تشتبك مصر جذريا مع موجة التطبيع العربية مع إسرائيل، والتي وصلت آخر محطاتها إلى السودان، وهو البلد الذي يمثّل عمقا إستراتيجيا لمصر، وسط مؤشرات بشأن تمدّد هذه الموجة لتشمل عواصم عربية أخرى ذات ثقل، فما هي تداعيات وضع تل أبيب قدما لها جنوب مصر؟ وكيف ستتعامل الأخيرة مع إعادة صياغة المنطقة بموازينها الجديدة؟
تاريخيا كانت إسرائيل تصنّف سودانيا في فئة عدو إستراتيجي، وتوجّه إليها الاتهامات بدعم دعوات التمرد والحركات الانفصالية في السودان، لكن الحال تغيرت بشكل درامي.
في الـ23 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي أعلنت السودان وإسرائيل بوساطة أميركية تطبيع العلاقات بينهما، في حين ربط وزير الخارجية السوداني عمر قمر الدين دخول الاتفاق حيز التنفيذ بموافقة المجلس التشريعي (البرلمان) الذي لم يُشكل بعد.
وكما فعل مع التطبيع الإماراتي والبحريني سارع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى الترحيب بالتطبيع السوداني مع إسرائيل رغم تحذيرات معارضين ومقرّبين من نظامه، خاصة بعد بوادر التأثير السلبي للتطبيع الإماراتي الإسرائيلي على قناة السويس، وتزايد المخاوف من تغلغل تل أبيب وتموضعها في العمق الإستراتيجي لمصر.
وفي خضمّ الحديث عن التطبيع، اجتاحت موجة نشاط دبلوماسي وعسكري مكثف كلا من القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، وجاء هذا النشاط بعد استدعاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب للحل العسكري في أزمة سد النهضة، وقوله إن مصر "قد تفجّر السد".
وزار رئيس مجلس السيادة السوداني -عبد الفتاح البرهان- أديس أبابا الأحد لبحث ملفي سد النهضة وترسيم الحدود، بالتزامن مع انطلاق مفاوضات ثلاثية بشأن السد، بعدما كان قد زار مصر والتقى السيسي يوم الثلاثاء الماضي.
كما اختتم قائد الأركان المصري محمد فريد زيارة للخرطوم ضمّت أبرز قادة الجيش، وبشَّر خلالها بـ"توافق الرؤى بشأن صياغة إستراتيجية مشتركة لتحقيق مصالح البلدين الشقيقين"، ضمن مخرجات لقاء السيسي والبرهان قبل أيام.
أزمات معلّقة
بين القاهرة والخرطوم ملفات وقضايا تاريخية شائكة ومعلّقة، يأتي على رأسها النزاع على منطقة حلايب وشلاتين (الحدودية)، وأزمة سد النهضة، فضلا عن قصة أخرى تتعلق بتطلعات إسرائيل القديمة نحو مياه نهر النيل.
ومما يزيد من مخاوف التدخل الإسرائيلي في أزمة السد دعوة خبراء من تل أبيب -في ندوة افتراضية نظمتها الأخيرة بمشاركة خبراء ومسؤولين أفارقة- المصريين إلى "تقبّل الواقع الجديد بشأن السد، وتغيير وجهة نظرهم تجاه نهر النيل عموما".
وقد يخلق التطبيع أيضا مخاوف من انسيابية التعاون بين تل أبيب والخرطوم على حساب القاهرة، وذلك في مجالات كانت مصر اللاعب الرئيس المحتمل فيها على أرض السودان كالزراعة والتعدين، إضافة إلى مخاوف تخليص السودان من جذوره العربية والإسلامية التي طالما احتفظ بها تاريخيا.
الخاسر الأكبر
أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية الأسبق عبد الله الأشعل دعا حكومة بلاده إلى الانتباه من صفقة التطبيع، قائلا إن "النظام العسكري في السودان ينتظر 3 جوائز تتمثل في: استمراره في الحكم بضمان أميركي إسرائيلي، ومنحه حلايب وشلاتين، وانسياب التعاون مع واشنطن وتل أبيب على حساب جذوره العربية والإسلامية".
وحذّر الأشعل من أن "إسرائيل ستحوّل السودان إلى شوكة في حلق الأمن القومي المصري، وستشجّع على انفصال كردفان ودارفور، وستساند مطالب السودان في سد النهضة شكليًا ضد إثيوبيا".
الأشعل -المرشح الأسبق لرئاسة الجمهورية- أكد أن مصر هي الخاسر الأكبر ثم الشعب السوداني، معتبرا أن البشير أُزيح لأنه لم يقبل الصفقة مع إسرائيل، فانقلب عليه من هو مستعد لقبول التطبيع.
وتتزايد تلك المخاوف مع توقعات التدخل الأميركي والإسرائيلي في القرار السوداني في نزاعاته الداخلية، والدعوات الانفصالية في ملفات دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، مما قد يؤدي إلى تقسيمه على غرار انفصال جنوب السودان قبل سنوات، وفقا لمراقبين.
مناكفة
وفي السياق ذاته، أطلق أيضا كتّاب مقربون من النظام المصري تحذيرات من تداعيات "التطبيع المجاني" على الأمن القومي لمصر.
وأبرز تلك التحذيرات تحذير جاء من الكاتب الصحفي عبد الله السناوي في مقال نشره الأربعاء الماضي عن إعادة صياغة الشرق الأوسط من جديد بموازين قوى مختلفة، وتحكّم إسرائيل فى مفاصل العالم العربي وتفاعلاته الاقتصادية والإستراتيجية.
وقال السناوي إن الهدف من إغواء السودان بالتكنولوجيا الزراعية الإسرائيلية، والاستثمار في أزمة السد هو وضع قدم على النيل لمناكفة مصر في أمنها القومي، لعلها تحصل مستقبلا على حصة من مياه النيل.
وتوقّع أن ينذر ذلك بأزمات متفاقمة تعمل على تعميق أية خلافات بين مصر والسودان، كالنزاع الحدودي بشأن حلايب وشلاتين.
تطويق مصر
وفي السياق ذاته، حذَّر الكاتب والباحث المصري أحمد مولانا من تطويق إسرائيل لمصر عبر عمليات التطبيع التي جرت وتجري مع دول عربية، وفقدانها ملفات كانت تديرها سابقا في المنطقة، مشددا أن مصر تتقزّم في عهد السيسي.
وتوقع مولانا -في تصريحات للجزيرة- أن يكون السودان "نافذة للكيان الصهيوني للانفتاح اقتصاديا وتجاريا، وتوثيق العلاقات مع دول أخرى في العمق الأفريقي مثل أفريقيا الوسطى وتشاد (لهما حدود مشتركة مع السودان)".
وأوضح أن تشاد بنيتها التحتية متهالكة، في حين يمثل السودان أبرز منفذ لتصدير الذهب من بانجي، وهي مجالات مربحة لإسرائيل.
وأشار الباحث المصري إلى أن تطبيع العلاقات بين تل أبيب وأبو ظبي واكبه إقامة الإمارات قواعد استخبارية إسرائيلية في جزيرة سقطرى اليمنية التي تسيطر عليها الإمارات عبر المجلس الانتقالي الجنوبي، مما يعني تطويق مصر من الجنوب ومضيق باب المندب الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن وبحر العرب.
وسياسيا، رأى مولانا أن مصر ستفقد ساحة كانت هي اللاعب الأساس فيها كوسيط بين النظام والمعارضة أو بين الشمال والجنوب في السودان، متوقعا انتقال إدارة ملف مكافحة الإرهاب في وسط أفريقيا إلى الخرطوم، فضلا عن إدارة التفاوض في ملف سد النهضة.
وعن قضية حلايب وشلاتين، توقع الباحث المصري عدم تجاوزها حاليا المساحة التي تشغلها، لكنه أكد أنها تظل قضية حساسة قابلة للتصعيد.
أما عن تداعيات تقسيم المقسّم في السودان عبر أياد إسرائيلية، قال مولانا إن "السودان يحمل مقومات الانقسام ذاتيا، لذا تكثر فيه الحركات الانفصالية، وبالأخص في الغرب والشرق"، مضيفا "لا أظن أن إسرائيل ستحرص على تفككه بعد التطبيع، بل ستستفيد من العلاقات الودية التي بدأت بينهما أخيرا".
وعن الموقف المصري حيال التطبيع الإسرائيلي مع الجار الجنوبي، أوضح أن مصر ستحاول إقامة مشاريع مشتركة مع السودان من أجل التقريب بين النظامين، وهو ما يتجلى أخيرا في اتفاقيات للربط الكهربائي المشترك، وإقامة خط سكة، فضلا عن التعاون العسكري وتأمين الحدود.