شهدت السنوات القليلة الماضية تنامي القوة الناعمة الصينية تدريجياً، وبخاصة بعد أن أصبحت الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، و”مصنع العالم” وأكبر مُصدِّرٍ للعديد من المنتجات الرئيسية، بيد أن اللافت في هذا السياق هو قدرتها على اختراق بعض الدول والمجتمعات – بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية – من خلال جملة من الأدوات التي تمكنها من تحسين صورتها الدولية، وتجنيد عدد من القيادات الحالية والسابقة لتحقيق أهدافها؛ إذ نجحت بكين في تشكيل لوبي متنوع داعم لها في الداخل الأمريكي.
الملامح الرئيسية
تمكنت الصين من التأثير في الداخل الأمريكي من خلال عدد من الأدوات مكَّنتها من تجنيد عدد من السياسيين الأمريكيين البارزين والتأثير في عدد من المؤسسات الأمريكية، كما يتجلى على النحو التالي:
1– استقطاب المسؤولين من خلال الأعمال التجارية: دفعت بعض التحليلات بتعدد السياسيين والمسؤولين الأمريكيين الذين يُسخِّرون جهودهم لصالح الصين من ناحية، وتربطهم بها مصالح تجارية وثيقة من ناحية ثانية؛ فقد احتفظت الحكومة الصينية والشركات الصينية ذات الصلات الوثيقة بالحزب الشيوعي الصيني، بعلاقات وثيقة بعدد من شركات العلاقات العامة في الداخل الأمريكي، كما حوَّلت مسؤولين أمريكيين سابقين إلى ما يشبه جماعات ضغط شخصية، ووظَّفت أيضاً قوتها الاقتصادية لفتح أبوابها أمام الشركات التي تلتزم بقواعدها التجارية مقابل إغلاق الباب أمام الشركات التي تتجاوز خطوطها الحمراء؛ ما منحها نفوذاً قوياً على الشركات الأجنبية التي تربطها بها مصالح تجارية من ناحية، ووجَّه أعين بعض المسؤولين الحكوميين الأمريكيين تجاه الصين قبل أن يغادروا مناصبهم حفاظاً على مصالحهم التجارية من ناحية ثانية.
2– تجنيد سياسيين سابقين: يتعدد السياسيون والمسؤولون الأمريكيون السابقون الذين يسعون إلى تحقيق مصالح الصين، ومن الأمثلة البارزة في هذا الصدد “شارل بستاني” الذي انضم إلى شركة الضغط المعروفة باسم “كابيتول كونسيلر”، التي لا تعدو كونها وكيلاً أجنبياً ذا صلة مباشرة بالحكومة الصينية؛ إذ يساعد في جلب وفود من أعضاء الكونجرس الأمريكي إلى الصين لتعزيز العلاقات بين الدولتين.
كما يبرز في هذا الإطار “جون بينر” رئيس مجلس النواب الأسبق الذي انضم إلى “سكوير باتون بوجز”، وهي شركة ضغط تخدم السفارة الصينية في واشنطن، بجانب “جون كريستنسون” الذي وظفته شركة الاتصالات الصينية العملاقة (ZTE Corp) باعتباره عضو ضغط بعد أن ترك الكونجرس، وكذا “ديفيد فيرستين” الذي التحق بمعهد الشرق والغرب ذي الصلة بمؤسسة التبادل التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالجبهة المتحدة التي تعد ذراعاً سياسية للحزب الشيوعي الصيني، كما دخل المعهد في شراكة مع بعض المنظمات الصينية المعروفة بصلاتها بوكالة الاستخبارات السياسية التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني، كما أدار “مايك هولتزمان” الشريك في شركة العلاقات العامة المعروفة باسم (BLF Worldwide) حملة إعلامية داعمة لرغبة الصين في استضافة أولمبياد 2008.
3– توظيف شبكة من المنظمات غير الربحية: خلص التحقيق الذي أجرته صحيفة “نيويورك تايمز”، في شهر أغسطس الجاري، إلى أن “نيفيل روي سينجهام” (رائد التكنولوجيا الأمريكي) ساعد في نشر الدعاية الصينية في جميع أنحاء العالم من خلال شبكة من المنظمات غير الربحية، كما خلص التحقيق إلى أن الصين دفعت مئات الملايين من الدولارات لمجموعات مرتبطة بها تُعرف باسم (Singham) ويقع مقرها في شنجهاي، وتدعم الحزب الشيوعي الصيني علناً. وقد شارك “سينجهام” في عدد من ورش العمل التابعة للحزب الشيوعي التي تروج له دولياً، وتهدف إلى تثقيف الأجانب حول المعجزات التي حقَّقتها الصين على المسرح العالمي. وقد ذكرت الصحيفة أن “سينجهام” يُعَد من أهم الأدوات التي توظفها الصين في عهد الرئيس الصيني “شي جين بينج” لحشد المؤثرين الأجانب كي ينشروا روايات إيجابية عنها.
4– التوسع في التأثير الثقافي: تهدف الصين إلى التأثير في مؤسسات التعليم العالي الأمريكية وصناعة الأفلام وقطاع التكنولوجيا وغير ذلك من مصادر القوة الناعمة الأمريكية؛ وذلك من خلال جملة من الأدوات قد تشمل الاستثمار والدعاية، وقد تصل إلى حد التجسس؛ فقد تعدد المراقبون الذي حذروا منذ عام 2017 – قبل إعلان البيت الأبيض أن الصين تشكل “خطراً مروعاً” على المصالح الأمريكية والرفاهية الاقتصادية والقيم – من التأثير السياسي الصيني على المجتمع والمؤسسات الأمريكية.
الأهداف المنشودة
يدور توظيف الصين للأدوات السابقة حول جملة من الأهداف يمكن الوقوف على أبرزها من خلال النقاط التالية:
1– التحكم في السردية المتداولة: تسعى الصين بشكل متزايد إلى تشكيل الروايات السياسية المتداولة عنها خارج حدودها، جنباً إلى جنب مع توظيف “دبلوماسية الذئب المحارب” في الداخل الصيني، بالتوازي مع تعدد وسائل الإعلام القومية التي ترعاها، واتجاهها المستمر لمعاقبة الشركات الأجنبية التي يسيء خطابُها للحزب الشيوعي الصيني.
ولتحقيق ذلك، تتجه الصين إلى تنويع أدواتها المستخدمة لتشمل التأثير التقليدي (من خلال استقطاب وكلاء داخل الدوائر السياسية الأجنبية على سبيل المثال)، والتقنيات الرقمية الحديثة (عبر اختلاق جيوش من الحسابات المزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي لمضايقة المعارضين وتشويه سمعتهم)، وتشكيل الخطاب العام، والضغط على الشخصيات السياسية التي تعتقد بكين أنها تعارض مصالحها، وإخماد الانتقادات الموجهة لها ذات الصلة بقضايا الحرية الدينية وقمع الديمقراطية في هونج كونج.
2– التأثير في الاستحقاقات السياسية الأمريكية: قد تتجه الصين في المستقبل إلى التأثير في أبرز العمليات السياسية الأمريكية، ممثلة في الانتخابات الرئاسية، لا سيما إن استمر التدهور في العلاقات الأمريكية–الصينية. وعلى صعيد متصل، تتخوف بعض الشخصيات القيادية الأمريكية من أن بكين قد تضغط على صانعي التطبيقات الصينية الشهيرة مثل “تيك توك” و”وي تشات” لدعم حملات تأثير سرية تستهدف الناخبين الأمريكيين، وهي الحملات التي ستعتمد في الأساس على حملات ترويج مصطنعة أو مضللة تنشر بعض الأفكار أو تمنع بعض المحتويات، استغلالاً لقدرة تلك التطبيقات على استهداف جماهير محددة في الوقت الذي تفرض فيه منصة “وي تشات” رقابة على موضوعات مثل مذبحة ميدان تيانانمين، وحركة “فالون جونج” الدينية. وفي سياق متصل، وفي أكتوبر 2022، أشارت وكالة “أسوشيتد برس” إلى تحذير استخباراتي أمريكي غير سري يشير إلى محاولة الصين التأثير في الانتخابات لإعاقة المرشحين الذين يُنظر إليهم على أنهم خصوم لها.
3– نشر الثقافة الصينية: لا يمكن التقليل من أهمية معاهد كونفوشيوس المنتشرة في ربوع العالم وفي الداخل الأمريكي أيضاً؛ إذ تهدف الصين من خلال تلك المعاهد إلى دفع وجهات النظر المؤيدة للحزب الشيوعي الصيني، والتأثير في الطلاب الأمريكيين، وخنق الحريات الأكاديمية تحت مسمى تعلم اللغة والثقافة الصينية، ومواجهة التوترات المتزايدة بين البلدَين، وهو ما يفرض صعوبات عدة على إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” لمجابهة التوسع المضطرد في القوة الناعمة الصينية داخل حدود الولايات المتحدة بأدوات ثقافية عدة تحقق أهدافاً سياسية.
ومن الجدير بالذكر في هذا الإطار أن معهد كونفوشيوس قد افتُتح لأول مرة في الولايات المتحدة في جامعة ميريلاند في عام 2004. وقد وصفه “لي تشانج تشون” (أحد كبار قادة الصين آنذاك) بأنه “قناة مهمة لتمجيد الثقافة الصينية ومساعدتها على الانتشار عالمياً، وجزء مهم من استراتيجية الدعاية الخارجية للصين”. ووفقاً لتحقيق أجراه مجلس الشيوخ في أبريل 2022، أنفقت الحكومة الصينية أكثر من 150 مليون دولار على معهد كونفوشيوس بين عامي 2006 و2019. وبحسب تقديرات، فإن هناك 143 منطقة تعليمية أمريكية في 34 ولاية – بجانب مقاطعة كولومبيا – تلقت نحو 17مليار دولار أمريكي من الصين منذ عام 2009 لإنشاء برامج داعمة للثقافة الصينية وتعلم اللغة.
4– محاولة التحكم في السياسة الأمريكية: دفعت بعض التحليلات بأن الصين تهدف إلى التدخل في السياسات الداخلية الأمريكية من خلال الضغط المكثف والسيطرة على وسائل الإعلام الأجنبية ونشر حملات تضليل معقدة في إطار أنماط التأثير التي تمارسها منذ عقود بهدف تغيير الروايات لصالحها وتجنيد السياسيين الموالين لها. وعلى الرغم من أن جهود بكين المتزايدة في الولايات المتحدة حديثة نسبياً، فقد أمضت الصين سنوات عدة لتطوير استراتيجيات يمكنها التأثير في القلب الأمريكي وفي عمق السياسات الداخلية.
ووفقاً للتقارير المقدمة إلى وزارة العدل بموجب قانون تسجيل الوكلاء الأجانب الأمريكي (FARA)، أنفقت الصين على مدار السنوات الست الماضية أكثر من 280 مليون دولار للتأثير في السياسات الأمريكية أكثر من أي دولة أجنبية أخرى؛ لتغيير وجهات نظر الأمريكيين تجاه الصين على نطاق أوسع. وقد استحوذت بعض المنصات الإعلامية على حصة كبيرة من إجمالي هذا المبلغ؛ فعلى سبيل المثال، تجاوزت حصة شركة البث الحكومية المعروفة باسم (CGTN) أكثر من 140 مليون دولار؛ وذلك للسيطرة على بعض المنافذ الإعلامية المتعاطفة مع بكين والموجهة إلى شرائح أمريكية بعينها.
كما أشارت “منظمة فريدوم هاوس” إلى أن محتوى وسائل الإعلام الحكومية الصينية يصل إلى مستهلكي الأخبار في الولايات المتحدة مباشرةً، من خلال محتويات مدفوعة من “تشاينا ديلي” ووكالة الأنباء “شينخوا” في المنافذ الإخبارية الوطنية والإقليمية.
5– التلاعب بالمؤسسات الأمريكية: تحاول الصين على نطاق واسع التلاعب بالحكومات المحلية والجامعات ومراكز الفكر ووسائل الإعلام والشركات الأمريكية بهدف تعزيز وجهات النظر المتعاطفة معها ومع حكومتها وسياساتها ومجتمعها وثقافتها بالاستفادة من مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة الحزبية وغير الحكومية لتعزيز أهدافها الساعية إلى بسط نفوذها؛ إذ تسعى بكين إلى تحديد وتنشئة السياسيين الصاعدين، وتوظيف شركات الضغط والعلاقات العامة البارزة، والتعاون مع منظمات المجتمع المدني المؤثرة.
وفي حرم الجامعات الأمريكية، توفر معاهد كونفوشيوس للحكومة الصينية إمكانية الوصول إلى الهيئات الطلابية الأمريكية، والضغط على الجامعات الأمريكية التي تستضيف الأحداث المسيئة لها. وفي مراكز الأبحاث، يُبلِّغ الباحثون والعلماء وغيرهم من العاملين، عن محاولات منتظمة من قبل الدبلوماسيين الصينيين والوسطاء الآخرين للتأثير على أنشطتهم داخل الولايات المتحدة، كما بدأت الصين تنشئ شبكتها الخاصة من مؤسسات الفكر والرأي الأمريكية.
وفي مجال الأعمال التجارية، تستخدم الصين شركاتها لتعزيز الأهداف الاستراتيجية في الخارج، واكتساب النفوذ السياسي، والوصول إلى البنية التحتية والتكنولوجيا الحيوية؛ فقد جعلت الصين من وصول الشركات الأجنبية المستمر إلى سوقها المحلية مشروطاً بامتثالها لموقفها من تايوان والتبت. وفي قطاع التكنولوجيا، تشارك الصين في جهد متعدد الأوجه لاختلاس التقنيات التي تعتبرها حاسمة لنجاحها الاقتصادي والعسكري. وفي وسائل الإعلام الأمريكية، اختارت الصين منافذ إعلامية موجودة باللغة الصينية، وأنشأت منافذ إعلامية أخرى جديدة خاصة بها.
6– جمع المعلومات الاستراتيجية: وفقاً لمركز مكافحة التجسس، يتزايد قلق أعضاء الكونجرس من النفوذ الصيني، بعد أن استهدفت بكين بشكل متزايد السياسيين المحليين ورؤساء البلديات والمحافظين ومشرعي الولايات، وكثفت جهودها لاستهداف قادة الولايات المتحدة والقادة المحليين، في استراتيجية وصفها البعض بأنها “استخدام محلي لتطويق الوسط”؛ ما يعني أن بكين تأمل التأثير على المستوى الوطني بطرق مختلفة. ومن الأمثلة البارزة في هذا الصدد الجاسوسة الصينية “فانج فانج” التي انخرطت مع السياسيين في منطقة خليج كاليفورنيا، بما في ذلك مكتب النائب إريك سوالويل، وفعلت الشيء نفسه مع عدد من رؤساء البلديات البارزين في الغرب الأوسط. وقد ذكر مسؤولو المخابرات الأمريكية الحاليون والسابقون أن “فانج” جمعت قدراً كبيراً من المعلومات الخاصة غير السرية حول المسؤولين الحكوميين والاستخبارات السياسية الأخرى، وأنها كانت ترسل هذه البيانات بشكل شبه مؤكد إلى الصين.
ختاماً، تدرك الولايات المتحدة خطورة التغلغل الصيني في العمق الأمريكي بطرق وأدوات عدة لتحقيق مصالحها وتغيير الصورة الذهنية عنها وغض النظر عن أي انتهاكات ترتكبها في مجال حقوق الإنسان. وفي المقابل، تتعدد الجهود الأمريكية الرامية إلى مراقبة وتقويض الأنشطة الصينية، وإن دفعت بعض التحليلات بأن الفضاء الإعلامي والإلكتروني، وتحديداً وسائل التواصل الاجتماعي، يجب أن تنال الاهتمام الأمريكي الأكبر؛ لأن الصين قد تتمكن من خلالها من التأثير في عموم المواطنين على نحو يتجاوز التأثير في بعض النخب الأمريكية من خلال الشركات التجارية والتمويل والإغراءات المالية.