• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39

بعد فترة من التدهور الاقتصادي وزيادة معدلات البطالة بفعل سوق العمل المتصلبة، وتباطؤ الطلب على الصادرات؛ مثَّل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عصر ازدهار حقيقي لألمانيا، بفضل سلسلة من الإصلاحات مكَّنت الدولة الألمانية من تخطي الأزمة المالية العالمية دون عوائق تذكر، وقد عزَّز ذلك نمو الاقتصاد الألماني منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حتى نهايته بنسبة 24%، مقارنةً بـ22% في بريطانيا، و18% في فرنسا. أَضِف إلى ذلك تفوُّق الهندسة الألمانية، وبروز ألمانيا قوةَ تصدير رئيسية ذات ثقل دولي واقتصادي مُعتبَر.

غير أنه في خلال العقد الأخير، تعرَّضت ألمانيا لتحديات اقتصادية أسهمت في تراجع نموها الاقتصادي، ودخولها منطقة الانكماش أو الركود في الربع الثالث من العام الجاري، بما ينذر بأن تكون ألمانيا الاقتصاد الكبير الوحيد الذي ينكمش في عام 2023. بيد أن التوقعات لا تتوقف عند هذا العام فحسب؛ إذ إن ألمانيا – وفقاً لصندوق النقد الدولي – ستنمو على نحو أبطأ من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا خلال السنوات الخمس المقبلة. وإن كانت الأوضاع الاقتصادية في ألمانيا حالياً ليست كما كانت في عام 1999، بما لا يستدعي القلق الكبير، خاصةً أن معدل البطالة في الوقت الراهن نحو 3%، كما أن الدولة حالياً أكثر انفتاحاً وثراءً من ذي قبل، غير أن الألمان يتطلعون إلى مزيد من السياسات التي تدفع نحو تنشيط اقتصاد بلادهم، ومنع انهيار نموذج التصنيع في دولتهم الذي تم تشييده على مدار سنوات طويلة.

مؤشرات سلبية

ثمة مؤشرات سلبية تدلل على وجود أزمة حقيقية يكابدها الاقتصاد الألماني في الوقت الراهن، نستعرض أبرزها فيما يأتي:

1– تقلص الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا: بحسب المكتب الإحصائي الفيدرالي، بلغ الناتج المحلي الإجمالي الألماني في الربع الثاني من عام 2023، معدلاً دون التوقعات بنمو 0.1%؛ وذلك بعد انكماش في كلٍّ من الربعَين السابقَين، بنحو –0.1% في الربع الأول من عام 2023، و–0.4% في الربع الرابع من عام 2022. ورغم ذلك النمو النسبي، فإنه مقارنةً بالربع نفسه من العام السابق، يتضح انكماش الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا بنسبة 0.2%.

2– توقعات بانكماش الاقتصاد الألماني: يتوقع المحللون أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الألماني بنسبة 0.35% هذا العام، فيما خفَّضوا توقعاتهم للنمو لعام 2024 إلى 0.86%، بانخفاض عن نسبة 1.4% المتوقعة في بداية العام. وفي الوقت نفسه، يرى صندوق النقد الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي سينكمش بنسبة 0.3% هذا العام؛ وذلك في ظل ضعف قطاع التصنيع، وهو ما يُعَد مؤشراً على تراجع أداء الاقتصاد الألماني.

3– ارتفاع معدل التضخم: رغم انخفاض معدل التضخم السنوي في ألمانيا إلى 6.2% في يوليو الماضي من عام 2023، متراجعاً عن 6.4% في يونيو 2023، ليصبح قريباً من أدنى مستوى له منذ 14 شهراً في مايو الماضي عند 6.1%، فضلاً عن انخفاض معدل الفائدة إلى 5.5%؛ ما أضاف إلى الدلائل على أن الضغوط التضخمية في ألمانيا قد هدأت.. رغم كل ذلك فإن هذين المعدلين لا يزالان أعلى بكثير من هدف البنك المركزي الأوروبي البالغ 2.0%.

ولعل ذلك الانخفاض النسبي البسيط يُعزَى إلى تباطؤ التضخم الإجمالي للسلع إلى 7.0% من 7.3%؛ وذلك بفعل الارتفاع الضعيف في تكلفة المواد الغذائية، وعلى رأسها السكر والمربى والعسل والحلوى الأخرى، فضلاً عن تراجع تضخم الخدمات بشكل طفيف ليصل إلى 5.2% مقابل 5.3%، مع ارتفاع الإيجارات بنسبة 2.1%.

لكن بالرغم من ذلك، لا يزال تضخُّم أسعار الطاقة في تسارع مستمر، بلغ نحو 5.7% مقابل 3.0%، خاصةً بالنسبة إلى الوقود الصلب (12.8%) والغاز الطبيعي (8.5%) والكهرباء (17.6%).

4– تزايد أسعار المستهلكين: بحسب المكتب الإحصائي الفيدرالي، فإن أسعار المستهلكين على أساس شهري ارتفعت بنسبة 0.3% في يوليو 2023، بالوتيرة التي كانت عليها في يونيو الماضي. وقد توافق ذلك مع مؤشر أسعار المستهلك مقارنةً بالدول الأوروبية الأخرى؛ حيث ارتفع في أوروبا بنسبة 6.5% على أساس سنوي، وبنسبة 0.5% على أساس شهري.

غير أن ذلك دفع البنك المركزي الألماني إلى التحذير من أن ضغوط الأسعار تتراجع ببطء شديد، حتى مع انخفاض التضخم الرئيسي إلى 6.2%. وتزداد الخطورة في ظل نمو أسعار المستهلكين؛ ما يجعل المرحلة الأخيرة من رحلة مكافحة التضخم هي الأصعب.

5– تراجع ألمانيا في تصنيفات التنافسية العالمية: بحسب آراء الخبراء، فإن القدرة التنافسية لألمانيا قد تآكلت باطراد نتيجة ارتفاع تكاليف العمالة والضرائب المرتفعة والبيروقراطية الخانقة والافتقار إلى الرقمنة في الخدمات العامة، وهو ما يتضح جلياً من خلال تراجع ألمانيا في تصنيفات التنافسية العالمية لكلية إدارة الأعمال IMD إلى المرتبة الـ22 من بين 64 دولة رئيسية، بعدما كانت ضمن المراكز العشرة الأولى قبل عقد من الزمان.

6– ارتفاع تكاليف الضرائب بالنسبة إلى الاستثمار: بجانب ارتفاع تكاليف العمالة في ألمانيا أسرعَ من بقية منطقة اليورو، فإن معهد “زد إي دبليو الألماني ZEW ” قد صنَّف ألمانيا مؤخراً بأنها “دولة ذات ضرائب عالية للاستثمار”، مشيراً إلى أن معدل الضريبة الفعلي على أرباح الشركة البالغ 28.8%، هو أعلى من متوسط الاتحاد الأوروبي البالغ 18.8% العام الماضي.

عوامل محركة

يُعزَى تراجع أداء الاقتصاد الألماني الراهن والتوقعات بمزيد من الانكماش، إلى عدد من العوامل الرئيسية، يمكن تناول أبرزها فيما يأتي:

1– انكماش قطاع التصنيع الألماني: شهد قطاع التصنيع الألماني انكماشاً على نحو غير متناسب خلال العامين الماضي والجاري. وتزداد خطورة ذلك بالنسبة إلى ألمانيا؛ حيث يساهم القطاع في خُمس إنتاجها الإجمالي، وهو مستوى مشابه لليابان، لكنه ضعف نظيره في الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة. ولعل ذلك ما أثَّر بشكل مباشر على أداء الاقتصاد الألماني. وبحسب أوليفر هولتيمولر رئيس قسم الاقتصاد الكلي في معهد هالي للأبحاث الاقتصادية، فإن ارتفاع أسعار الطاقة والتوترات التجارية الناجمة عن حرب أوكرانيا، كان لهما تأثير حاد على قطاع التصنيع في ألمانيا. أضف إلى ذلك التكلفة المرتفعة لرأس المال ونقص العمالة الماهرة، الذي عرَّض القطاع لضغوطات شديدة.

وإن كانت أسعار الغاز والكهرباء في ألمانيا قد تراجعت منذ العام الماضي، فإنها تظل أعلى مما هي عليه في العديد من البلدان غير الأوروبية؛ ما ترتب على ذلك انخفاض الإنتاج في القطاعات الصناعية الكثيفة الاستخدام للطاقة في ألمانيا، كالمواد الكيميائية، والزجاج والورق، بنسبة 17% منذ بداية العام الماضي، بما يشير إلى خسائر واسعة في ذلك القطاع الرئيسي في ألمانيا.

2– نقص معدل الاستثمار في الصناعات الجديدة: ظل الأداء المتفوق لألمانيا في الصناعات القديمة لسنوات يُغطِّي نقص الاستثمار في الصناعات الجديدة، غير أن تعثُّر قطاع التصنيع الألماني بوجه عام، قد كشف خطورة النقص الواسع في الاستثمار في الصناعات الجديدة؛ فبالنظر إلى الأرقام، نجد أن استثمارات ألمانيا في تكنولوجيا المعلومات كحصة من الناتج المحلي الإجمالي أقل من نصف مثيله في أمريكا وفرنسا. كذلك فإن الافتقار إلى الاستثمار في الشبكات، ونظام التصاريح البطيء، أسهما بشكل كبير في إعاقة الانتقال إلى الطاقة المتجددة الرخيصة؛ ما بات يهدد الشركات المُصنِّعة بأن تصبح أقل قدرةً على المنافسة.

ولعل البيروقراطية تلعب دوراً في المزيد من إعاقة الطريق نحو زيادة الاستثمارات؛ حيث يستغرق الحصول على ترخيص لتشغيل شركة نحو 120 يوماً؛ أي ضعف متوسط المدة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).

كذلك فإن إصرار ألمانيا لسنوات على التمسك بمبدأ “كبح الديون”، الذي منع الحكومة الفيدرالية من الاقتراض الصافي لأكثر من 0.35% من إجمالي الناتج المحلي، والذي ربما أرضى أصحاب العمل المتعثرين، أدى إلى منع الحكومات الألمانية بشكل شاذ من الاقتراض من أجل الاستثمار في الفترة من 2012 إلى 2019؛ وذلك عندما كانت أسعار الفائدة منخفضة.

3– الظهور المتزايد للقوى المنافسة للصناعة الألمانية: تتعرض القوة التقليدية لألمانيا في صناعة السيارات لتهديدات عدة؛ حيث تخاطر علاماتها التجارية الكبرى الشهيرة في ألمانيا (بي إم دبليو، ومرسيدس، وبورش، وفولكس فاجن) بالتخلف عن الركب وفقدان حصتها في السوق لصالح منافسين صينيين أرخص في قطاع السيارات الكهربائية السريع النمو؛ وذلك في ظل تحول المستهلكين إلى السيارات الكهربائية، خصوصاً المصنوعة في الصين؛ ما أدى إلى تراجع القيمة السوقية المجمعة للشركات الأربع في الوقت الراهن، لتكون أقل من نصف التي تمتلكها شركة “تسلا” (Tesla)، على سبيل المثال.

4– تنامي مخاطر الاعتماد على السوق الصينية: من بين الاقتصادات الغربية الكبرى، فإن ألمانيا هي الدولة الأكثر ارتباطاً بالصين؛ حيث بلغ حجم التجارة بين البلدين في العام الماضي نحو 314 مليار دولار. وإن كان التقارب الصيني الألماني، كان مدفوعاً في السابق بالربح، فإن الأمور أضحت أكثر تعقيداً في الوقت الراهن؛ إذ بدأت شركات صناعة السيارات الألمانية في الصين تخسر حصتها في السوق لصالح المنافسين المحليين في الصين، في ظل موجة التدافع على التصنيع المتقدم وتعزيز سلاسل التوريد، الذي ساهم في إطلاق سيل من الإعانات الصينية لتعزيز الصناعة المحلية، وهو ما يهدد بالتبعية الشركات الألمانية.

وفي الوقت الراهن، يتجه الغرب نحو تقليل علاقاته مع الصين، لدرجة قد تصل إلى قطعها تماماً، بما يهدد كثيراً من المصالح الألمانية في الصين. وإن كان النظام العالمي الناشئ قد يتيح عدداً من الفوائد لألمانيا من جراء ذلك، وخاصةً الشركات الرامية إلى “إعادة دعم” إنتاج المدخلات الحيوية، كأشباه الموصلات، أو بناء مصانع للمنتجات الجديدة، كالمركبات الكهربائية (EVS)، فإن تقليص الروابط التجارية الغربية مع الصين، قد يضر ألمانيا بالنظر إلى اعتمادها على سلاسل التوريد العالمية.

5– صعوبات مستمرة في تحقيق انتقال الطاقة: تواجه ألمانيا عدة صعوبات في مسألة انتقال الطاقة، خاصةً أن القطاع الصناعي في ألمانيا يستهلك ما يقرب من ضعف الطاقة التي يستخدمها مثيله في أوروبا، كما بلغت البصمة الكربونية السنوية نحو 9 أطنان للفرد الواحد؛ أي أعلى بنحو 50% من مثيله في فرنسا أو إيطاليا أو إسبانيا.

وبينما لم يَعُد الغاز الروسي الرخيص خياراً رئيسياً بفعل الحرب الروسية الأوكرانية وما ترتب عليها من عقوبات غربية ضد روسيا، وقطع روسيا إمداداتها من الطاقة لأوروبا، فضلاً عن ابتعاد ألمانيا عن الاستثمار في الطاقة النووية بالتوقف عن العمل في آخر ثلاث محطات للطاقة النووية، والافتقار إلى الاستثمار في الشبكات ونظام التصاريح البطيء، وفي الوقت نفسه إيقاف الحكومات المحلية تصاريح منشآت الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، أو بناء خطوط نقل لتوزيع الطاقة بين شمال ألمانيا الأكثر رياحاً والجنوب المشمس – فإن ذلك كله يتضافر للدفع نحو إعاقة الانتقال إلى الطاقة المتجددة الرخيصة؛ ما يعوق بالتبعية القدرة التنافسية لقطاع التصنيع الألماني.

ورغم تخطيط الحكومة الألمانية لإنشاء شبكة من أنابيب الهيدروجين، فإنها تظل بحاجة إلى وقت طويل وتكلفة عالية من أجل إنتاج الطاقة الخضراء المطلوبة. وحتى إذا تحققت الأهداف الخاصة بإنتاج الهيدروجين الأخضر، فإن الغاز – وفقاً للتوقعات الحكومية – من المقرر أن يغطي نحو 30–50% فحسب من الطلب المحلي بحلول عام 2030، بما يستوجب ضرورة التوسع في مصادر الطاقة البديلة خلال السنوات المقبلة.

6– التأثيرات السلبية للعامل الديموغرافي: تفتقر ألمانيا، على نحو متزايد، إلى المواهب التي تشتد حاجتها إليها؛ فبينما يشكل سكان ألمانيا ممن هم في سن العمل نحو 64% من إجمالي سكان الدولة، كما هو الحال في الولايات المتحدة، فإنه بالرغم من ذلك يبلغ متوسط عمر العامل في ألمانيا 45 عاماً، وهو الأمر الذي نتج عن تأخر طفرة المواليد في ألمانيا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بفعل المجاعات والدمار والهجرة، ومن ثم أضحى هناك عدد كبير من العمالة على وشك التقاعد.

وذلك مما وضع الشركات الألمانية في مأزق يتمثل في إيجاد العمالة المناسبة من الشباب لشغل ما بها من وظائف. وتزداد خطورة ذلك مع التوقعات بفقدان سوق العمل الألمانية نحو 7 ملايين عامل من أصل 45 مليوناً بحلول عام 2035.

خيارات مستقبلية

تحتاج ألمانيا من أجل عبور المرحلة الحرجة التي تواجهها إلى الدفع نحو مزيد من رعاية الشركات الجديدة والبنية التحتية والمواهب الشابة؛ فبينما سيكون إيجابياً احتضان التكنولوجيا وتعزيزها في مختلف الصناعات، بما يمثل فرصة ذهبية للعديد من الشركات، فإن من شأن المزيد من إصلاح تصاريح البناء، أن يساعد في ضمان بناء البنية التحتية على وجه السرعة، وتوفير الميزانية ومنع إهدارها، خاصةً أن البنية التحتية في ألمانيا لطالما عانت بفعل تشدد الحكومة الألمانية في قواعد ميزانيتها.

وعلى القدر نفسه من الأهمية، فإن جذب المواهب الجديدة من المهنيين والمتخصصين وذوي الخبرة، قد يسهم في تجديد الدماء ودب روح النشاط في القطاعات المختلفة بألمانيا.

وهي جميعها خطوات تتطلب حرصاً شديداً من قبل الحكومة الألمانية على التعاطي المرن مع التحديات، وخلق وابتكار الحلول المناسبة، وإن كان بعض المحللين يعتقدون أن المشكلات الاقتصادية الراهنة في ألمانيا، من شأنها أن تُجبر الحكومة على معالجة الأوضاع الصعبة في سوق العمل، وإجراء إصلاحات هيكلية يمكن أن تساهم في إطلاق حقبة جديدة لنموذج التصنيع الألماني تدفع نحو مواصلة الأداء المتفوق كما فعلت في حقبة التسعينيات.

وبحسب ستيفان كوثس مدير معهد كيل للاقتصاد العالمي، فإنه “كلما كبرت المشاكل، زاد احتمال حدوث تغيير حقيقي في السياسة”، غير أن البعض الآخر من المحللين أكثر تشاؤماً حيال الوضع الاقتصادي في ألمانيا، وينظرون إلى أن خطوات الإصلاح لا تزال بعيدة المنال، لكن وجه الاتفاق الرئيسي بين المتفائلين والمتشائمين أن ألمانيا في حاجة إلى خطة إصلاح واستثمار شاملة؛ من أجل إيقاف التدهور المستمر في أداء الاقتصادي الألماني، وحماية نموذج التصنيع الألماني من الانهيار.