أعلن تنظيم "داعش" عن مقتل زعيمه الرابع أبو الحسين الحسيني القرشي، في تسجيل صوتي بثه التنظيم في 3 أغسطس الجاري (2023)، وهو الإعلان الذي تأخر ما يقرب من ثلاثة أشهر منذ إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن مقتله في بداية مايو من العام الجاري (2023). وقد وجّه تنظيم "داعش" اتهامات إلى تنظيم "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) بقيادة أبو محمد الجولاني، بقتل أبو الحسين القرشي في منطقة ريف إدلب، بالإضافة إلى قتل المتحدث الرسمي للتنظيم أبو عمر المهاجر، كما اتهم التنظيم الهيئة بالتعاون مع تركيا في عملية قتل زعيمه.
هذا الإعلان يأتي بعد ستة أشهر من مقتل زعيم التنظيم السابق أبو الحسن الهاشمي القرشي في 30 نوفمبر 2022 بمحافظة درعا جنوب سوريا، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول أسباب تسارع وتيرة عمليات استهداف قيادات التنظيم؟ وهل هذه العمليات المتسارعة كانت نتيجة اختراق التنظيم أم لا؟
شمال غرب سوريا مقر قيادات "داعش"
منذ هزيمة تنظيم "داعش" في الموصل، في 10 يوليو 2017، انتقلت قيادات التنظيم إلى سوريا وارتكزت في دير الزور والرقة. ومع سقوط آخر معاقل التنظيم في الباغوز في 24 مارس 2019، وانهيار ما يطلق عليها "الخلافة المكانية" للتنظيم، ونجاح مليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية (قسد) بالتعاون مع التحالف الدولي لمكافحة "داعش" في فرض حصار على تحركات التنظيم بمناطق شمال شرق سوريا، انتقلت قيادات التنظيم إلى مناطق شمال غرب سوريا بريف إدلب وحلب.
وخلال السنوات الأربع الماضية، تم استهداف أربعة من زعماء "داعش" بمعدل قتل زعيم كل عام تقريباً. فمنذ مقتل أبو بكر البغدادي الزعيم الأول والمؤسس لما يسمى "دولة الخلافة الداعشية"، في 27 أكتوبر 2019، بمنطقة ريف إدلب والتي تخضع لسيطرة تنظيم "هيئة تحرير الشام"، توالت الضربات الأمنية ضد قيادات التنظيم وقتلهم بنفس المنطقة، حيث تم استهداف أبو إبراهيم القرشي الزعيم الثاني للتنظيم في 3 فبراير 2022 بمنطقة ريف إدلب.
وبعد عام ونصف، تم استهداف أبو الحسين الحسيني القرشي -الزعيم الرابع للتنظيم- في بداية مايو 2023، بمنطقة ريف حلب، بالإضافة إلى استهداف قيادات التنظيم (مجلس شورى التنظيم) بمناطق شمال غرب سوريا مثل أبو سارة العراقي والذي قُتل في قرية مشهد روحين بريف إدلب الشمالي، والمتحدثين السابقين للتنظيم أبو الحسن وأبو حمزة واللذين قُتلا في جرابلس (حلب)، ومسئول التنظيم في سوريا أبو سعد الشمالي والذي قُتل في منطقة الباب (حلب)، ومسئول ديوان الإعلام أبو بكر الغريب الذي قتل في عفرين (حلب).
ويعني ذلك في المقام الأول أن قيادات التنظيم جعلت من شمال غرب سوريا نقاط ارتكاز لها، رغم أن هذه المنطقة تسيطر عليها "هيئة تحرير الشام" بقيادة أبو محمد الجولاني، وهو ما يطرح تساؤلات حول دور "الهيئة" في المساعدة على استهداف قيادات تنظيم "داعش" الثلاثة خلال الأعوام الأربعة الماضية.
وثائق "داعش" المسربة و"هيئة تحرير الشام"
مع إعلان تنظيم "داعش" عن مقتل زعيمه الأخير أبو الحسين الحسيني الهاشمي، واتهام التنظيم لـ"هيئة تحرير الشام" باستهدافه، ورد "الهيئة" بنفي أي علاقة بعملية الاستهداف، وبعيداً عن الاتهامات المتبادلة، فإن عمليات الاستهداف لقيادات تنظيم "داعش" في مناطق سيطرة "الهيئة" تطرح العديد من التساؤلات حول دور "الهيئة" في المساعدة في عمليات استهداف قيادات "داعش" سواء بشكل مباشر أو غير مباشر نتيجة سيطرة "الهيئة" على مناطق اختباء قيادات التنظيم.
الإجابة على هذه التساؤلات يمكن استنتاجها من خلال تحليل وثائق تنظيم "داعش"، والتي تم تسريبها عبر مجموعات منشقة عن التنظيم خلال الأيام الماضية تحت عنوان "فضح البغدادي والهاشمي"، وذلك على النحو التالي:
عامان من التهدئة بين "الهيئة" و"داعش"
1- منذ مقتل أبو بكر البغدادي في إدلب، في 27 أكتوبر 2019، توقف التصعيد بين تنظيم "داعش" و"هيئة تحرير الشام"، وهي فترة كانت العلاقة بين "الهيئة" وبعض دول الجوار في حالة تأزم متبادلة، على نحو دفعها إلى تقليص حدة التوتر في العلاقة مع "داعش"، وهو ما تؤكده رسالة من نائب مسئول التنظيم في سوريا أبو ناصر العراقي موجهة إلى مسئول الإعلام المركزي يعلن عن اتخاذ قرار من قيادات تنظيم "داعش" المركزية بعدم نشر أي صور أو فيديوهات أو بيانات تخص نشاط تنظيم "داعش" في إدلب ومناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام" بشمال غرب سوريا، وهي الرسالة التي نشرت بتاريخ 14 شوال 1441هـ، الموافق 6 يونيو 2020م، "برقم ص 41/ 602".
هذه الرسالة تشير إلى محاولة تنظيم "داعش" عدم استعداء تنظيم "هيئة تحرير الشام"، وتجنب الانخراط معها في مواجهة مفتوحة وعدم التصعيد، ما يدل على حدوث نوع من التفاهم بين "داعش" و"الهيئة"، مع تواجد العديد من قيادات التنظيم في مناطق سيطرة الأخيرة، وهو ما يؤكد أيضاً على استمرار تواجد قائد تنظيم "داعش" أبو ابراهيم الهاشمي القرشي في منطقة إدلب منذ توليه قيادة التنظيم وحتى مقتله في 3 فبراير 2022.
وعلى الرغم من إعلان التهدئة بشكل غير مباشر كما جاء في الرسالة الأولى، إلا أن تنظيم "داعش" نشر رسالة أخرى تؤكد على حدوث اختراق للتنظيم، وهي الرسالة الموجهة من نائب مسئول التنظيم في سوريا، أبو ناصر العراقي، إلى مسئول الإعلام في سوريا بتاريخ 27 رمضان 1442هـ، الموافق 9 مايو 2021م، برقم "ص 41/ 427"، ليعلمه بحدوث اختراق للتنظيم والحصول على اعتراف من قبل عناصر تم القبض عليها، وأن هوية مسئول الإعلام في سوريا تم الكشف عنها لأجهزة الأمن، ويطلب منه التخفي نتيجة الكشف عن هويته الحقيقية ومكان إقامته.
وجاءت الرسالة الثالثة من مسئول تنظيم "داعش" في سوريا السابق، أبو الحارث، إلى مسئولي أفرع التنظيم في سوريا، والتي أكدت على فصل بعض عناصر التنظيم نتيجة ثبوت عملية التجسس ومنهم أبو رياح الشمالي بفرع التنظيم بمنطقة إدلب، وهي الرسالة الموجهة بتاريخ 5 صفر 1442هـ، الموافق 22 سبتمبر 2020م، برقم "ص 42/ و.ش 390"، حيث أشارت إلى تعاون بعض عناصر التنظيم في كشف المعلومات لصالح "هيئة تحرير الشام"، وخصوصاً فرع التنظيم في إدلب وبعض مناطق شمال غرب سوريا.
هل أصبح فرع "داعش" في سوريا مخترقاً؟
هذا الاختراق لم يقتصر على عناصر من خارج التنظيم، سواء من قبل "هيئة تحرير الشام" أو أجهزة الأمن، إذ أن عملية الاختراق كانت داخل بنية التنظيم ووصلت إلى قيادات تنظيمية، وهو ما أشارت إليه بعض الوثائق عن العمالة المزدوجة مثل فايز العزيزي، ويوسف النابلسي (أبو البراء)، وأبو عمر جراد، وعبد الله الخميس، وماهر الصلخدي (أبو معاوية الفالح) شقيق زوجة أمير تنظيم "داعش" الأسبق أبو الحسن الهاشمي القرشي الذي اعترف بعلاقته المباشرة مع أجهزة الأمن السورية. بالإضافة إلى اتهامات متبادلة تجري داخل التنظيم تم الإعلان عنها من قبل عناصر منشقة عن التنظيم ونشر بعض الوثائق عنها ومنها اتهام نائب مسئول التنظيم في سوريا أبو عبدالله، بأنه مسئول عن تسريب معلومات تخص قيادات تنظيم "داعش" بهدف الاستهداف، وهو ما أشارت إليه بعض الوثائق في سياق الحديث عن حدوث خلاف حاد بين فرع التنظيم في العراق وسوريا، حيث يتهم التنظيم في العراق بعض عناصر التنظيم في سوريا بالمسئولية عن مقتل قيادات التنظيم عبر تسريب معلومات من داخل فرع سوريا، وهو ما أشارت إليه رسالة من مسئول فرع التنظيم في العراق أبو مسلم العراقي إلى قيادة التنظيم في العراق والتي طالب فيها بوقف الاتصال مع فرع التنظيم في سوريا لكونه مخترقاً ويشكل تهديداً على فرع التنظيم في العراق.
في المجمل، يشهد تنظيم "داعش" خلال العامين الماضيين حالة من الاختراق والتراجع والانقسام وخصوصاً بمناطق الارتكاز في كل من العراق وسوريا، يضاف إليها الخلافات والاتهامات المتبادلة بين الفرعين الرئيسيين للتنظيم في العراق وسوريا، وهو ما يطرح تساؤلات حول مستقبل التنظيم في ظل الانقسام بين فرعي القيادة والارتكاز، وهذه التساؤلات التي تتكشف الإجابة عليها في بعض الوثائق الأخرى التي سوف يتم تناولها لاحقاً.