• اخر تحديث : 2024-04-30 13:50
news-details
تقدير موقف

كيف تؤثر وكالات التصنيف الائتماني في الاقتصاد العالمي؟


أثارت التصنيفات السلبية التي أصدرتها وكالات التصنيف الائتماني في السنوات الماضية، وعلى وقع الأزمات الاقتصادية العالمية، والتي كان آخرها التصنيف الصادر من وكالة التصنيف الائتماني “موديز” في أغسطس 2023، بشأن عدد من البنوك الأمريكية؛ تساؤلات جوهرية حول دور وكالات التصنيف في الاقتصاد العالمي؛ فمنذ نحو أكثر من قرن، ظهرت وكالات التصنيف الائتماني لتشكل آلية شديدة الأهمية في تقدير مستوى المخاطر التي ينطوي عليها الاستثمار أو إقراض الأموال لشركة معينة أو كيان بعينه، بما في ذلك الحكومات الوطنية وحكومات الولايات والوكالات الحكومية، وهو بمنزلة تقييم مستقل للجدارة الائتمانية للأعمال أو الكيانات الحكومية بوجه عام. وبينما يشير التصنيف الائتماني المرتفع إلى أنه من المرجح – بحسب رأي وكالة التصنيف – أن يستطيع مُصْدِر السندات سداد ديونه للمستثمرين دون صعوبات، فإن التصنيف الائتماني الضعيف يشير إلى احتمالية مواجهة مُصدري السندات صعوبات في سداد مدفوعاتهم وربما التعثر تماماً عن السداد.

وهو ما يكون مفيداً بالنسبة إلى المستثمرين والمُقرِضين؛ حيث يلجؤون إلى تلك التصنيفات الائتمانية لتقرير إذا ما كان عليهم القيام بأعمال تجارية مع الكيان المصنف، ولتحديد مقدار الفائدة التي يتوقعون الحصول عليها لتعويضهم عن المخاطر التي ينطوي عليها الأمر. وفي هذا السياق، عادةً ما تقوم وكالات التصنيف الائتماني بتعيين درجات للكيانات التي تصنفها. وعلى سبيل المثال، تمتلك (S&P Global) مقياس تصنيف ائتماني من AAA (ممتاز) إلى C وD.

جدير بالذكر أنه بالرغم من وجود نحو 150 وكالة تصنيف ائتماني معتمدة تعمل في نحو 32 دولة، فإن سوق التصنيف الائتماني تسيطر عليه ثلاث وكالات رئيسية؛ هم: (Moody’s) و (Standard & Poor’s) و(Fitch)، حيث تتولى مهمة تقييم الوضع المالي، وينصب تركيزها الأساسي على تقييم القدرة على سداد الديون، باعتباره المعيار الأكثر أهميةً بالنسبة إلى المستثمرين.

أدوار رئيسية

تلعب وكالات التصنيف الائتماني عدة أدوار رئيسية، تؤثر بصورة رئيسية على قرارات المستثمرين والمقرضين، ويمكن استعراضها فيما يأتي:

1- تزويد المستثمرين بالمعلومات المالية: تُزوِّد التصنيفات الائتمانية المستثمرين الأفراد والمؤسسات بالمعلومات التي تساعدهم في تحديد إذا ما كان مُصدِرو السندات وأدوات الدين الأخرى والأوراق المالية ذات الدخل الثابت سيكونون لديهم القدرة على الوفاء بالتزاماتهم أم لا؛ حيث تقدم وكالات التصنيف الائتماني تحليلات وتقييمات مستقلة حول الشركات والدول التي تُصدِر هذه الأوراق المالية.

2- تقديم معلومات حول الديون السيادية للدول: تُوفر وكالات التصنيف الائتماني كذلك معلومات حول الديون السيادية للدول المختلفة؛ حيثيتم إصدار تصنيفات ائتمانية سيادية للبلدان، ويُحلَّل وَفقَها الجدارة الائتمانية العامة لبلد أو حكومة أجنبية. وتأخذ التصنيفات الائتمانية السيادية في الاعتبار الظروف الاقتصادية العامة للبلد، بما في ذلك حجم الاستثمار الأجنبي العام والخاص، وشفافية سوق رأس المال، واحتياطيات العملات الأجنبية.

كما يتم تقييم التصنيفات السيادية وفقاً للظروف السياسية، كالاستقرار السياسي العام، ومستوى الاستقرار الاقتصادي الذي ستُحافِظ عليه الدولة خلال فترات الانتقال السياسي، وهي التصنيفات التي تكون مهمة للمستثمرين؛ إذ من شأنها أن تساعدهم في تقدير المناخ الاستثماري العام لدولة معينة، وتحديد إذا ما كانوا سيستثمرون في شركات وصناعات وفئات معينة من الأوراق المالية الصادرة في بلد معين.

3- إصدار تصنيفات ائتمانية للشركات الفردية: كذلك تصدر الوكالات الائتمانية التصنيفات الائتمانية أو تصنيفات الديون أو تصنيفات السندات للشركات الفردية ولفئات معينة من الأوراق المالية الفردية، كالأسهم الممتازة، وسندات الشركات، وفئات مختلفة من السندات الحكومية، وهي التصنيفات التي يمكن تعيينها بشكل منفصل لكل من الالتزامات القصيرة الأجل والطويلة الأجل.

حيث تقوم التصنيفات الطويلة الأجل بتحليل وتقييم قدرة الشركة على الوفاء بمسؤولياتها فيما يتعلق بجميع أوراقها المالية الصادرة، فيما تركز التصنيفات القصيرة الأجل على قدرة الأوراق المالية المحددة على الأداء بالنظر إلى الوضع المالي الحالي للشركة وظروف الصناعة بشكل عام.

4- توفير تصنيف موثوق حول الجدارة: يمنح التصنيف المستثمرين معلومات حول مخاطر الاستثمار؛ فنظراً إلى أن أسعار الفائدة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمخاطر التخلف عن سداد الائتمان، فإن بإمكان المشاركين في السوق استخدام هذه المعلومات لحساب معدل الفائدة المناسب للاستثمار. وهو ما يُحمِّل وكالات التصنيف الائتماني مسؤولية كبيرة للغاية للموازنة بين عملها حارسةً للأسواقوالمؤسسات المالية في النظام المالي بوجه عام، وبين سعيها الطبيعي إلى تحقيق الأرباح بصفتها شركات خاصة.

5- معالجة عدم التناسق المعلوماتي في أسواق رأس المال: تلعب وكالات التصنيف دوراً كبيراً في معالجة عدم تناسق المعلومات في أسواق رأس المال بين الدائن والمدين، وكذلك بين المقرضين والمستثمرين من ناحية وبين مُصدري السندات من ناحية أخرى. بيد أن ذلك الدور يُؤخَذ عليه المبالغة في رد الفعل أو التدخل المتأخر، بحيث لا يكون بالإمكان تصحيح الأوضاع قبل وقوع الكارثة، بما يؤدي إلى تفاقم الأزمات المالية، ومن ثم عدم الاستقرار المالي.

6- التأثير على مُصدري السندات: في الوقت الحاضر، تلعب وكالات التصنيف الائتماني دوراً مهماً في النظام المالي؛ إذ لديها القدرة على فتح السوق العالمية للمُصدرين، والتأثير بقوة على تكلفة تمويلهم من خلال الحكم على مقدار أهليتهم الائتمانية؛ إذ عادةً ما يتعامل العديد من المستثمرين مع الأدوات المالية فقط التي تصنفها وكالات التصنيف الائتماني، وهو ما يشير إلى تأثير مباشر وقوي لوكالات التصنيف الائتماني على مُصدري السندات وآلية عملهم وفرصهم في النظام المالي.

7- الاضطلاع بدور رئيسي في التمويل العالمي: تلعب التصنيفات الائتمانية دوراً أساسياً في التمويل العالمي من خلال تقييم إذا ما كان بإمكان المقترضين الوفاء بالتزاماتهم المتعلقة بالديون؛ إذ يدرس محللو الوكالات الائتمانية البيانات المالية لإجراء تقييمات أولية حول مصدري السندات، الذين يشملون الشركات والبلدان والدول والحكومات المحلية، ثم يُخضع العديد من المحللين بالوكالات آراءهم الأولية لمستويات إضافية من التدقيق؛ حيث يقومون بتقييم المزيد من المعلومات النوعية من مصادر أخرى، كالمقابلات مع الإدارة، والموردين والشركاء، ويقومون بمراجعة متعمقة للخطط الاستراتيجية الأساسية. واستناداً إلى كل من البيانات المالية والتعديلات النوعية، يستطيع المحللون بذلك تكوين رأي حول “قدرة واستعداد” المُصدر على السداد للمستثمرين الذين يشترون سندات الدين.

8- تقديم تقييمات طويلة وقصيرة الأجل: تعكس التصنيفات الائتمانية الصادرة عن وكالات التصنيف آفاقاً زمنية مختلفة؛ فبينما تعكس التصنيفات الائتمانية القصيرة الأجل احتمالية تخلف المقترض عن سداد دين خلال العام الجاري على سبيل المثال – ولعل ذلك النوع من التصنيف الائتماني هو ما يُعَد المعيار المُتبع في عمل وكالات التصنيف الائتماني في السنوات الأخيرة – فإنها على الجانب الآخر، تُقدِّم تصنيفات ائتمانية طويلة الأجل؛ حيث تتنبأ التصنيفات الائتمانية الطويلة الأجل باحتمال تخلف المقترض عن السداد في أي وقت في المستقبل الممتد، وهو النوع الذي كان أكثر تأثيراً في الماضي.

انتقادات رئيسية

رغم الأدوار الواضحة التي تمارسها وكالات التصنيف الائتماني، فإن هناك انتقادات عديدة تُوجَّه إلى آليات عمل تلك الوكالات، وهو ما يمكن تناول أبرزها فيما يأتي:

1- الإخفاق في التعرف على تهديدات النظام المالي: خلال الأزمة المالية لعام 2008، واجهت وكالات التصنيف الائتماني الكبرى انتقادات حادة؛ لفشلها في التعرف على مخاطر الأدوات الناشئة، كالأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، والتحذير منها. ولعل فشل الوكالات الائتمانية في التعرف على التهديدات التي يتعرَّض لها النظام المالي قبل الأزمة المالية العالمية، بجانب التخفيض المطرد للديون السيادية الأوروبية، هو ما ترتَّب عليه خضوع تلك الوكالات لمزيد من التدقيق والتشكيك في مدى قدرتها على تقدير المخاطر قبل حدوثها بوقت كافٍ، لا سيما من قِبل السياسيين والاقتصاديين. بيد أن ذلك يُرَد عليه بأن الأزمات المالية يَصعُب التنبُّؤ بها بوجه عام، وليس فقط من قِبل وكالات التصنيف الائتماني، كما أن فروق أسعار الفائدة الدولية والتنبُّؤات بقيمة العملات، يُضعِف دورها في التنبُّؤ بمثل هذه الأزمات.

2- التبعية للسوق لا قيادته: تتجه بعض الانتقادات إلى القول بأن التصنيفات السيادية للوكالات عادةً ما تتبع السوق بدلاً من أن تقوده؛ إذ غالباً ما تتحيَّز وتميل ناحية الجانب المتفائل؛ ما يجعلها أكثر عُرضةً للوقوع في أخطاء التنبُّؤ الإيجابية، وعدم القدرة على التعامل مع الصدمات. كذلك تُنتقَد تصنيفات الوكالات بأنها غالباً ما تتفاعل فقط مع الأحداث في السوق بدلاً من التنبؤ بها، ويدلل المنتقدون على ذلك بحصول البنك الاستثماري ليمان براذرز على تصنيف استثماري من جميع وكالات التصنيف الثلاث الكبرى في يوم إفلاسه قُبيل الأزمة المالية العالمية في عام 2008، لا قبل ذلك بفترة كافية، بما يتيح الفرصة لإيجاد حلول فعلية لمنع الأزمة من الحدوث.

3- الانعكاسات السلبية للتصنيفات الائتمانية: يعتبر بعض المنتقدين أن تصنيفات الوكالات الائتمانية غير مسؤولة، ويدللون على ذلك بطريقة تعامل تلك الوكالات مع الأزمة المالية في اليونان، والمشاكل المالية في أيرلندا والبرتغال وإسبانيا، التي نتجت عن خفض التصنيف الائتماني لتلك البلدان؛ إذ ترتب على ذلك تفاقم المشكلات المالية لتلك البلدان، عبر التسبب في رفع أسعار السوق، وحظر وصول هذه البلدان إلى الأسواق المالية، وتقويض عمليات الإنقاذ التي يقوم بها صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. وفي هذا الصدد، أكدت لجنة تحقيق تابعة للكونجرس الأمريكي أن البنوك الإقليمية والبنوك الاستثمارية، قد لعبت دوراً رئيسياً في التسبب في الأزمة المالية العالمية، فيما طالب مفوض الاتحاد الأوروبي المسؤول عن الشؤون الاقتصادية والنقدية، بالقيام بإصلاح أساسي في قطاع التصنيف في مارس 2011.

4- غموض عمل الوكالات الائتمانية: تتجه الانتقادات إلى القول بصعوبة الوصول إلى البيانات الخاصة بوكالات التصنيف الائتماني، والمعايير التي تستند إليها في تصنيفاتها، باستثناء مؤسسة موديز للتصنيف الائتماني؛ إذ إنه نظراً إلى ما تعتبره تلك المؤسسات من حماية لأسرار العمل، فإنها لا تنشر النماذج الرياضية المستخدمة في تلك التصنيفات. وبهذه الطريقة، ليس من الممكن حتى بالنسبة إلى كبار المستثمرين الدوليين، التعرف على جودة التصنيف، بما يدفع إلى القول بغموض وعدم شفافية عمل تلك الوكالات نسبياً، ويعزز عدم الثقة بتلك الوكالات.

5- التقلب الواضح في تصنيفات التزامات الديون: قد تنبع الصورة السلبية لوكالات التصنيف جزئياً من التقلب الواضح في تصنيفات التزامات الديون المضمونة (CDO)، وهي سندات دين مضمونة بمجموعة من أدوات الدين، كالسندات أو الرهون العقارية. ولعل ذلك التقلب يعزوه المنتقدون إلى جهل الوكالات الائتمانية بالتفاعلات المعقدة في السوق الجديدة وتضارب المصالح.جدير بالذكر أن التصنيف السيادي، على عكس تصنيف الأوراق المالية، الذي يتعين على المدين؛ أي المُصدر للسند، أن يدفع مقابله؛ إذ إنه في حالة التصنيفات السيادية، يتعين على الدائن المحتمل أن يدفع هو مقابل تقرير التصنيف.

6- تضخيم المخاطر النظامية: يدَّعي صندوق النقد الدولي أن الأزمات السابقة أظهرت أيضاً أن وكالات التصنيف تُضخِّم المخاطر النظامية؛ لأنها تعمل في اتجاه مساير للدورة الاقتصادية. وبوصف آخر، تشجع الوكالات الائتمانية الاستثمار في فترات النمو الاقتصادي القوي، من خلال تصنيفاتها التي يمكن أن تعزز من تكوين فقاعات مضاربة؛ أي تضخم أسعار الأصول أو فئات أصول بشكل كبير، في حين أن الفترات التي تجد فيها الشركات أو البلدان نفسها في صعوبات مالية، فإن وكالات التصنيف الائتماني تزيد حدة المشكلة عن طريق خفض تصنيفاتها، بما يسهم في مضاعفة المخاطر.

7- تشوه سوق صناعة التصنيف الائتماني: يعد هيكل صناعة التصنيف الائتماني بمنزلة نقطة رئيسية في النقد الموجه إلى الوكالات الائتمانية؛ حيث تتحكم وكالات التصنيف الائتماني الثلاث الكبرى، الممثلة في تصنيفات مؤسسة موديز وستاندرد آند بورز (S&P) وتصنيفات فيتش، في نحو 93% من الحصة السوقية للاتحاد الأوروبي؛ وذلك في عام 2022. وعلى الرغم من محاولة بعض المؤسسات والحكومات توسيع نطاق سوق صناعة التصنيف الائتماني، فإن هذه الشركات الثلاث تستمر في السيطرة على التصنيفات، بما يجعل الوضع في تلك السوق أشبه بنمط احتكار للقلة.

8- تضارب المصالح داخل وكالات التصنيف الائتماني: لطالما ابتُليت صناعة التصنيف الائتماني بتضارب المصالح الحاد؛ ما أدى إلى مستوى عالٍ من تضخم التصنيف والفشل الكارثي لوكالات التصنيف الائتماني في أداء دورها وسيطاً للمعلومات المالية؛ فخلال الأزمة المالية 2007–2008، كانت الوكالات الائتمانية تميل إلى تخفيف التصنيف لضمان رضا الشركة أو الكيان المصنف؛ ما أثَّر على قدرتها على استشراف الأزمة.

وفي سبيل محاربة تضارب المصالح داخل تلك الوكالات، باتت وكالات التصنيف الائتماني تُصر على وجود فصل كامل بين أقسام المبيعات والتحليل، إلا أنه بالرغم من ذلك، تورطت الوكالات مجدداً في مأزق تضارب المصالح؛ ففي عام 2019، تم تغريم شركة فيتش بما يزيد عن 5 ملايين يورو لإخفاقها في الامتثال للتشريعات الخاصة بمنع تضارب المصالح، وكذلك تم تغريم وكالة موديز ما مجموعه 3.7 مليون يورو بعد تصنيف العديد من الكيانات التي كانت مساهمةً فيها شركة بيركشاير هاثاواي (Berkshire Hathaway)، التي يرأسها وارن بافيت، والتي تمتلك في الوقت ذاته ما يقرب من 25 مليون سهم في موديز، بما يجعلها أكبر مساهم في الشركة؛ حيث يمتلك 13.5% من جميع أسهم مؤسسة موديز.

وإجمالاً، رغم الانتقادات الحادة التي تُوجَّه لوكالات التصنيف الائتماني والتي تُشكك في مدى شفافية ومصداقية عملها، فإنها لا تزال تؤدي دوراً لا غنى عنه بالنسبة إلى المستثمرين والمقرضين، الذين يحتاجون دائماً إلى الضوء الأخضر الذي يتيح لهم اتخاذ القرار المناسب بشراء سندات بعينها، والابتعاد عن السندات التي تحمل مخاطر مالية كبيرة، وهو الدور الرئيسي الذي تضطلع به وكالات التصنيف الائتماني.