتجاه استمر خلال النصف الأول من هذا العام، وفقاً لبيانات PitchBook؛ إذ انخفض إجمالي رأس المال الاستثماري الأمريكي في الصين إلى 9.7 مليار دولار في عام 2022، مقارنةً بنحو 32.9 مليار دولار في عام 2021، بينما سجل نحو 1.2 مليار دولار فقط خلال النصف الأول من العام الجاري.
3- إمكانية تبني بكين سياسات تقوض أهداف واشنطن: نشرت مجلة إيكونوميست تقريراً بعنوان “استراتيجية جو بايدن تجاه الصين لا تعمل”، أشارت فيه إلى أن الاستراتيجية الأمريكية لمحاصرة النفوذ الاقتصادي الصيني قد تأتي بنتائج عكسية على واشنطن، وقد تؤدي في المقابل إلى تعميق الروابط الاقتصادية بين الصين ودول أخرى، بما يجعل هدف محاصرة الصين مستحيلاً، بل في المقابل قد يزيد نفوذها الاقتصادي.
وبالرغم من أن السياسات الأمريكية تجاه الصين قلَّصت واردات الولايات المتحدة المنخفضة التكلفة من الصين من نحو الثلثين في 2018 إلى نحو النصف العام الماضي، وانخفضت استثمارات الشركات الصينية في أمريكا من 48 مليار دولار في عام 2016، إلى 3.1 مليار العام الماضي؛ فإن الصين أعادت توجيه استثماراتها إلى دول آسيوية أخرى، وباتت هناك روابط أقوى تجمع بين الصين وبين تلك الدول؛ حيث يتم إعادة تغليف البضائع الصينية وإرسالها عبر دول ثالثة إلى الولايات المتحدة. وفي مجالات أخرى، مثل المعادن الأرضية النادرة، تواصل الصين تقديم مدخلات يصعب استبدالها؛ حيث لا يمكن للقواعد الأمريكية الجديدة، بحسب التقرير، تخليص سلسلة التوريد بأكملها من النفوذ الصيني.
4- تعقيد مواقف حلفاء واشنطن: سبق أن ناقش الرئيس الأمريكي ومساعدوه الجهود المشتركة للحد من الاستثمار في التكنولوجيا العالية مع نظرائهم في اجتماع قمة مجموعة السبعة الأخيرة في مدينة هيروشيما اليابانية؛ حيث أشار وقتها العديد من الحلفاء، بما في ذلك بريطانيا والاتحاد الأوروبي، علانيةً إلى أنهم قد يحذون حذوها.
وبينما يأمل المسؤولون الأمريكيون أن يفرض الحلفاء حظراً مماثلاً، أكدت حكومة المملكة المتحدة أنها تبحث في إجراءات جديدة لتقييد الاستثمار الخارجي في الصين، كما أعربت ألمانيا والمفوضية الأوروبية عن اهتمامهما بتطوير إجراءاتهما الخاصة، وفقاً لمسؤولي البيت الأبيض، إلا أن ذلك لم يتبعه دعم علني وواضح للقرار الأمريكي، أو إعلان قرارات مماثلة كما تأمل الإدارة الأمريكية. ومن جانب آخر، أوضح المسؤولون في اليابان، وهي من أقرب حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، أن طوكيو لا تنوي مراجعة التشريعات الخاصة باستثماراتها في الصين.
5- تزايد ضغوط الجمهوريين على إدارة “بايدن”: بالرغم من التأييد الداخلي للقرار الأمريكي الأخير، فإن الجمهوريين يعتبرون أن قرارات بايدن لا تعد كافية؛ فبينما أشاد رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب مايكل ماكول، بالخطوة لتقييد الاستثمارات الخارجية الجديدة في الصين، قال: “إن الفشل في تضمين استثمارات التكنولوجيا الحالية بالإضافة إلى قطاعات مثل التكنولوجيا الحيوية والطاقة أمر مثير للقلق”.
من جانبه، قال السيناتور الجمهوري ماركو روبيو، إن خطة إدارة بايدن “مثيرة للضحك”، مشيراً إلى أنها مليئة بالثغرات، وفشلت في تضمين الصناعات التي تعتبرها الحكومة الصينية حاسمة بالنسبة إليها، وهو ما قد يضع الإدارة الأمريكية في موقف ضغط لإجبارها على اتخاذ المزيد من الإجراءات المعادية لبكين.
6- اضطراب نشاط شركات التكنولوجيا الصينية: تشير العديد من التقديرات إلى أن عمالقة شركات التكنولوجيا الصينية تسعى للحصول على رقائق بقيمة 5 مليارات دولار من شركة (Nvidia) الأمريكية العالية الأداء والحيوية لبناء أنظمة ذكاء اصطناعي توليدية. وفي هذا السياق، يمكن أن تكون هذه المساعي عرضةً للاضطرابات؛ إذ تتزايد المخاوف من أن تفرض الولايات المتحدة ضوابط جديدة على الصادرات؛ حيث أصدرت شركات (Baidu) و(ByteDance) و(Tencent) و(Alibaba) الصينية طلبات لشراء نحو 100 ألف معالج A800 من شركة تصنيع الرقائق الأمريكية ليتم تسليمها هذا العام، بحسب بعض التقارير، كما ذكرت تقارير أن المجموعات الصينية اشترت أيضاً ما قيمته 4 مليارات دولار إضافية من وحدات معالجة الرسومات ذاتها من شركة (Nvidia)، على أن يتم تسليمها في عام 2024.
ختاماً، تعد الاختلافات في العلاقات بين واشنطن وبكين معقدة ومتعددة الأوجه، باعتبارها نتيجةً لعدد من العوامل، بما في ذلك المنافسة الاقتصادية والخلافات السياسية والمخاوف الأمنية. ومن ثم فإن من المرجح أن تستمر هذه الاختلافات في فرض مزيد من التحديات على العلاقة بين البلدين خلال السنوات القادمة، كما يمكن لهذه الخطوة الأخيرة أن تغذي التوترات بين أكبر اقتصادَين في العالم، على الرغم من أن المسؤولين الأمريكيين يُصِرون على أن هذا التقييد يهدف إلى معالجة مخاطر الأمن القومي الأكثر حدةً، لا إلى الفصل بين الاقتصادَين المترابطَين للغاية في البلدين.