• اخر تحديث : 2024-04-29 01:16
news-details
أبحاث

الأولوية للاقتصاد والأمن: توجهات السياسة الخارجية التركية في الفترة الرئاسية الحالية


ثبَّت فوز الرئيس التركي بمدة رئاسية جديدة وتحالفه الحاكم بأغلبية البرلمان حالة الاستقرار السياسي الداخلي في البلاد، وجدَّد أوراق قوة أردوغان في ملفات السياسة الخارجية المتعددة والشائكة.

كانت أنقرة قد شهدت انعطافة مهمة في سياستها الخارجية في السنتين الأخيرتين؛ حيث بدأت مسارًا لتخفيض مستوى التوتر مع عدد من القوى الإقليمية التي شابت علاقاتها معها حالة من الخصومة والمواجهة غير المباشرة خلال العقد الفائت، وفي مقدمتها: الإمارات والسعودية ومصر، إضافة لخطوات باتجاه علاقة سياسية مع النظام السوري وعودة العلاقات الدبلوماسية مع "إسرائيل".

تبحث الورقة توجهات السياسة الخارجية التركية في المدة الرئاسية الجديدة، الأخيرة دستوريًّا للرئيس أردوغان، وفق ثنائية الاستمرار والتغيير. وترى أن السياسة الخارجية الحالية هي إلى حدٍّ كبير امتداد للسياسات السابقة، بقيادة وزير خارجية قوي وملم بملفاتها المختلفة. كما تجد الورقة أن ثنائية الاقتصاد والأمن ما زالت البوصلة الرئيسة للسياسة الخارجية التركية في السنوات القليلة القادمة.

اعتماد القوة الناعمة

اتسمت السياسة الخارجية التركية في السنوات الأولى من حكم العدالة والتنمية بالانفتاح على الخارج واعتماد القوة الناعمة بشكل شبه حصري، في سعي من أنقرة لتخفيض مستوى التوتر مع دول الجوار وفتح آفاق التعاون معها، وهو ما جسدته نظريات أحمد داود أوغلو -الذي أصبح لاحقًا وزيرًا للخارجية- مثل العمق الإستراتيجي وتصفير المشاكل.

لم يثبت حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان على هذه الرؤية للسياسة الخارجية طيلة مدة حكمه، بل عدَّلها وعدَّل معها تعريفه لنفسه أكثر من مرة تأثرًا بالتطورات المحلية والإقليمية في المقام الأول. ففي سنواته الأولى قدم الحزب نفسه على أنه حزب ديمقراطي محافظ تشبهًا بالأحزاب المسيحية المحافظة في أوروبا وكانت أولوية سياسته الخارجية الانضمام للاتحاد الأوروبي والالتزام بشروط العضوية. في 2011، ومع الثورات العربية، اعتمدت أنقرة سياسة خارجية مبادِرة ومنخرطة في قضايا المنطقة وانتهج الحزب خطاب "الأمة" المعبِّر عن الهوية الجمعية للجغرافيا العثمانية. ومنذ الانقلاب الفاشل في 2016، بات الأمن القومي أولوية السياسة الخارجية التركية تحت شعار "المحلي والوطني" الذي رفعته حكومات أردوغان المتتالية.

مع استقالة داود أوغلو من رئاسة الحزب الحاكم والحكومة واستبدال بن علي يلدرم به، رفعت تركيا شعار "تكثير عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم" وسعت لتحسين علاقاتها مع عدد من القوى الإقليمية التي كانت في حالة خصومة أو تنافس معها، تأثرًا بعدد من الأزمات والتحديات الداخلية والخارجية، لكنها لم تلق تجاوبًا كافيًا منها.

تلاقت في السنتين الأخيرتين الإرادة السياسية في أنقرة وعدد من العواصم الفاعلة في المنطقة لتدوير زوايا الخلاف وبدء مرحلة من الحوار ثم التهدئة ثم التعاون لعدة أسباب في مقدمتها تراجع الأوضاع الاقتصادية في أكثر من بلد، وأولوية الانتخابات التركية في 2023، والرغبة في تهدئة تحديات السياسة الخارجية قبلها، وطي مختلف دول المنطقة صفحة الثورات العربية وما تلاها من تطورات، واستنزاف الملفات الخلافية في المنطقة القوى الإقليمية دون حسمها لصالح أحد طرفَيْ الاستقطاب، فضلًا عن الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة جو بايدن ورغبتها في حلحلة الخلافات بين منظومة حلفائها في المنطقة.

وعليه، شهد العامان الأخيران تحسنًا ملحوظًا في علاقات تركيا بكل من الإمارات ومصر والسعودية و"إسرائيل"، وفتح علاقة سياسية مع النظام السوري وصلت لدرجة لقاء وزيري خارجية البلدين، فضلًا عن أطر للحوار مع خصوم تقليديين مثل اليونان وأرمينيا.

الوزير الجديد

دخل أردوغان وحزب العدالة والتنمية الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة في ظل اقتصاد مأزوم، وانتهجت الحكومة "اقتصاد الانتخابات" خلال السنة التي سبقتها؛ ما أدى لتعمق الأزمة الاقتصادية وترك بصمته على تشكيلة الحكومة الجديدة وسياساتها.

اتسمت التشكيلة الحكومية الجديدة من جهة بنسبة التغيير العالية فيها إذ تغير 15 من أصل 17 وزيرًا إضافة لنائب الرئيس، ومن جهة ثانية باختيار شخصيات ناجحة وقوية في عدد كبير من الوزارات أوحت بمستوى تفويض أكبر ومركزية أقل من المعتاد في الحكومات السابق، وفي مقدمة هذه الشخصيات القوية المعروفة وزيرا الخزانة والمالية، محمد شيمشك، والخارجية، هاكان فيدان.

قاد فيدان جهاز الاستخبارات التركي على مدى 13 عامًا متواصلة وهو أحد الشخصيات القليلة المقربة جدًّا من أردوغان ومحط ثقته حيث وصفه الأخير سابقًا بأنه "حافظ أسراره وأسرار الدولة"(6)، أي إنه شخصية قوية وموثوقة وملمَّة بملفات السياسة الخارجية.

كما كان فيدان، بصفته رئيس جهاز الاستخبارات، أحد المشاركين بشكل نظري وفعلي في رسم السياسة الخارجية لبلاده وتنفيذها في أكثر من قضية ومنطقة نزاع، ولاسيما في كل من سوريا وليبيا والعراق؛ ما يعني أن اختياره يرجِّح فكرة استمرار السياسات السابقة إلى حد كبير. كما أن هذا الاختيار يؤكد مدى أولوية الأمن القومي في صياغة توجهات السياسة الخارجية التركية في السنوات القادمة، وهو أمر ملموس منذ 2016 على أقل تقدير.

وأخيرًا، ذهبت بعض التقديرات إلى أن اختيار أردوغان لفيدان في منصب سياسي مهم وفاعل كوزارة الخارجية هو تمهيد لإعداده لرئاسة الحزب و/أو البلاد فيما بعد 2028 من باب أن المدة الرئاسية الحالية هي الأخيرة للرئيس التركي دستوريًّا.

أولويات المرحلة المقبلة

بالنظر لتشكيلة الحكومة الجديدة، وشخص وزير الخارجية، والسياسة الخارجية السابقة على الانتخابات، والأوضاع الداخلية والإقليمية الحالية، يمكن رصد الأولويات التالية للسياسة الخارجية التركية في المدة الرئاسية الحالية:

أولًا: الاقتصاد أولًا: يُظهر الاقتصاد التركي منذ سنوات مؤشرات سلبية مثل ارتفاع نسبة التضخم وغلاء الأسعار وتراجع قيمة الليرة، وهي مؤشرات فاقمتها الانتخابات الأخيرة. ولذلك وضعت الحكومة الجديدة معالجة الأوضاع الاقتصادية على رأس أولوياتها ووضعت كافة الملفات الأخرى في خدمة هذا الهدف، بما في ذلك السياسة الخارجية.

بعد إعلان النتائج مباشرة أرسل أردوغان نائبه، جودت يلماظ، ووزير الخزانة والمالية، محمد شيمشك، في جولة خليجية لتشجيع الاستثمارات الخارجية في تركيا. كما أكدت جولة أردوغان الخليجية، التي شملت السعودية وقطر والإمارات، في يوليو/تموز الفائت على نفس المعنى، وتصدر الاستثمار والملفات الاقتصادية الأخرى جدول أعمالها، كما وقَّعت تركيا مع الدول الثلاث مذكرات تفاهم واتفاقات اقتصادية عديدة.

ومع إعلان الخطة الاقتصادية متوسطة المدى، أكد الوزير شيمشك على أن تحسن المؤشرات الاقتصادية سيبدأ العام المقبل فقط، مشددًا على أن الاستثمارات الخارجية أولوية للحكومة في المرحلة المقبلة كرافعة رئيسة لعملية إعادة هيكلة الاقتصاد ومعالجة مشاكله البنيوية.

ثانيًا: تهدئة الأزمات: تستمر أنقرة في السنوات القليلة المقبلة في سياسة التهدئة وتدوير زوايا الخلاف مع القوى الإقليمية المختلفة، ولاسيما مع المحور المواجه لها خلال العقد الفائت. وهي سياسة تخدم فكرة أولوية الاقتصاد، من حيث تخفيف العبء الاقتصادي والمالي لملفات السياسة الخارجية من جهة، وتقليل التحديات التي تواجهها من جهة ثانية، وتعزيز المناخ الاستثماري في البلاد بشكل عام من جهة ثالثة، فضلًا عن أن بعض الدول التي تسعى تركيا لتحسين علاقاتها بها تأتي في مقدمة من تعول على جذب استثماراتها مثل دول الخليج العربي.

ثالثًا: أولوية مكافحة الإرهاب: رغم ما سبق، إلا أن أولوية مكافحة الإرهاب وخصوصًا حزب العمال الكردستاني في كل من سوريا والعراق لم تتأثر مع الحكومة الجديدة، فقد استمرت العمليات العسكرية في العراق، واستهداف قيادات قوات سوريا الديمقراطية التي تتهمها أنقرة بالعلاقة العضوية مع العمال الكردستاني في سوريا، ولم تتراجع تركيا عن التلويح بعملية عسكرية محتملة في الشمال السوري شرق نهر الفرات.

في جولته الخارجية على كل من العراق وإيران وروسيا بداية الشهر الجاري، جدَّد فيدان التأكيد على أولوية مكافحة الإرهاب في سياسة بلاده الخارجية، وطلب الدعم من الدول الثلاث في هذا المجال ولاسيما في سوريا، وطالب الحكومة العراقية بتصنيف العمال الكردستاني منظمة إرهابية، فضلًا عن مطالبته النظام السوري بالتعاون مع بلاده في مكافحة الإرهاب.

رابعًا: التوازن النسبي: رغم الحرب الروسية-الأوكرانية، ما زالت أنقرة عازمة على سياسة خارجية مستقلة قدر الإمكان ومتوازنة نسبيًّا بين روسيا والغرب رغم عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو). فما زالت على موقفها المندد بالاحتلال الروسي لأراض أوكرانية وغير معترِفة بشرعية ضمها شبه جزيرة القرم، ورغم ذلك فهي على علاقة جيدة وتواصل مستمر مع موسكو بما يؤهلها للاستمرار في لعب دور الوسيط بينها وبين كييف.

وعليه، يمكن القول: إن تغيرًا جذريًّا لم يطرأ على انخراط تركيا في عدد من القضايا والنزاعات في المنطقة وموقفها منها ولاسيما ما تعده ضمن دوائر التأثير على أمنها القومي مثل ثروات شرق المتوسط والقضية القبرصية والأزمة الليبية والملف السوري. لكن هذا الثبات على الموقف لم يمنع تبدل الأسلوب والخطاب إلى حدٍّ كبير؛ حيث تراجع الخطاب الحاد والصفري السابق لصالح نبرة أكثر هدوءًا ومقاربات أقرب للتنسيق والتعاون مع الأطراف الأخرى، كما في التركيز على خطاب التنسيق والتعاون في ليبيا مع كل من مصر وروسيا.

بين روسيا والناتو

رغم عضويتها في حلف الناتو منذ 1952، تحاول تركيا في السنوات الأخيرة انتهاج سياسة متوازنة قدر الإمكان في علاقاتها مع كل من روسيا والحلف. من أهم أسباب ذلك تخلي السياسة الخارجية التركية عن منطق الحرب الباردة ومعادلاتها، وما تعده تنكرًا من حلفائها الغربيين لمصالحها الحيوية وأمنها القومي بما في ذلك دعم الولايات المتحدة الأميركية للفصائل الكردية في شمال سوريا ورفض عدد من الدول الغربية بيعها ما تحتاجه من أسلحة لاسيما المنظومات الدفاعية، وتطور العلاقات الاقتصادية والتجارية مع روسيا، والانخراط مع الأخيرة في عدة قضايا ونزاعات بما يعزز من أهمية التنسيق وعدم الصدام.

مثَّلت الحرب الروسية-الأوكرانية تحديًا كبيرًا لهذه السياسة بعدِّها مواجهة غير مباشرة بين روسيا وحلف الناتو، ورغم ذلك حرصت أنقرة على سياسة أقرب للحياد الإيجابي ومايزت موقفها عن باقي أعضاء الحلف. فرغم إدانتها الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، إلا أنها رفضت المشاركة في العقوبات الغربية على روسيا، وأبقت على علاقاتها الجيدة مع الأخيرة واللقاءات مع مسؤوليها، ولعبت دور الوساطة بين موسكو وكييف وحققت بعض الاختراقات على هذا الصعيد مثل اتفاق تصدير الحبوب واتفاق تبادل الأسرى.

عرَّضت هذه السياسة تركيا لضغوط كبيرة من الولايات المتحدة وحلف الناتو خصوصًا مع امتناعها ابتداءً عن الموافقة على ضم كل من السويد وفنلندا للحلف، وقد تراجعت هذه الضغوط نسبيًّا مع الموافقة على ضم فنلندا في مارس/آذار الفائت وتحويل ملف السويد للبرلمان التركي مؤخرًا، إلا أنها لم تنته تمامًا.

تزامن هذا النقل خلال القمة الأخيرة للحلف في ليتوانيا مع تسليم تركيا الرئيس الأوكراني، فلودومير زيلينسكي، ضباط مجموعة آزوف، وحديث أردوغان عن إمكانية ضم كييف للناتو. نتج عن كل ذلك توتر في العلاقات التركية-الروسية؛ حيث انسحبت موسكو من اتفاق تصدير الحبوب، وفتشت سفينة تابعة لإحدى الشركات التركية في البحر الأسود بدعوى احتمال حملها أسلحة لأوكرانيا، فضلًا عن اتهامها تركيا بخرق اتفاق تبادل الأسرى.

وعليه، تبقى الحرب الروسية-الأوكرانية أحد أهم ملفات السياسة الخارجية التركية في المدة الرئاسية الجديدة، ضمن الأولويات التالية:

أولًا: العمل على تجنيب حوض البحر الأسود أي تصعيد أو صدام عسكري وخصوصًا بعد انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب وتهديدها بتفتيش كل السفن المتجهة للموانئ التركية مقابل دعوة أوكرانيا للاستمرار بالعمل بالاتفاق بدون ضمانات روسية. خلال القمة الأخيرة التي جمعت الرئيسين، الروسي والتركي، في سوتشي، عرض أردوغان على بوتين مقترحات أعدتها بلاده بالتعاون مع الأمم المتحدة لإقناع روسيا بالعودة للاتفاق، وهو الأمر الذي لا ترفضه الأخيرة من حيث المبدأ، ولكن تشترط له رفع العقوبات الغربية عنها.

ثانيًا: تجنب التورط في الحرب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، والاستمرار في موقف "الحياد الإيجابي" الذي انتهجته حتى اللحظة، بمعنى التوازن قدر الإمكان في المواقف بين الجانبين. ومن ذلك التأكيد على أن صفقات السلاح التركية لأوكرانيا متعلقة بالقطاع الخاص وليست سياسة حكومية رسمية ضد موسكو، والإقرار بأحقية التحفظات الروسية على اتفاق تصدير الحبوب ودعوة كييف لـ"تليين موقفها" تجاه موسكو واتخاذ خطوات متوازية مع خطوات الأخيرة، وعدم التجاوب مع دعوة كييف للاستمرار في اتفاق تصدير الحبوب بدون موسكو.

ثالثًا: الإصرار على الحل السياسي وتأكيد دور الوساطة. ما زال الموقف التركي يؤكد على أن الحرب الدائرة ليست في صالح أحد، وأن اتفاقًا سياسيًّا عادلًا هو الحل الوحيد للخروج من الأزمة بشكل يرضي جميع الأطراف، ويدعو للقاء بين الرئيسين، بوتين وزيلينسكي، في تركيا للتفاوض على ذلك، ويرى أن اتفاق تصدير الحبوب يمكن أن يشكل أرضية لذلك ونموذجًا قابلًا للتكرار ولذلك يسميه أردوغان "جسر السلام".

الملف السوري

سبقت الانتخاباتِ الأخيرةَ في تركيا تطوراتٌ مهمة على صعيد العلاقة مع النظام، تمثلت بتطوير القناة الاستخباراتية بين الجانبين وصولًا للقاء جمع وزيري خارجية البلدين ثم تشكيل إطار رباعي يضم إليهما روسيا وإيران، مع عدم استبعاد المسؤولين الأتراك فكرة عقد لقاء بين أردوغان والأسد.

مؤخرًا، تراجعَ حضورُ ملف العلاقات مع النظام بشكل ملحوظ، تأثرًا بتراجع أهميته بعد انقضاء الاستحقاق الانتخابي، وانشغال روسيا بتطورات الحرب في أوكرانيا، والفتور في العلاقات التركية-الروسية في الأسابيع الأخيرة، ومماطلة النظام وتمنعه.

ما زالت أنقرة تنظر للعلاقات مع النظام السوري من زاوية المصالح المتحصلة أو المأمولة منها في مجالين: مكافحة العمال الكردستاني وامتداداته السورية في الشمال السوري، وعودة/إعادة اللاجئين السوريين للمنطقة. في جولته الأخيرة، غابت فكرة اللقاء مع الأسد عن تصريحات وزير الخارجية، فيدان، لصالح التركيز على "توقعات تركيا من الحكومة السورية" والمتمثلة بدعم فكرة عودة آمنة وطوعية وكريمة للسوريين المقيمين في تركيا، وعدم التسبب بموجات جديدة من اللجوء، والتعاون مع تركيا في مكافحة الإرهاب وخصوصًا حزب العمال الكردستاني. ما يعني أن تركيا تريد من النظام السوري ضمانات بخفض التصعيد في الشمال وضمان إنشاء منطقة آمنة قابلة للعيش بالنسبة للسوريين المقيمين على أراضيها، وكذلك التعاون والتنسيق في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية، وقد كرر فيدان مطالبة بلاده بالدعم في هذا التوجه في كل من موسكو وطهران وبغداد.

من جهة ثانية، ما زالت مواجهة قوات سوريا الديمقراطية في منطقة شرق الفرات أولوية بالنسبة لأنقرة، من حيث التلويح بعملية عسكرية جديدة هناك، واستمرار استهداف قياداتها الميدانية، ودعم الهبَّة العشائرية ضدها مؤخرًا، ومطالبة روسيا بدعم جهودها في هذا.

خلاصة

في الخلاصة، تعد السياسة الخارجية التركية في المدة الرئاسية الجديدة في خطوطها العامة امتدادًا لها في السنتين الأخيرتين، لاسيما أن وزير الخارجية الحالي من الدائرة الضيقة المقربة من الرئيس التركي ومن الشخصيات المشاركة في صياغتها في السنوات الأخيرة تخطيطًا وتنفيذًا.

ولذلك سيستمر الاقتصاد والأمن -ولاسيما مكافحة الإرهاب- على رأس أولويات السياسة الخارجية لتركيا في السنوات القليلة المقبلة، مع أهمية خاصة للحرب الروسية-الأوكرانية وانعكاساتها على تركيا اقتصاديًّا وإستراتيجيًّا وكذلك على صعيد العلاقات مع كل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي. كما أثبتت الشهور القليلة الأخيرة أن مسار التهدئة وتطوير العلاقات مع دول المنطقة لم يكن تكتيكًا مؤقتًا مرتبطًا بالانتخابات فقط، وإنما هو مسار طويل الأمد مبني على قناعة لدى صانع القرار في أنقرة.

طالما لم تصل الحرب الروسية-الأوكرانية لحالة انخراط رسمية وكاملة من حلف الناتو فيها، فإن أنقرة ستبقى قادرة على موازنة موقفها وعلاقاتها نسبيًّا مع كل من موسكو وبروكسل كما تفعل حاليًّا، بينما سيكون أي تطور للحرب بهذا الاتجاه تحديًا صعبًا وغير مسبوق لموقفها إذ ستضيق أمامها مساحات المناورة وستزداد الضغوط عليها من الجانبين.

وسيحتفظ الملف السوري بأهميته وأولويته في المرحلة المقبلة، وتحديدًا من زاويتَيْ مكافحة المنظمات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني والتي تصنفها أنقرة منظمات إرهابية وانفصالية، وعودة/إعادة السوريين المقيمين على الأراضي التركية إلى منطقة آمنة وجاذبة للعيش في الشمال السوري. ليس من المتوقع حصول خطوات سياسية متقدمة تجاه النظام السوري في المدى القريب، لكن تحسن العلاقات التركية-الروسية والمصالح التي تبحث عنها أنقرة في الملف السوري يمكن أن تدفعا نحو خطوات من هذا القبيل في المدى المتوسط.

ومع ثبات تركيا على مواقفها في قضايا ذات أولوية وعلاقة بالأمن القومي مثل شرق المتوسط والقضية القبرصية، فإن أسلوب التعبير عن هذه المواقف بات أقل توترًا في الفترة الحالية، مع فتح قنوات التواصل والحوار وتراجع لغة التهديد إلى حد كبير. كما سترجح تركيا مسار التنسيق والتعاون مع القوى الإقليمية الأخرى في قضايا المنطقة وفي مقدمتها الليبية.