تتأثر الثقة السياسية سلباً أو إيجاباً بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة، مع الأخذ في الاعتبار أن تراجع ثقة المواطن في الدولة يُعرَف بفقدان الثقة العام، وأن الثقة السياسية لها مستويات عدة؛ منها الفردي (ويقصد به الثقة في النخب السياسية)، والمؤسسي (ويقصد به درجة الثقة في مؤسسات النظام السياسي كالحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية). وقد دللت بعض استطلاعات الرأي الحديثة على تراجع ثقة المواطنين الأمريكيين في نخبتهم السياسية إلى حد تفضيل نخب أخرى، سواء بريطانية أو أوكرانية، على نحو يُثير التساؤلات عن حدود أزمة الثقة تلك، ومدى تأثيرها في الديمقراطية الأمريكية.
مؤشرات بارزة
تعددت المؤشرات الدالة على تراجع ثقة عدد كبير من الأمريكيين في نخبتهم السياسية، وهي المؤشرات التي يمكن الوقوف على أبرزها من خلال النقاط التالية:
1– تزايد إعجاب الأمريكيين ببريطانيا: أظهر استطلاع الرأي الذي أعلنت مؤسسة “جالوب” نتائجه في شهر أغسطس الجاري، أن الجمهوريين والديمقراطيين – على حد سواء – من أشد المعجبين بالأمير “ويليام” (أمير ويلز والابن البكر للملك “تشارلز الثالث” ملك بريطانيا) أكثر من إعجابهم بعدد كبير من القيادات السياسية الأمريكية. والأمر اللافت في هذا الصدد هو التوافق الحزبي النادر الذي برز في ذلك الاستطلاع بعد أن اتفق الديمقراطيون والجمهوريون على شعبية كل من الأمير “ويليام” والملك “تشارلز”؛ فقد أكد 63% من الديمقراطيين و65% من الجمهوريين حبهم للأمير “ويليام”، وكذا حبهم للملك “تشارلز” بنسبة 50% بين صفوف الجمهوريين و49% بين صفوف الديمقراطيين.
2– تناقص شعبية الجمهوريين: أشار استطلاع الرأي عينه إلى تراجع الثقة في رئيس مجلس النواب الأمريكي الجمهوري “كيفن مكارثي” بالمقارنة بالرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” وحاكم فلوريدا “رون ديسانتيس”؛ فقد حظي الأول بتقييم إيجابي بنسبة 67% فحسب، فيما حصل الثاني والثالث على تقييمات إيجابية بنسبتَي 76% و83% على الترتيب. كما يذكر في هذا الإطار أن 1 فقط بين كل 5 ديمقراطيين ينظرون إلى “مكارثي” بشكل إيجابي.
3– انخفاض شعبية القيادات الديمقراطية: لقد أظهر الاستطلاع نفسه كيف حظيت السيدة الأولى “جيل بايدن”، بجانب رئيس المحكمة العليا “جون روبرتس”، على تقييمات إيجابية، وهو ما يعني أن ثقة المواطنين في السيدة الأولى فاقت ثقتهم في الرئيس الأمريكي نفسه، بل فضل نصف الجمهوريين الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي”، وإن تمتع بشعبية أكبر لدى الديمقراطيين بنسبة بلغت 75%، فيما رأى 90% من المستطلعين أن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” غير مرغوب فيه، في أسوا شعبية سجلتها مؤسسة “جالوب” على الإطلاق. كما يذكر – في سياق متصل – أن الديمقراطي وزعيم الأقلية في مجلس النواب “حكيم جيفريز” لم يسمع به 37% من المبحوثين من قبل.
4– تراجع الثقة في الديمقراطية الأمريكية: تدلل أزمة الثقة السالفة على أزمة حادة في الديمقراطية الأمريكية عموماً، وهو الأمر الذي أكدته نتائج استطلاعات رأي سالفة في عام 2021، ومنها استطلاع لمركز “بيو” (Pew)، بعد أن أكدت تشكُّك كثير من الأمريكيين في صحة النظام الديمقراطي الأمريكي؛ فقد دفع 17% فقط من المبحوثين في المتوسط بأن الديمقراطية في الولايات المتحدة مثال جيد كي تتبعه الدول الأخرى، بينما اعتقد 57% أنها كانت مثالاً جيداً، لكنها لم تعَد كذلك في السنوات القليلة الماضية. كما أشار 23% إلى أن الولايات المتحدة لم تكن مثالاً جيداً على الإطلاق.
5– تعدُّد السوابق على تراجع شعبية النخبة الأمريكية: تجدر الإشارة – في هذا الإطار – إلى تعدد استطلاعات الرأي التي دللت سلفاً على تراجع الثقة في الحكومة الفيدرالية والقيادات الأمريكية، ومن ذلك – على سبيل المثال – استطلاع الرأي الذي أجراه مركز “بيو” للأبحاث في يوليو 2019، والذي أظهر أن ثلثَي البالغين من الأمريكيين لديهم ثقة ضئيلة أو معدومة في الحكومة الفيدرالية، وأن تلك الثقة آخذة في التقلص، وأن غياب تلك الثقة سيفاقم صعوبة حل بعض التحديات الرئيسة التي تواجهها البلاد. وفي السياق نفسه، دفع 68% من المبحوثين بأنه من الضروري إصلاح علاقة المواطنين بالحكومة الفيدرالية، فيما رأى 58% منهم ضرورة إصلاح علاقة المواطنين الأمريكيين بعضهم ببعض.
عوامل مُفسرة
تعود أزمة الثقة في النخبة السياسية الأمريكية إلى جملة من العوامل والأسباب يمكن الوقوف على أبرزها على النحو التالي:
1– تفاقم السياسات الحزبية المفرطة: دفعت بعض التحليلات بأن السياسات الحزبية الأمريكية أثرت سلباً في سمعة القيادات السياسية، وأنها طالت الرئيس الأمريكي “جو بايدن” ورئيس مجلس النواب “كيفن مكارثي” والمدعي العام “ميريك جارلاند”؛ فقد انتقصت الحزبية من ثقة المواطنين في المؤسسات والنخب السياسية، وأثرت في عموم القاعدة الانتخابية. ويدفع البعض بأن الثقة العامة باتت تقترب من أدنى مستوياتها التاريخية، وأن أزمة السياسة الأمريكية ليست مجرد أزمة حزبية، بل أزمة شرعية وأزمة ثقة عامة وأزمة قيادة. وفي هذا السياق، يقول Samuel Mace إنه "في ظل وجود مجموعات نخبوية تحاول توجيه الأوضاع السياسية والاقتصادية السائدة في المجتمع، يتفاقم الشعور بأن حياة الأمريكيين الشخصية لم تَعُد ملكاً لهم، بل تتحكم فيها فئات بعينها".
2– إخفاق النخب في مواجهة التحديات الأمريكية: يرجع غياب ثقة المواطنين الأمريكيين في نخبتهم السياسية إلى عجز تلك النخبة عن مجابهة عدد من التحديات التي تمس صميم حياتهم اليومية؛ فلا شك في تعدد التحديات التي تضع الاقتصاد الأمريكي في مأزق كبير، ومنها التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية–الأوكرانية، وارتفاع معدلات التضخم والفائدة، وتباطؤ سوق الإسكان، والإنفاق الحكومي المتزايد على البنية التحتية، وتباطؤ معدلات النمو الاقتصادي، وارتفاع سقف الدين إلى معدلات غر مسبوقة، وغير ذلك؛ إذ يمكن القول إن سمعة الولايات المتحدة داخلياً وخارجياً، وبالتبعية درجة الثقة في النخبة الحاكمة، عرضة لتغيرات حادة صعوداً وهبوطاً، تبعاً لعدد من العوامل، يأتي في مقدمتها الأوضاع المعيشية للمواطنين، بجانب درجة انخراط الولايات المتحدة عالمياً، والسياسة الخارجية الأمريكية.
3– تزايد التهديدات للحقوق المدنية الأمريكية: تعددت التحليلات التي تربط بين تراجع ثقة الأمريكيين في نخبتهم السياسية وبين قدرة الأخيرة على مجابهة واحدة من أكثر القضايا الداخلية حساسيةً، لا سيما في أعقاب مقتل الأمريكي من أصل إفريقي “جورج فلويد” على يد ضابط شرطة مينيابوليس “ديريك شوفين”؛ فقد كشف عدد من استطلاعات الرأي البارزة كيف يعد التمييز ضد مختلف المواطنين على أساس العرق أو الدين أو اللون واحد من أبرز الملفات الأمريكية الشائكة التي عجزت النخبة الأمريكية عن مجابهتها، لتصفها بعض التحليلات بأنها “جراح كامنة في جسد المجتمع الأمريكي”؛ لأنها تسلط الضوء على انعدام المساواة من ناحية، وثقل إرث العنصرية المتغلغلة في المؤسسات الأمنية والشرطية الأمريكية من ناحية ثانية.
4– استمرار تداعيات الترامبية: قوضت صورة “ترامب” الذهنية ثقة كثير من المواطنين في نخبتهم السياسية؛ فهو في نظر كثيرين لا يعدو كونه تهديداً دائماً للديمقراطية الأمريكية بعد أن هاجم تقريباً جميع المبادئ الديمقراطية الراسخة، سواء تلك المتعلقة بالتداول السلمي للسلطة أو نزاهة العملية الانتخابية، أو مشاركة المواطنين السياسية؛ فقد دفعت بعض التحليلات بأن الولايات المتحدة تعاني من أزمة ثقة تعكس بدورها وجود أزمة ديمقراطية قومية تطال النظام السياسي بأكمله، وأن الأزمة تكمن في شخص الرئيس السابق “ترامب” الذي ألقى بظلال من الشك على صحة الانتخابات الرئاسية، ولم يتعهد باحترام نتيجتها، وأجج مناخ الاستقطاب السياسي في الداخل، وتجاهل التقارير الاستخباراتية المتعلقة بالتدخل الروسي في انتخابات عام 2016، وتعمد التقليل من خطر فيروس كورونا، ووصف التصويت البريدي بالاحتيالي لتشويه سمعة النتائج مقدماً للاعتراض على الهزيمة المحتملة. وانطلاقاً من تلك السياسات مجتمعة، بات “ترامب”، من وجهة نظر الكثيرين، الخطر الأكبر الذي يقوض المؤسسات والآليات الديمقراطية، لا سيما في ظل عجزها عن مجابهة سياساته.
ومن شأن رغبة “ترامب” في خوض السباق الرئاسي مجدداً أن تعيد إلى الأذهان شبهات الفساد والاستقطاب السياسي الحاد الذي تسبب فيه؛ إذ يفاقم ذلك الاستقطاب أزمة الثقة سوءاً، ويضيف مزيداً من التحديات إلى تحديات النظام السياسي الأمريكي المتأججة بالفعل؛ ما يعني صعوبة بناء الجسور أو ترميم صدع الثقة المتراجعة في ظل وجود تهديد وجودي للديمقراطية الأمريكية؛ فقد وصفت بعض التحليلات ذلك بالبيئة السامة التي قد تقوض المؤسسات الأمريكية، لا سيما مع تأجج نظرية المؤامرة واحتمالية حدوث أزمة شرعية فجة.
5–تراجع فعالية النخبة الأمريكية: دفع المؤرخ وعالم القانون الدستوري بجامعة هارفارد “مايكل كلرمان” بأن “ترامب” اعتدى على القضاة الاتحاديين الذين أبطلوا سياساته أو سجنوا معاونيه السياسيين السابقين؛ ما يعني ضمناً عجز النخبة الأمريكية والمؤسسة القضائية عن التصدي لسياساته التي سيَّست أجهزة إنفاذ القانون وأجهزة الاستخبارات وبقية الحكومة الاتحادية لتحقيق مكاسب شخصية، وهو ما يعني أن الأزمة الحقيقية – في نظر البعض – لا تكمن في الآليات الديمقراطية الأمريكية التي أثبتت فعاليتها على مدار عقود ممتدة، سواء القضاء أو الدستور أو المؤسسات السياسية أو أجهزة الاستخبارات، وإنما تكمن الأزمة في بعض النخب التي تمكنت من الوصول إلى سدة حكم البيت الأبيض، وتسعى للوصول إليه مرة أخرى.
لقد عبَّر عن هذه الإشكالية Peter Turchin بقوله: “عندما تنخفض الثروات الاقتصادية لشرائح واسعة من الأمريكيين، ويُنتج المجتمع – في المقابل – نخباً فاسدة أو نخباً ثرية تعجز عن تلبية احتياجات وتطلعات الجماهير العريضة بفعل مواقفهم النخبوية، تتراجع جودة حياة معظم الأمريكيين، وتزداد النخبة ثراءً، ويثقل كاهن الهرم الاجتماعي في قمته، في الوقت الذي يزداد فيه عدد الخريجين الحاصلين على درجات علمية متقدمة، ويزداد فيه عدد الطامحين إلى مناصب عليا، ليتنافسوا على عدد ثابت نسبياً من المواقع القيادية، وتتآكل – على خلفية ذلك الصراع – الأعراف والمؤسسات الاجتماعية التي تحكم المجتمع”.
ختاماً، تتراجع الثقة في قدرة النخبة الأمريكية – وبالتبعية الحكومة الفيدرالية – على تغيير حياة المواطنين إلى الأفضل، وسط تكهنات بأن أزمة الثقة تلك لن تسفر إلا عن فك الارتباط بين المواطنين والحكومة الأمريكية؛ ما يؤدي إلى تراجع تمثيل الحكومة الأمريكية للمواطنين على اختلافهم، بل إلى مزيد من الانقسامات السياسية، وتفاقم التحديات الأمريكية بعد أن شهدت إدارة “بايدن” كثيراً منها؛ وذلك على شاكلة الانسحاب الكارثي من أفغانستان، وفيروس كورونا، وتردي أوضاع الاقتصاد الأمريكي. لذا تتزايد أهمية تخفيف حدة الحزبية السياسية، بالتوازي مع توجه النخبة الحاكمة مباشرةً إلى المواطنين لاحتواء مخاوفهم.