يقع لبنان خاصة، ومنطقة غرب آسيا عامة على فالق جيو سياسي واستراتيجي جديد. أصبح لبنان بعد أن أصبحت قوى المقاومة رقمًا صعبًا يُحسب له كل الحساب في المنطقة والعالم مرتكزًا من مرتكزات النظام العالمي المتعدد الاقطاب. وهذا الواقع المستجد في لبنان استدعى تدخلًا علنيًا من القوى التي كان لها القدرة على وضع لبنان في خانة قوتها ومصالحها، وكانت تفرض الواقع السياسي المحلي بحسب مصالحها وسياساتها. هذا القديم السياسي تغير بقوة. لذلك، يعيش لبنان سلسلة من الأزمات المترابطة ذات الأبعاد المتعدّدة: من أزمة الفراغ الرئاسي في لبنان منذ تشرين الأول من العام الماضي، مرورًا بتفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي بشكل تجاوز كل الأزمات التي مرّ بها، لا بل أسوأها، وضاعف من شدتها الحصار والعقوبات التي لم تخفف من ثقلها الانزياحات الدبلوماسية الاقليمية الجارية، فضلًا عن ملف النزوح السوري، والتوترات المتواصلة في المخيمات الفلسطينية.
فما هي الأسباب التي حالت لغاية اليوم، وتحول دون تمكن البرلمان من انتخاب رئيس جديد للبنان؟ وما هو دور اللجنة الخماسية، وتاليًا القوى الإقليمية والدولية؟، وما هي إمكانيات وفرص ايجاد مقاربات تمهد لحل هذه الأزمة؟، وما هي السيناريوهات المتوقعة؟، أم أن لبنان بمختلف قواه عاجز عن انتاج الحلول؟
هل من ترابط بين استمرار الأزمة اللبنانية وتفاقمها بما يجري في المنطقة ما خص القضية الفلسطينية وملف النزوح السوري؟، ولماذا دخول الأمم المتحدة على ملف النزوح السوري بما ينتهك سيادة لبنان؟، وما هي تداعيات هذين الملفين على الانقسام اللبناني الداخلي وامكانيات الحلحلة؟، وهل تعكس مستجداتهما ما يُرسم للبنان الغد على وقع المعادلات الإقليمية؟
هذه التساؤلات وغيرها ناقشتها حلقة نقاش نظمتها الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين تحت عنوان: "الأزمة اللبنانية الراهنة: أسبابها وتعقيداتها والسيناريوهات المتوقعة".
أولاً: معطيات أولية حول اللقاء:
نهار الجمعة 29 أيلول 2023 |
|
المكان |
Zoom Meeting |
مدة اللقاء |
من الساعة العاشرة صباحًا لغاية الحادية عشرة والنصف |
المشاركون السادة |
|
1 |
رئيس الرابطة د. محسن صالح. |
2 |
عضو الرابطة د. عادل يمين (لبنان) |
3 |
عضو الرابطة الأستاذ حسان الحسن (لبنان) |
4 |
عضو الرابطة الأستاذ رياض عيد (لبنان) |
5 |
أمينة سر الرابطة د. وفاء حطيط. |
ثانيًا: مجريات اللقاء
بداية رحّب رئيس الرّابطة د. محسن صالح بالمشاركين في حلقة النقاش، ثم قدّم مداخلته التي طرح فيها مجموعة من النقاط، وهذا ما جاء في المداخلات.
المداخلات: |
د. محسن صالح
نتحدث عن عمق الأزمة اللبنانية التي لن تنتهي حتى مع انتخاب رئيس للجمهورية، أو تم فرض رئيس، أو حدثت مفاوضات حول الرئاسة؛ فالقضية أبعد من ذلك، ولا علاقة للقضية الفلسطينية وتشكيل المنطقة والنازحين وقضايا المقاومة في فلسطين بمسألة الرئاسة. وبالتالي تصبح المذاهب محسوبة بالمعنى الإقليمي والدولي، وليس بالمعنى السياسي. والمقاومة الآن هي سر لبنان بما للبنان من موقعية في محور المقاومة. ونتحدث عن عالم جديد للبنان فيه مكانة عالية.
ليس الخلاف على اسم الرئيس، بل إن الخلاف على السياسات، وموضوع النازحين السوريين موضع خلاف بين القوى اللبنانية، فالبعض رحب بهم وبمجيئهم انطلاقًا من موقف سياسي أملته موازين قوى دولية، سواء في فرنسا، أو الولايات المتحدة، أو بعض الدول العربية.
الآن نحن في مرحلة انتقالية، صحيح أن الانتخابات الرئاسية أساسية ومهمة؛ ولكن القضايا السياسية من الموقف من العدو الصهيوني، مرورًا بالموقف من استخراج النفط والغاز، وصولًا إلى الموقف من الدولة النظام والتوجهات العالمية، وليس التوجهات الإقليمية فقط هو باعتقادي الأساسي.
لقد كانت طبيعة النظام في لبنان دائمًا تعبيرًا، أو صورة عن قوة القوى الخارجية التي كانت حاكمة للسياسات اللبنانية، واليوم نحن أمام عالم جديد، والطرف الآخر هو المرتبط بأجندات خارجية، ويريد مثلًا الاعتراف بالكيان الصهيوني، وسقوط الرئيس الأسد، وأن يتحول العالم، أو هذه المنطقة على الأقل إلى مزرعة أميركية كرمى لعيون الكيان الغاصب؛ وهم أوصلوا الطبقة الحاكمة التي هي عجينة طيعة في يد السفارات، ولذلك عندما نهبت كان ذلك بأمر أميركي، وعندما تتصرف بهذه السياسات فهي هناك وليست هنا في لبنان، والمقاومة حركت هذه السياسات في اتجاه جديد، ومن هذا المنطلق فإن الصراع هو حول الرئاسة والنظام والتوجهات.
السؤال: إذا حصل اتفاق في اليمن والمحادثات السياسية في سوريا، وإذا حصل اتفاق تركي سوري واتفاق نووي (أميركي – إيراني) هل تنجز مسألة الرئاسة في لبنان، أو الحوار في لبنان حول الرئاسة، أو إعادة تشكيل النظام، وهل يمكن أن ينعكس كل هذا على الوضع اللبناني من الناحية السياسية والاقتصادية؟، أم أن كل هذه المسائل مرحلة من مراحل الصراع التي تمر بها المنطقة؟
إنني متفائل بمستقل المقاومة، خاصة بعد الانتصارات ليس العسكرية الميدانية فقط، وانما حتى في الثقافة السياسية المحلية والإقليمية. هناك ثقافة يجب أن نراعي أهمية وجودها ونشرها وابداع في ابداء الآراء، ويجب أن يستوعب الشارع السني، والشيعي والمسيحي أن المقاومة قدمت للبنان والمنطقة فهمًا جديدًا وإدراكًا جديدًا وشكلًا جديدًا من أشكال الصراع؛ كما قدمت بدايات وحتى جواهر القضايا الأساسية من السيادة إلى مسألة الحرية، والعمل عليها من أجل بناء دول وفق هذه المرتكزات التي مهدت المقاومة السبيل إليها.
د. عادل يمين:
يقوم الاهتمام الدولي والإقليمي بلبنان ربطًا بموقع لبنان، وهناك مجموعة أسباب تدفع دول الخمس ذات الشأن الكبير الى الاهتمام بانتخابات رئاسية في بلد صغير الحجم:
أولًا بالتأكيد وجود المقاومة هو دافع الدول للاهتمام بلبنان؛ فوجود المقاومة بالنسبة إلى الدول شأن يهم العدو الإسرائيلي، وهذا الامر يستدرج بطبيعة الحال حرصًا لدى الدول لمتابعة الشأن اللبناني.
ثانيًا ـ موضوع النفط والغاز والبترول، وما تكشف وما قد يتكشف من ثروة نفطية في البحر والبر في لبنان يجعل هذا البلد مثار اهتمام دولي وإقليمي أيضًا، لما للنفط والغاز والبترول من أهمية كطاقة للعالم كله لأوروبا وأميركا، وبالتالي فوضع لبنان على سكة الدول النفطية صنع سببًا إضافيًا ومهمًا جدًا إلى جانب سبب المقاومة في لبنان للاهتمام الدولي.
الثالث: موضوع النازحين السوريين في لبنان يجعل الاهتمام الدولي والاقليمي كبيرًا، سواء بالنسبة لأوروبا التي تخشى أن يفتح لبنان البحر أمام النازحين السوريين فيُغرقون أوروبا بأعداد هائلة، ويبدّلون الديمغرافيا هناك؛ وهذا شأن يجعل الأوروبيين يهتمون للحفاظ على حد أدنى من الاستقرار في لبنان خوفًا من أن تؤدي الفوضى إلى تدفق النازحين السوريين الى أوروبا، وتبدّل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية هناك.
الرابع: حرص الدول الغربية على أمن كيان العدو الإسرائيلي، ومن هذا الباب هناك دائمًا متابعة للوضع اللبناني، لأن عينهم على وضع الكيان وامنه.
هذه النقاط الأربع هي الأساسية للاهتمام الدولي بالانتخابات الرئاسية، خصوصًا أن الانتخابات الرئاسية في لبنان ليست انتخابات بالمعنى الحقيقي للكلمة لأسباب عديدة:
أولًاـ طبيعة المادة 49 من الدستور، والآلية المحددة فيها التي تجعل عملية الانتخابات شأنًا معقدًا للغاية يكاد يكون مستحيل التحقق بسلاسة وبطريقة انتخابية وديمقراطية عادية نظرًا الى ما تستوجبه المادة 49 من الدستور لتحقيق الفوز بالرئاسة من حيث النصاب المضمر الذي هو الثلثين من أعضاء البرلمان، أي 86 على الأقل من 128 نائبًا، ووجوب حضورهم كل الدورات والجلسات المخصصة للانتخاب؛ ومن جهة ثانية اشتراط نيل المرشح المفترض أغلبية الثلثين من عدد الأعضاء الذين يتكون منهم البرلمان؛ أي 86 من أصل 128 في دورة الاقتراع الأولى، ومن ثم الأغلبية المطلقة؛ أي 65 من أصل 128؛ ولكن مع اشتراط وجود الـ 86 في القاعة بشكل دائم في كل الدورات والجلسات يقود إلى القول إنه في ظل الانقسام والتشتت وتبعثر الكتل النيابية في برلمان 2022 أصبح من الصعوبة للغاية تأمين النصاب وأغلبية الفوز لأي من المرشحين؛ الامر الذي يولّد استعصاءًا في انجاز الاستحقاق الرئاسي بالأخص في برلمان 2022، وفي كل استحقاق انتخابي رئاسي في ظل طبيعة وآلية المادة 49 من دون ان أكون أقصد وجوب تخفيض النصاب الذي يخلق هواجس عند العديد من الفئات في بلد متنوع طائفيًا وقائم على الديمقراطية التشاركية، ولكن تعقيدات المادة 49 دفعتني إلى اقتراح إيجاد الية توائم بين حفظ المقتضيات الميثاقية من جهة، وتأمين انتخاب سلسل من دون احتمال تعطيل نصاب وفراغ من جهة أخرى من خلال اللجوء إلى الانتخاب الشعبي المباشر لرئيس الجمهورية مع ضمانات ميثاقية من خلال وجوب إقرار المرشح للرئاسة ترشيحه بعريضة تأييد برلمانية مكونة من 50 نائبًا على الأقل موزعين مناصفة بين 25 نائب مسيحي و25 نائب مسلم، بحيث يتنافس على الانتخابات الرئاسية مباشرة من الشعب مرشحان فقط، لأن عدد النواب 128، والحد الأدنى المطلوب لعريضة الترشيح هو 50 ، وهذا يعني أن مرشحين فقط يستطيعان تأمين عريضة تأييد بـ 50 نائبًا ما بين 25 نائب مسيحي و25 نائب مسلم. وهذه الآلية تحقق الأهداف التالية:
أولًا ـ عندما يشترط وجود عريضة تأييد من 25 نائب مسيحي و25 نائب مسلم، فهذا الأمر يضمن أن أي مرشح هو ذو صفة تمثيلية مسيحية وإسلامية في آن واحد، ولا يهبط على المسلمين والمسحيين بالمظلة وبالتالي نكون ضمنًا في حالة فوز أي من هذين الاثنين، ولا خوف من أن يشعر أحد من المسيحيين والمسلمين بالغبن والاستهداف، أو الغربة عن هذا المرشح.
ثانيًا ـ بهذه الآلية نكون قد مارسنا الديمقراطية فعلًا، لأن الانتخاب في البرلمان ليس ديمقراطية؛ ففي وقت يختزل البرلمان 7، أو 8 أشخاص يأخذون النواب في هذا الاتجاه، أو ذاك، وبعضهم مرتبط بالسفارات، فهذا يعني أنه ليس انتخابًا وطنيًا سياديًا في الوقت الذي نريد أن نمارس الديمقراطية؛ فالشعب هو مصدر السلطات، والشعب يكون مصدر السلطات فعلًا عندما ينتخب هو الرئيس.
ثالثًا ـ بهذه الآلية نستبعد أي احتمال لتعطيل نصاب ووقوع فراغ، وهذا الامر يتكرر، ويؤدي إلى تهميش الرئاسة، واشعار الناس أنه لا حاجة دائمًا إلى الرئيس، وأن البلاد تسير ولو كانت عرجاء من دون رئيس، وهذا له تداعيات على النسيج الوطني والمقتضيات الميثاقية.
نحن اليوم أمام حل من اثنين إذا كنا نريد فعلًا الخروج من المأزق القائم، والناس تعبوا والأزمة الاقتصادية تستفحل؛ فإما أن يحدث توافق بين كتل قادرة على تأمين نصاب وفوز، وإما انتخابات رئاسية مهما كانت النتيجة. وأدعو حزب الله تحديدًا إلى الحرص على هواجسه ولكن توسيع دائرة الاحتمالات ضمن الاحتمالات التي تطمئن المقاومة وتضمن عدم الطعن بالمقاومة، ولكن التحجر والإصرار على خيار وحيد من دون إمكانية وصوله سيبقي الاستعصاء الرئاسي قائمًا الى وقت غير منظور في وقت يتوافد النازحون السوريون بعشرات الآلاف.
والمنطقة والعالم اليوم في مرحلة تحولات استراتيجية وكبرى، سواء على الصعيد الدولي من خلال مخاض التعددية القطبية بعدما انفردت الولايات المتحدة طويلًا بزعامة العالم؛ إذ نشهد اليوم بروز تعددية قطبية متصاعدة بدأت مع الربيع العربي المزعوم، و عندما وضعت روسيا والصين الفيتو المزدوج في مجلس الأمن الدولي ضد مشروع التدخل في سوريا كانت بداية بروز التعددية القطبية بعدما تفردت الولايات المتحدة الأميركية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990 بزعامة العالم وتحول مجلس الامن الدولي إلى دائرة من دوائر وزارة الخارجية الأميركية بالمعنى المجازي للكلمة.
كما نشهد اليوم مرحلة جديدة من مخاض التحول من خلال ما يحصل في أوكرانيا؛ فقد حزم الدب الروسي أمره برفض وجود شرفة للحلف الأطلسي على منزله، وأن يكون هناك نفوذ أميركي وغربي أمام الباحة الروسية من خلال أوكرانيا؛ وحاول الأميركي الرد على الصفعات التي يتلقاها في اوكرانيا من روسيا من خلال تحريك الساحة السورية، وتحريك بعض المظاهرات ضد النظام والحكم في سوريا الحليف الروسي، واعتقد أنه سيتصاعد، كما يحاول الأميركي الرد على الروسي في أكثر من مكان في العالم، في المقابل تحاول السعودية تهدئة الجبهات بغرض تحقيق مجموعة من الأهداف، والهدف الأول من الواضح أن الرياض تتجه بشيء من التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وبشائر ذلك حصلت بزيارة وزير سياحة العدو إلى السعودية وزيارة المسؤول السعودي إلى رام الله مرحلة بدأت تحت عنوان تنشيط عملية التسوية، أو تفعيلها؛ لذلك أعتقد أنه هناك حرص سعودي على تهدئة العلاقة مع ايران بغرض أن تمرّ عملية التطبيع بأقلّ ضجة ممكنة، في المقابل تبرز حاجة الجمهورية الإسلامية في ايران إلى تعزيز عوامل تحاشي أي فتنة سنية شيعية ؛فوجدت في المصالحة مع السعودية أداة من أجل تهدئة الأوضاع، والحد من احتمالات الفتنة السنية الشيعية؛ وبالتالي تهدئة الساحة الإسلامية، لذلك أعتقد أن ما يحصل سواء في اليمن، أو في سوريا يجب أن يُقرا من هذه الزوايا.
الأستاذ رياض عيد:
يعيش لبنان منذ نشأته أزمة بنيوية أنتجت أزمة سياسية ومالية واقتصادية، وأزمة هوية ودور تفجرت في صراعات مذهبية وطائفية وحروب أهلية؛ وقد دخل منذ زمن مرحلة اللاحلول، ولم تعد المنظومة الحاكمة التي نهبت البلد وأفلسته قادرة على أن تجدد لنفسها، وتعيد استنساخ التجارب والتسويات السابقة التي كانت تأتي نتاج لتسوية خارجية تنعكس تسوية داخلية. لكن الأخطر الآن أن الخارج الاقليمي والدولي الذي رعى التسويات تاريخيًا منقسم، لا بل يعيش حالة صراع في كل ساحات الأمة والعالم لتحسين مواقعه قبل التسوية الاقليمية التي دائما تضبط ايقاعها على التسوية الدولية، وتتحدد على نتائجها مواقع النفوذ في كل كيانات امتنا والعالم. ولبنان كواحد من هذه الكيانات تحول إلى ساحات طائفية مذهبية متنافرة تذكيها تدخلات خارجية متداخلة في أصل نظامه الطائفي والسياسي الذي تديره منظومة حاكمة تتألف من زعماء طوائف ورجال أعمال وأموال ومصارف وشركات احتكارية وعملاء متنفذون في أجهزة مخابرات وكلاء للخارج يستهدفون تفجيره في وجه المقاومة لتطويقها والضغط عليها اقتصاديًا بعد فشل كل أساليب الضغط الاخرى عبر:
ـ حرب تجويع وابادة تمثلت في حصار اقتصادي ومالي أفلس المصارف وبدد ودائع اللبنانيين، وطال لقمة عيش المواطن وأمنه الصحي والحياتي والاجتماعي.
ـ أزمة سياسية تتمظهر في انسداد الافق في وجه المنظومة الحاكمة التي باتت عاجزة عن إعادة انتاج تسوية داخلية تؤجل سقوط بنية هذا النظام المتهالك. فأركان هذا النظام الطائفي المقيت الذي بدأ بالتحلل عاجزون ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا عن إيجاد حلول جذرية لمشاكل الكهرباء، وآفات التلوث، والبنية التحتية المنهارة، والصحة البائسة، وتخلف المناهج التعليمية على كل مستوياتها، والليرة النافقة والمنهارة امام الدولار، ولم يحافظوا على مدخرات اللبنانيين، ورواتبهم المتآكلة، وعلى درجة بؤس معتدلة، والمؤسف أن اللبنانيين البؤساء فضلوا الاحتماء بطوائفه، على أن يشهروا قبضاتهم بالحد الادنى في وجه سارقي رغيف الخبز والليرة والدواء ومقومات الحياة من امامهم.
هذا اللبنان، منقسم بين معسكرين: معسكر المقاومة وحلفائها الذي يرى أن المقاومة مع الجيش هما درع لبنان الواقي الذي هزم الاحتلال الإسرائيلي، وأجبره على الانسحاب ذليلًا من الجنوب، وأقام توازن قوة وردع معه لمصلحة لبنان. والثاني معسكر ازلام سفارة عوكر الذي يشن حربًا شعواء على المقاومة وسلاحها بهدف شيطنتها، وتحميلها مسؤولية انهيار لبنان، وسحب سلاحها لتأمين مصالح أميركا وأمن دولة العدو اسرائيل.
هذان المعسكران يتنازعان لبنان مدججين بكل انواع الأسلحة. ينتظر حسم حروبهم الطاحنة، وهو المحتاج إلى لقمة لإطعام جيشه، ومنقسم في النظرة إلى هويته واستراتيجيته الدفاعية والاقتصادية، وترتيب اولوياته الملحة، ومنقسم بالنظرة إلى الصراعات الاقليمية والدولية، ومتطرف في نظراته المتناقضة إلى سوريا بوابته إلى أمته وعالمه العربي. وعاجز عن انجاز بطاقة تموينية وتمويلية، ولجم تحليق الليرة، وتامين الدواء والاوكسجين لمرضاه. ومنقسم حول الحياد داخليًا، والقضاء المحتوى والمباع منذ بداية تكوين لبنان، وعاجز عن لجم الفساد ووقف الهدر والسرقات.
لقد أعادت المنظومة الطائفية المالية الحاكمة والمتحكمة بمصير اللبنانيين استنساخ نفسها من خلال قوانين انتخابية تتعارض مع دستور الطائف أفرزت مجالس نيابية وحكومات ائتلافية طائفية سميت زورًا حكومات وحدة وطنية تعكس موازين القوى في المجلس النيابي، فهي إذا اتفقت تقاسمت اقتصاد البلد ونهبته، وإن اختلفت دمرته. مما انعكس سلبًا على اقتصاده المعتل بسبب اعتماده الاقتصاد الريعي بدل الاقتصاد الانتاجي، وعلى مؤسساته الخادمة للمنظومة الحاكمة ومصالحها.
وقد تفاقمت أزمة هذا النظام بعد سيطرة الحريرية السياسية والاقتصادية على الحكم بعد الطائف، واعتمدت سياسة المديونية التي يشجعها البنك الدولي وصندوق النقد لإغراق البلدان بالديون والفساد ليضع يده على اقتصادياتها بعد تخلفها عن السداد، ويخصخص قطاعاتها المنتجة. وهذا ما حصل في لبنان بعد رهان الرئيس الحريري على السلام الآتي إلى الشرق الاوسط بعد محادثات مدريد في تسعينيات القرن الماضي، ويمحو ديون لبنان بعد توطين الفلسطينيين. لكن مات سلامهم بعد اغتيال رابين. والمصيبة الكبرى أن الحريرية السياسية والاقتصادية استمرت في سياسة المديونية والهدر بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري؛ وبدل أن يمارس المجلس النيابي دوره في الرقابة والتشريع لصيانة المال العام وحقوق المواطنين سهل لها كل التشريعات لاستمراها في سياساتها المالية الخاطئة، مما أوصلنا إلى حالة الافلاس التي وصلنا اليها اليوم.
وفي ظل رفض المنظومة الحاكمة تطوير هذا النظام والاستجابة لمطالب الناس في التغيير، تفجرت انتفاضة 17 تشرين اول عام 2019 العابرة للطوائف والمناطق والعصبيات، وعمت كل المناطق اللبنانية تقريبًا، وانخرطت فيها قوى اجتماعية وثقافية ونقابية وسياسية تنادي بمروحة كبيرة من الشعارات تبدأ من لقمة العيش الى تغيير النظام. الا إن مسار الانتفاضة سرعان ما كشف في محطات أساسية أزمة المجموعات المشاركة فيها؛ اذ غاب عنها البرنامج الموحد للتغيير، والمرجعية القيادية، والمطالب الاساسية المعيشية. مما أتاح لبعض أطراف السلطة و (NGO) ركوبها وادعاء الانتساب إليها؛ مما انعكس مدًا وجزرًا في تحركاتها وفعاليتها. لكن الثغرة الأشد تأثيرًا واحباطًا كانت غياب التحديد الواضح للأولويات والمهام في المرحلة الراهنة الواجب تحقيقها، وغياب البعد الوطني عن الأولويات، وأدى اختلال موازين القوى داخل صفوف الانتفاضة إلى اضعاف التيار الوطني داخل الانتفاضة في مواجهة السلطة وحماتها. فلبنان ليس جزيرة معزولة عن عمقه القومي والعربي، ومفاعيل الصراع في محيطنا القومي تقرر مستقبل أمتنا والمنطقة للأجيال القادمة خاصة في ظل مشاريع التطبيع، وتصفية قضية فلسطين، وتآمر بعض أطراف النظام العربي مع أميركا والعدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية المحقة التي هي قضية الأمة جمعاء.
لذا كان على قوى الانتفاضة الشعبية في لبنان الاستفادة من قوى المقاومة القادرة على ردع العدو، ومنع هيمنة الغرب الاطلسي حامي المنظومة الحاكمة الفاسدة المتخذة من مصرف لبنان والمصارف والشركات الاحتكارية والمديونية العامة أدوات لإضعاف المقاومة للسيطرة على لبنان واستتباعه للغرب. من هنا فإن تعطيل هيمنة الغرب الاطلسي يعني اضعافًا لنظام التبعية السياسية والاقتصادية وشرطًا اساسيًا لتجاوزه وتغييره.
وعلى الرغم كل التجييش الطائفي والمذهبي، واذكاء لغة التحريض الفتنوي على المقاومة وسلاحها فقد مر الاستحقاق الانتخابي الاخير بهدوء مع بعض التجاوزات التي قد تحصل في أي انتخابات عادية. وخيضت هذه الانتخابات بعد انهيار مالي واقتصادي وسياسي سببته المنظومة الحاكمة، وبعد حصار مالي اقتصادي وتطويق سياسي فرضه المشروع الصهيواميركي الرجعي العربي لشيطنة المقاومة وتحميلها مسؤولية هذا الانهيار، لأنها عنصر القوة الوحيد الذي منع وقوع لبنان في مشروع التطبيع، واستباحة ثرواته الغازية بترسيم حدودي لمصلحة الكيان الغاصب. وخيضت الانتخابات بقانون انتخابي مشوه فرضته منظومة النهب الحاكمة لإعادة استنساخ نفسها بسبب تقسيم الدوائر الغير عادل على أساس المحافظات، وبصوت تفضيلي على أساس القضاء؛ مما جعل التنافس على الاصوات ضمن اللائحة الواحدة، وشراء الاصوات بالمال الانتخابي الذي فاق مئات ملايين الدولارات عن أي انتخابات أخرى. وأتت نتائج الانتخابات كما كنا نتوقع بحفظ الثنائي الشيعي على كتلته من دون أي خرق بسبب ماكينة حزب الله الانتخابية الكبيرة والمنظمة والمساعدات على انواعها التي أغدقها ليحفظ للمقاومة اللعبة الميثاقية، ويحصد مع حلفائه أكثرية 65 نائب تجسدت بفوز رئيس المجلس ونائبه وهيئة المجلس النيابي، ويحصد أغلبية أصوات تفضيلية تؤكد رجحان كبير للفارق لمصلحته على كتلتي التيار الوطني والقوات اللبنانية والحزب الاشتراكي مجتمعين. وبهذا أكد حزب الله حجم تمثيله الشعبي وثبات قوته على الرغم من الحرب الاقتصادية والسياسية التي خيضت ضده، وبات هو راعي التوازنات والتسويات والرقم الصعب الذي لا يمكن الا استرضاؤه في اعادة تشكيل السلطة.
لكن أي فريق في هذا المجلس لم يحسم أكثرية الثلثين لينجز الاستحقاق الرئاسي على الرغم من انعقاد 13 جلسة للمجلس النيابي لانتخاب الرئيس؛ لكنها فشلت كلها بسبب الانقسام السياسي ، وبات بحاجة الى حوار بين كتله دعا اليه الرئيس بري لإنجاز الاستحقاق الذي تعثر بسبب رفض فريق القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر وبعض التغييرين للحوار ،مما عطل انجاز الاستحقاق، وعطل اجراء التعيينات لحاكم مصرف لبنان ورئيس الأركان، وشمل الخلاف مجلس الوزراء وحدود تصريف الاعمال، مما ساهم في شل البلد المعتل وازداد تفاقم الازمة الاقتصادية الاجتماعية التي تنذر بانهيار شامل. وبات انجاز الاستحقاق بحاجة الى توفر عاملين غير متوفرين حتى الان:
الأول ـ توافق اقليمي يضغط على الداخل لإنجاز الاستحقاق، وهو غير متوفر حاليًا على الرغم من الاتفاق السعودي الايراني برعاية صينية الصامد على الرغم من الضغوط الأميركية على السعودية؛ فلبنان ليس أولوية على جدول أعمالها، والسعودية ليست مستعجلة للتدخل لإنجاز الحل في لبنان، ولا إيران أيضًا؛ فقد أعلنت أنها لن تتدخل في لبنان، تاركةً لحزب الله وللبنانيين انجاز الاستحقاق. ويبدو أن الانتظار الاقليمي سيطول حتى انهاء ملف اليمن السائر نحو الانفراج، ومن ثم يأتي دور العراق وسوريا ثم لبنان.
الثاني ـ لبننة الاستحقاق الذي يبدو أنه غير ممكن أيضًا بسبب رفع سقوف الفريق المعادي للمقاومة الذي يرفض أي رئيس يؤيد المقاومة، ويربط أجندته بأميركا التي تنظر إلى المنطقة كساحة صراع جيواستراتيجي بينها وبين روسيا والصين وإيران، وهي تضغط على المقاومة بالدفع لانهيار لبنان اقتصاديا بالعقوبات، وأزمة النازحين السوريين وضغط الامم المتحدة لتوطينهم ودمجهم بالمجتمع اللبناني بما تمثله من عبء اقتصادي وأمني وديمغرافي على لبنان لإشعال الحرب الاهلية وتاليًا إرباك المقاومة واستنزافها. وتضغط على سوريا بالعقوبات وإشعال الفتنة في السويداء (بتسييس التحرك المطلبي المحق) وشمال شرق سوريا بين الكرد والعشائر العربية وابقاء مشروع التقسيم والفدرلة مطروح في المنطقة من لبنان إلى سوريا والعراق لإرباك محور المقاومة وروسيا والصين. هذا في وقت تعاني فيه أميركا والاطلسي اخفاقات عسكرية كبيرة بدءًا من اوكرانيا إلى غرب افريقيا وصولًا إلى بحر الصين، فالصدام الدولي على أشده بين الغرب الانغلوساكسوتي المتمسك بنظام الاحادية القطبية المتداعي وقوى الشرق الناهض الممثلة (بروسيا والصين وإيران ودول شنغهاي والبريكس) لتثبيت نظام التعددية القطبية بعد سقوط النظام الاحادي.
وعلى الرغم من اجتماعات الخماسية الدولية المتكررة المؤلفة من السعودية وقطر ومصر وفرنسا وأميركا، وزيارات لودريان والمندوب القطري لإنجاز الاستحقاق، غير إن محاولاتهم لم تكلل بالنجاح، وما خروج اجتماع الجنة الأخير منذ أيام من دون بيان سوى دليل على فشل اللجنة؛ وذلك لأن التوافق الدولي والاقليمي لإنجاز الاستحقاق لم ينضج بعد؛ وأعتقد أن أميركا لا تريد اعطاء فرنسا والسعودية ورقة انجاز التسوية الرئاسية؛ بل تريد النجاح لقطر في هذه المهمة، ولو تم التوافق السعودي الايراني والاميركي الصيني الروسي لإنجاز الحلول الاقليمية والدولية لأنجز الاستحقاق والحل في لبنان خلال 24 ساعة؛ فأزمة لبنان متشابكة جذريًا بأزمات المنطقة، وخاصة القضية الفلسطينية والأزمة السورية ، كما أن الاستحقاق الرئاسي مرتبط بدور لبنان ووظيفته في الاقليم، فبعد أن غيرت المقاومة دور لبنان ووظيفته التي أنشئ من أجلها ـ أي بأن يكون شوكة في خاصرة سوريا ونقطة انطلاق للمشاريع الغربية إلى الشرق ـ بات بفضل المقاومة بندقية ناصرة لسوريا في الحرب الكونية التي خيضت ضدها ،وقدوة داعمة للمقاومة الفلسطينية في حربها مع الكيان الغاصب الذي يعيش أزمة وجودية بسبب انتصار المقاومة في حرب تموز، وتحول ميزان القوة والردع لصالح المقاومة . والحالمون بأنهم يستطيعون فرض رئيس لا يحمي ظهر المقاومة، ولا يكون صديقًا لسوريا هم واهمون؛ وبالتالي فالرئاسة مؤجلة حتى انجاز حلول المنطقة. وقد تحولت أعمال اللجنة الخماسية لتعبئة الوقت الضائع، وابقاء الأمل موجود بأن لبنان غير متروك لاقداره.
لقد تغير العالم، وأتمنى على اللبنانيين متابعة التغيرات التي تحدث في العالم، وستنعكس على لبنان والمنطقة، فمآلات الحرب في اوكرانيا تسير نحو انتصار ساحق لروسيا بعد فشل الهجوم الاوكراني المدعوم أميركيًا واطلسيًا عليها. وأوروبا ترزح تحت أزمة اقتصادية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. والاقتصاد الأميركي يعيش أسوأ أزماته بعد أن تجاوز الدين الأميركي 33.6 تريليون $ قبل أسبوع، والديون الأميركية تقفز بمقدار 100 مليار دولار أسبوعيًا؛ وهذا يعني وفقًا للموقع الاقتصادي "The Kobeissi Letter"أنّ 14.3 مليار دولار في اليوم أضيفت إلى ديون الولايات المتحدة خلال الأسبوع الماضي، ويضاف إليها نحو 3 مليارات دولار في اليوم من نفقات الفائدة، وهذا يعني ترتب ديون أكثر من 17 مليار دولار في اليوم. وبالتالي فإن أميركا ومؤسساتها مهدّدة بالشلل.. ورواتب ملايين الأميركيين ومخصصاتهم في خطر.
لقد الغرب بات غاربًا وشمس المستقبل آتية من الشرق. لذا أنصح المسؤولين اللبنانيين وأيتام السفارة الأميركية الذين ركبوا القارب الأميركي أثناء المد بالخروج منه سريعًا أثناء الجذر قبل الغرق مع أميركا السائرة حتمًا نحو الهاوية اقتصاديًا، مما سينعكس حكمًا على دورها ومكانتها الدولية. ومحور المقاومة هو من أسس لهذا الانتصار قبل انتقال المواجهة إلى اوكرانيا، والمنتصرون هم من يرسمون ترتيبات المستقبل.
وتمثل زيارة الرئيس الاسد إلى الصين في طائرة رئاسية صينية خاصة منعطفًا في مسار الازمة السورية، وتحدٍ كبير للغرب وكسرٍ للحصار وبدء تعافي سوريا، واعلان الرئيس الصيني ارتقاء الشراكة الصينية السورية إلى شراكة استراتيجية شاملة، ومساهمة الصين في إعمار سوريا وتحديث اقتصادها مؤشر بأن سوريا باتت في صميم الأمن الاقتصادي والتجاري الصيني. كما أن اكمال وصلة سكك حديد الطريق والحزام الصينية من إيران والعراق وإلى سوريا قريبًا قبل البدء بالممر التجاري الهندي الاماراتي السعودي مع الكيان الغاصب واوروبا يعني أن السباق على خطوط التجارة الدولية على أشده بين الصين وأميركا. فضلًا عن أن ميناء اللاذقية لا يكفي لخدمة حاويات قارة آسيا؛ لذا فموانئ لبنان ستكمل المهمة. وهذا يعني أن اتجاه لبنان نحو الشرق وسوريا التي هي بوابته إلى أمته والعالم العربي هي المخرج الاقتصادي للبنان، طبعًا بعد الاكتشافات الغازية المؤكدة ستكون أيضًا قبلة نجاة الاقتصاد اللبناني، هذا قد يغير وجه لبنان ويؤسس لتعافي لبنان اقتصاديًا مع اكتشافات الغار المتوقعة كي لا يبقى يستجدي التسول من دول الخليج.
لذا أعتقد أنه وعلى الرغم من أهمية انجاز الاستحقاق الرئاسي لانتشال مؤسسات الدولة المتداعية ، غير أنه من المهم أيضًا أن يتفق اللبنانيون على أي لبنان نريد بعد انهيار مزرعة الطوائف والمحاصصة والفساد ، والانتقال إلى دولة المواطنة والاصلاح السياسي عبر قانون انتخاب نسبي خارج القيد الطائفي يكون لبنان دائرة واحدة لإنتاج طبقة سياسية جديدة، واعتماد الاقتصاد الانتاجي بدل الاقتصاد الريعي، وتكامل لبنان مع محيطه الطبيعي والاتجاه شرقًا بالاشتراك في السوق المشرقية المشتركة وطريق الحرير التي تؤمن الاستثمار لتامين المنفعة المشتركة للجميع.
والمطلوب من المقاومة التي حمت لبنان، وأمّنت عناصر القوة له مع حلفائها حسم خيارات لبنان السياسة والاقتصادية هذه ليأتي الاستحقاق الرئاسي تتويجًا لهذه الخيارات، خاصة أن أميركا والغرب الانغلوساكسوني برمته ـ على الرغم من الصراع الكبير وارتباط أزمة لبنان بأزمات المنطقة ـ لم يعد قادرًا على فرض أجندته على العالم، وخاصة على منطقة غرب آسيا، طبعًا يستطيع أن يعرقل بعض الحلول لكن مسيرة الحلول الصينية - الروسية قائمة. وأؤكد أن العالم قد تغير ونظام الأحادية القطبية قد سقط والعالم يسير في اتجاه نظام عالمي جديد تؤسس في بنائه دول الشرق المناهض روسيا والصين وإيران ودول البريكس، وهذه التسويات الكبرى ستشمل المنطقة،والولايات المتحدة لم تعد قادرة على الاستمرار في هذه الصراعات، وعليها وفق الكثير من الاستراتيجيين الأميركيين أن تقبل بميزان التعددية القطبية، هي لا تزال قوة كبيرة في العالم لكنها لم تعد القوة الوحيدة القادرة على فرض سيطرتها على كل مناطق الصراع في العالم، ومنطقة غرب اسيا هي باتت قلب الصراع في العالم ومن اهم مناطق الصدام الجيوبوليتكي القائم حاليًا؛ والمراهنون على ارباك حزب الله بإطالة أمد الفراغ واهمون، لأن التسوية الإقليمية حكمًا ستأتي لمصلحة المقاومة ومحورها، لأن المنتصرون في المنطقة وهم حزب الله ومحور المقاومة سيرسمون سياسات المستقبل ومناطق النفوذ في المنطقة؛ لذلك أعتقد أن المستقبل مشرق وليس قاتمًا، وأجزم أن رئيس لبنان سيكون مرتبطًا بالاتفاق على دور لبنان في الإقليم تحديدًا وخياراته المستقبلية واتجاهه نحو الشرق مع عدم ترك العلاقة مع الغرب التي تؤمن مصالح لبنان.
لقد أدت المقاومة وظيفتها وقسطها، وأكدت مفهوم السيادة، لكن المطلوب من الأحزاب الحليفة للمقاومة والشخصيات المثقفة وقوى الرأي التي تؤمن بعروبة لبنان ومقاومته أن تحاول أن تقيم جبهة وطنية للإنقاذ تطرح مشروع حل سياسي للبنان يتوافق مع الإنجازات التي حققتها المقاومة، وأهم انجاز حققته المقاومة هو تغيير وظيفة لبنان، وأقامت توازن رعب وردع لمصلحة لبنان وأجبرت الاحتلال أن ينسحب مذلولًا من لبنان.
واعتبر أن ترتيبات سايكس بيكو التي بدأت منذ 2017 حتى الآن لم تستطيع أن تقيم نظامًا عربيًا قادرًا على مواجهة الكيان الغاصب وقوى الاستعمار التي زرعت هذا الكيان كموقع متقدم لها في منطقتنا، والسؤال المطروح: إذا كانت اميركا وحلفاؤها لم تعد متمسكة بسايكس بيكو وطرحت شرق أوسط جديد لتقسيم المقسم، وبعد فشل هذا الطرح فهل سنعود الى سايكس بيكو؟، أم سنعود إلى ما قبل سايكس بيكو، خاصة أن العالم يتجه نحو تكتلات قومية وما فوق القومية.
في سوريا والعراق ولبنان الشعب تربى على الوطنية ورفض الاستعمار والهيمنة، والمطلوب إعطاء مساحة حرية كي نقيم السوق المشرقية المشتركة، ونقيم التبادل بين هذه السوق المشرقية المشتركة بالعملات المحلية كي نفقد هيمنة أميركا وسيطرة الدولار في الحد الأدنى إن لم نستطع أن نسقط سايكس بيكو، وهذه الأمور برسم القوى الحية والمثقفين ان تأخذ بها في ترتيبات المستقبل بعد أن تدخل المنطقة في الترتيبات.
هناك فكرة واحدة تتمحور حول كل القضايا العالقة هي: المقاومة. هنا استذكر حديث السفير جوني عبدو الذي كان معروفًا بقربه من الأميركيين؛ فقد قال: لو لم يكن لدينا المقاومة الفلسطينية في لبنان لما تكلمت الولايات المتحدة معنا، والفكرة كمقاومة التي كانت موجودة على الأرض آنذاك بغض النظر عن الإخفاقات والايجابيات التي قدمتها المقاومة الفلسطينية، ولكن الغرب لما كان تعاطى مع لبنان إلا بسبب وجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وبالتالي ان لم تكن موجودًا وقويًا فلن يتفاوض معك لا الأميركي، ولا الإسرائيلي، بدليل ان الإسرائيلي وصل الى انطلياس.
بعد مفاوضات ترسيم الحدود البحرية يُحكى اليوم عن مفاوضات ترسيم الحدود البرية، فلو لم تكن المقاومة موجودة لما استطاع لبنان تحصيل حقه، فلا يمكننا الاعتماد على الطبقة السياسية المطواعة للغرب. ويجب أن نراقب الممارسات المتصلة في الشأن الاستراتيجي، والمسألة الأولى هي قضية المقاومة.
السيد حسن نصرالله يقول في أحد خطاباته أن الطائفة السنية أساتذتنا في المقاومة، وبعد ظهور الحريرية السياسية نتج تغيير في الشارع السني، وتغيير في الخطاب؛ وعندما تؤمن بيئة معادية للمقاومة في قلب شارع عروبي في الأساس، وأول من خاض المعارك ضد إسرائيل إلى جانب باقي المكونات اللبنانية، لكن اليوم تأمنت بيئة حاضنة للعمالة مع إسرائيل.
موضوع دمج النازحين في لبنان، "الادامي" فيهم باله ان يعمل، ولكن هناك محاولة لتغيير الديمغرافيا اللبنانية وادخال مجتمع جديد إذا "كتير ادامي" باله في عمله، وبالتالي هناك تغيير في المنطقة وتغيير في ثقافة المنطقة. وكل المراحل السابقة في لبنان هي امتداد للمرحلة الحالية، وعلينا ربط الأمور ببعضها البعض.
يجاهر الفريق الخصم للمقاومة علنًا أنه أسقط مشروع حزب الله في الرئاسة وبالتالي الحرب على المقاومة، والسؤال: هل هم قادرون على فرض رئيس من دون موافقة المقاومة عليه؟، بالتأكيد لا. ولا أحد قادر على الحسم وتسمية رئيس للجمهورية. ولنفترض أن فريق المقاومة قادر على فرض رئيس غير أننا اليوم وسط انهيار اقتصادي وليس كجو العام 2016، نحن اليوم في انهيار اقتصادي والدولار وصل لحدود الـ 150 ألف وهناك بيئة تعبت، وسمعتها من مرجع نيابي بأن هذا المجلس النيابي لن يستطيع ان ينتخب رئيس جمهورية للأسف.
حاول الفرنسي انجاز سياسة متوازنة، ولم يستطع، واليوم جاء القطري، لكن محاولته في اعتقادي مجرد دعاية إعلامية لا أكثر ولا أقل، فهناك ظروف كثيرة قد تبدلت.
الجو الذي قد يؤدي إلى انتخاب رئيس جمهورية هو تسليم الافرقاء اللبنانيين بأن أحدًا لا يستطيع فرض رئيس على الآخر، وأنه يجب تحقيق التقارب والتفاهم على اسم معين لرئاسة الجمهورية، وبغير ذلك فالأزمة ستطول، وسنصادق على رأي المرجع النيابي إن هذا المجلس النيابي لن ينتخب رئيسًا. والتدخل الدولي غير غائب عن لبنان، وإن لم يستطع انهاء أزمة الشغور الرئاسي، لأنه لدى لبنان عناصر قوة. والحرب قائمة اليوم على المقاومة وعلى المحور، وفرض تغيير ديمغرافي، ومحاولة تغيير مجلس النواب، وشيطنة المقاومة وحلفائها؛ ولذلك يجب أن نركز على القضايا الرئيسة العالقة.